شكل التوصل إلى “الاتفاق الإطاري الثاني” بين حماس وإسرائيل في باريس في الأسبوع الثالث من شهر فبراير (شباط ) الماضي، نقطة البداية لطريق طويل، وتفاصيل معقدة، من أجل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في قطاع غزة. ومنذ ذلك الوقت تعددت اللقاءات بين الوسطاء الثلاثة (مصر وقطر والولايات المتحدة)؛ من أجل تحقيق اختراق يكفل وقف إطلاق النار، ووقف المجازر الإسرائيلية بحق 2.2 مليون فلسطيني في قطاع غزة، وبين القاهرة والدوحة جرت المفاوضات المكوكية من أجل التوصل إلى هذا الهدف، وتعززت الآمال بمقترح الرئيس الأمريكي جو بايدن في 31 مايو (أيار) الماضي، الذي صدر في شكل قرار من مجلس الأمن حمل رقم 2735، لكن هذا المقترح لم يكن كافيًا لوقف الحرب رغم قبول حماس وتل أبيب بقرار مجلس الأمن؛ ولهذا بدأت سلسلة من الجولات التفاوضية تحت عنوان “سد الفجوات” بين طرفي الحرب.
هذه الأيام تتواصل الجهود المصرية القطرية من أجل ابتكار صيغة جديدة تحقق الأولويات الفلسطينية والعربية، وهي وقف إطلاق النار، وخروج إسرائيل من كل قطاع غزة، ودخول المساعدات الإنسانية بكميات كافية تمهيدًا لإعادة الإعمار، وبناء أفق سياسي يفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، ويراهن الوسطاء الثلاثة في هذه الأيام على تحقيق اختراق كبير بشأن “القضايا العالقة”، و”الفجوات الكبيرة” التي ما زالت قائمة. وتتناول المفاوضات 10 ملفات رئيسة هي:
أولًا: الانسحاب من محور صلاح الدين (فيلادلفيا)
بات الحديث عن محور صلاح الدين (فيلادلفيا) القضية الرئيسة خلال الساعات الماضية، وذلك بسبب تأكيد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قبول إسرائيل مبدأ الخروج من محور فيلادلفيا بعد المراحل الثلاث التي جاءت في القرار 2735، والتي تصل إلى نحو 135 يومًا، على أن تخرج إسرائيل في المرحلة الأولى من الاتفاق إلى شرق محور صلاح الدين الذي يصل طوله إلى نحو 14.5 كم من البحر الأبيض المتوسط شمالًا حتى معبر كرم أبو سالم جنوبًا، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي نسف كل تصريحات وزير الخارجية الأمريكي عندما قال إنه لا يرفض فقط الانسحاب من محور صلاح الدين (فيلادلفيا)؛ بل يعتبره أحد الأصول الإستراتيجية الإسرائيلية، وردت مصر على ذلك بأنها لن تقبل أقل من الانسحاب الإسرائيلي الكامل من معبر رفح على الجانب الفلسطيني، ومحور صلاح الدين (فيلادلفيا). ووفق ما نقل موقع أكسيوس الأمريكي فإن إسرائيل حاولت إقناع مصر ببقاء جزء من الجيش الإسرائيلي في محور صلاح الدين (فيلادلفيا) عندما عرضت تل أبيب خريطة بالأقمار الصناعية تظهر تراجع عدد الجيش الإسرائيلي وعتاده في محور فيلادلفيا، لكن موقف مصر واضح، ويقوم على ضرورة أن يوجد الفلسطينيون فقط على الجانب الفلسطيني من معبر رفح ومحور فيلادلفيا، وأنه يمكن العودة إلى “اتفاق المعابر” في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، الذي كانت توجد فيه عناصر من السلطة الوطنية الفلسطينية في معبر رفح ومحور فيلادلفيا، ويقوم الموقف المصري على حجة قانونية دامغة باعتبار أن محور “فيلادلفيا” ضمن المناطق منزوعة السلاح في اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية التي وقعها الطرفان عام 1979.
ثانيًا: محور نتساريم (وادي غزة)
وهو الوادي الذي يفصل بين 19 كم في شمال قطاع غزة، و21 كم في وسط القطاع وجنوبه. ورغم تبني المقترح الأمريكي بانسحاب إسرائيل من محور “نتساريم”، يصر نتنياهو على البقاء فيه لتظل القوات الإسرائيلية تراقب شمال القطاع وجنوبه من نقطة المنتصف، مع مراقبة أي مساعدات إنسانية تتجه من الجنوب والوسط إلى محافظتي غزة وشمال غزة.
ثالثًا: رفض نقل معبر رفح
ترفض حماس رفضًا قاطعًا نقل معبر رفح من مكانه الحالي إلى منطقة بالقرب من معبر كرم أبو سالم، ومنذ سيطرة إسرائيل على معبر رفح من الجانب الفلسطيني في مايو (أيار) الماضي، تروج لضرورة نقل المعبر من مكانه الحالي إلى مكان آخر، وهدفها السيطرة على حركة مرور الفلسطينيين، لكن أمام صلابة الموقف الفلسطيني دعت الولايات المتحدة إسرائيل إلى إبداء مرونة في هذا الملف.
رابعًا: تخفيض القوات.. أو قوات أممية
مع رفض مصر والشعب الفلسطيني بكل طوائفه بقاء الجيش الإسرائيلي في رفح، ومحور صلاح الدين (فيلادلفيا)، ومحور “نتساريم”، عرضت الولايات المتحدة فكرة إرسال قوات أممية أو أوروبية لمدة 6 شهور بدلًا من الجنود الإسرائيليين، وبات هذا المقترح على طاولة المفاوضات بين حماس وإسرائيل، ويشبه هذا الطرح فكرة “المراقبيين الأوروبيين” الذين عملوا فترة قصيرة في معبر رفح على الجانب الفلسطيني، كجزء من “اتفاق المعابر” عام 2005، لكن دورهم انتهى بسيطرة حماس على القطاع عام 2007.
خامسًا: آلية المراقبة
وهي عقبة من العقبات الكثيرة التي يضعها نتنياهو، فهو يشترط وجود “آلية مراقبة عسكرية” يفرز من خلالها السكان في طريق عودتهم من جنوب القطاع ووسطه إلى الشمال، حتى لا يعود مسلحو حماس- كما يدعي- من خان يونس، ودير البلح في الوسط، ورفح في الجنوب، إلى شمال القطاع، وترفض حماس هذا الشرط، وتطالب بعدم وجود أي حواجز أمام عودة السكان إلى الشمال؛ ولهذا وضعت الولايات المتحدة “لغمًا” في هذه القضية عندما قالت إنها تؤيد عدم وجود آلية تحدّ حركة السكان في القطاع، لكن في حال عودة مسلحي حماس إلى شمال القطاع يكون من حق إسرائيل استئناف الحرب، وهذا أمر ترفضه حماس حتى اللحظة.
سادسًا: ضمانات وقف إطلاق النار
هناك تخوف رئيس لدى حماس بأن إسرائيل سوف تلتزم فقط “بالمرحلة الأولى”، التي تستمر 6 أسابيع فقط من إجمالي 18 أسبوعًا للمراحل الثلاث التي يتكون منها المقترح الأمريكي، وسعى الوسطاء إلى إيجاد صيغة تضمن التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار في المراحل الثلاث، من خلال تأكيد التزام طرفي الحرب بوقف إطلاق النار “خلال المفاوضات” بين المرحلتين الأولى والثانية للاتفاق على تفاصيل المرحلة الثانية، وأن وقف إطلاق النار يجب أن يكون ساريًا ما دامت “مفاوضات المرحلة الثانية” لم تنهَر؛ ولهذا تطلب حماس “ضمانات مكتوبة” من الولايات المتحدة بهذا الشأن، لكن الوسيط الأمريكي الذي ظل يرفض وقف إطلاق النار لأكثر من 8 شهور من الحرب، لا يزال يرفض تقديم أي ضمانات باستمرار وقف إطلاق النار في المراحل الثلاث التي تضم 18 أسبوعًا.
سابعًا: “فيتو” على الأسرى
تحتل قضية الأسرى مكانًا بارزًا في المفاوضات بين حماس وإسرائيل، ولا تزال إسرائيل تضع “فيتو” على بعض أسماء الأسرى، وهذا الأمر ترفضه حماس رفضًا تامًّا، لكن الوسطاء يسعون إلى “سد الثغرات” في هذه القضية من خلال وضع معايير واضحة، مثل عدد الأسرى الذين سيُفرَج عنهم مقابل كل عسكري أو مدني إسرائيلي لدى حماس، وتحديد عدد من سيُفرج عنهم من أصحاب المحكوميات العالية، وتسعى حماس أن يكون الإفراج عن الأسرى “بصبغة وطنية”، و”ليست فصائلية”، بمعنى أنها تريد الإفراج عن قيادات من فصائل أخرى غير حماس، مثل القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي.
ثامنًا: أصدقاء السنوار
نجحت مصر في إنجاز صفقة الجندي جلعاد شاليط عام 2011، التي تضمنت الإفراج عن نحو 1100 أسير فلسطيني مقابل الجندي جلعاد شاليط، وكان من بين المفرج عنهم يحيى السنوار، زعيم حماس الحالي، وعشرات ممن كانوا معه في السجن 20 عامًا، لكن بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أعادت إسرائيل اعتقال أصدقاء السنوار، مع أنهم لم يرتكبوا أي عمل مقاوم خلال هذه الفترة، وتصر حماس على الإفراج عن هؤلاء. ووفق مصادر أمريكية وإسرائيلية متطابقة، فإن إسرائيل باتت مستعدة للإفراج عن نحو 47 أسيرًا من هؤلاء، في حين تقول حماس إنها تريد الإفرج على أكثر من 100 من هؤلاء. ووفق هذا المقترح، فإن إطلاق سراح “أصدقاء السنوار” يمكن أن يكون مقابل تسليم حماس جثث الإسرائيليين الذين لديها.
تاسعًا: سيناريو بانكوك
ويقول إن إسرائيل على استعداد للسماح بخروج قادة حماس إلى خارج القطاع، وهو سيناريو حدث بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل نحو 51 عامًا، عندما استولى أعضاء جماعة “أيلول الأسود” التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، في 28 ديسمبر (كانون الأول) 1972 على السفارة الإسرائيلية في بانكوك بتايلاند، وقتلوا عددًا من الإسرائيليين، وهددوا بقتل مزيد من الإسرائيليين في حالة عدم الاستجابة لمطالبهم بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين المحتجزين في إسرائيل. وبعد مفاوضات دامت 19 ساعة، أُقنِعَ الخاطفون أنهم أنجزوا مهمتهم بعد أن جذبوا انتباه العالم إلى قضيتهم. وفي مقابل نقلهم جوًّا إلى خارج البلاد أحياء، وافق الخاطفون على تحرير الأسرى، في صفقة عُرفت باسم “سيناريو بانكوك”، وتتشدد إسرائيل في هذا المطلب، حيث تنظر إلى طرد بعض قادة حماس من القطاع على أنه أمر يحقق هدفها بعدم عودة حماس إلى الحكم مرة أخرى.
عاشرًا: المنطقة العازلة
الملف الذي يتعلق بمستقبل قطاع غزة، وتصر عليه إسرائيل، هو هدم الجيش الإسرائيلي كل البيوت والمؤسسات الفلسطينية بالقرب من حدود قطاع غزة مع إسرائيل، وهدف تل أبيب من هذا الأمر واضح؛ وهو إنشاء “منطقة عازلة” داخل القطاع لإقناع نحو 55 ألف إسرائيلي من سكان غلاف غزة بالعودة إلى بيوتهم التي هجروها منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتشكل هذه الخطوة الإسرائيلية تحديًا كبيرًا لمستقبل السكان في القطاع؛ لأن استقطاع كيلو متر واحد في عمق القطاع بطول الحدود الإسرائيلية مع قطاع غزة، التي تبلغ 60 كم، معناها أن مساحة قطاع غزة سوف تتقلص من 360 كم الى 300 كم فقط، وهو ما يشكل معاناة جديدة للشعب الفلسطيني في القطاع. ورغم رفض حماس، وإعلان واشنطن أكثر من مرة أنها ضد بقاء أو احتلال إسرائيل لأي جزء من قطاع غزة، فإن صور الأقمار الصناعية كشفت أن إسرائيل بدأت بالفعل في التمهيد لبناء “المنطقة العازلة” على طول غلاف غزة مع إسرائيل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.