ماذا تريد إسرائيل من جنوب سوريا؟ تارة تقول إن نشاطها داخل الأراضي السورية يهدف إلى حماية الجبهة الشمالية، وعدم تكرار ما جرى في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 من الجانب السوري، وتارة ثانية تقول إن هدفها هو حماية الأقليات، وخاصةً الأقليات التي لها امتداد داخل إسرائيل، مثل الموحدين الدروز، وتارة ثالثة تعلن أن هدفها هو قطع الطريق على أي مساعدات عسكرية إيرانية لدعم المقاومة في جنوب لبنان وسوريا من خلال وصول هذه المساعدات من إيران والعراق وصولًا إلى منطقة “البادية السورية” التي ترتبط شرقًا بالقواعد الأمريكية في شرق الفرات، و”قاعدة التنف” عند الحدود العراقية السورية الأردنية، لكن المدقق في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين والمناطق التي وصلت إليها “أقدام الجنود الإسرائيليين” في محافظات درعا والسويداء والجولان وريف دمشق الجنوبي يتأكد له بوضوح أن لتل أبيب أهدافًا أخرى وبعيدة تمامًا عن حماية الدروز والأقليات، فإسرائيل نفسها تعامل الدروز الإسرائيليين بوصفهم “مواطنين من الدرجة الثانية”، وقد اعترض دروز إسرائيل، الذين يسكنون في هضبة الجولان وقرية مجدل شمس، على معاملة الحكومة لهم طوال السنوات الماضية، وهو ما دفعهم إلى رفض الحصول على الجنسية الإسرائيلية منذ ضم إسرائيل للجولان عام 1982. ولا يمكن لإسرائيل أن تدعي أن لها تاريخًا في حماية الأقليات في ظل العنصرية الواضحة التي يعانيها يهود الفلاشا الأفارقة، واليهود الشرقيون والعرب الذين يعانون تمييزًا واضحًا ضدهم في جميع مناحي الحياة داخل إسرائيل، فكل المؤشرات تقول بعدم وجود أي خطر أو مقاومة تهدد شمال إسرائيل من الجانب السوري. لكل ذلك، هناك 10 أهداف إسرائيلية أخرى في الجنوب السوري لا تفصح عنها تل أبيب، وتشكل هذه الأهداف خطرًا ليس فقط على سوريا ولبنان والمشرق العربي؛ بل على كل المنطقة العربية، وإقليم الشرق الأوسط. وهذه الأهداف هي:
أولًا- جبل الشيخ ومراقبة 5 دول
بعد سقوط نظام الأسد مباشرة في 8 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، سيطرت إسرائيل على جبل الشيخ الذي يطلق عليه في إسرائيل “جبل حرمون”، والذي يمكن من خلاله رؤية العاصمة دمشق، ويبعد عن شمال إسرائيل نحو 15 كم، وعن دمشق 40 كم فقط، ويرتفع إلى نحو 2814 مترًا فوق سطح البحر؛ لذلك بنت تل أبيب “قاعدة عسكرية للإنذار المبكر” فوق جبل الشيخ بهدف مراقبة 5 دول، هي سوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، وشمال فلسطين، حيث يتيح الموقع الجيوسياسي لجبل الشيخ رؤية كاملة ومراقبة دقيقة لكل التفاعلات العملياتية والعسكرية على الأرض في هذه الدول، وهو ما يمنح الجيش الإسرائيلي مكاسب إستراتيجية في كل دول المشرق العربي، وهو حلم كانت إسرائيل تحلم به منذ حرب 5 يونيو (حزيران) 1967، حيث سيطرت عليه القوات الإسرائيلية بعد حرب 1967، لكن القوات السورية استعادته من جديد في حرب 1973. وتطلق إسرائيل على جبل الشيخ “عيون الأمة”؛ لأن ارتفاعه يجعله مكانًا استراتيجيًّا لوضع نظام الإنذار المبكر الإستراتيجي الأساسي لإسرائيل. ويشرف هذا الجبل على سهل البقاع في لبنان، وهو ما يوفر لإسرائيل الفرصة الكاملة لمراقبة ما تقوله عن تهريب السلاح من سوريا لحزب الله في لبنان عن طريق سهل البقاع. وينظر المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية بنظرة خاصة إلى جبل الشيخ، ويرونه جزءًا من إسرائيل الكبرى؛ لأنه ذُكِرَ في التوراة نحو 70 مرة تحت اسم “جبل حرمون”، الذي يعني الحرم، أو المكان المقدس.
ثانيًا- ممر داود
تسعى إسرائيل إلى إعادة رسم المسرح الجيوسياسي في كل المشرق العربي عن طريق “ممر داود” الذي يبدأ من جنوب لبنان والبحر الأبيض المتوسط وصولًا إلى كردستان العراق شرقًا، مرورًا بمحافظات القنيطرة ودرعا والسويداء والبادية السورية، وشمال العراق، وهو ما يضمن بناء حزام أمني يحفظ أمن إسرائيل على المدى البعيد، ويحفظ بقاءها بعيدًا عن السردية التاريخية، “واللعنة القديمة” التي تقول إن أي دولة يهودية ينتهي بها المطاف بعد 80 عامًا من قيامها. والهدف من كل ذلك تعزيز المفهوم الإسرائيلي الذي يعرف بـ”إستراتيجية الأطراف”، حيث تعمل إسرائيل على “كسب ولاءات” في المناطق الحدودية البعيدة عن المراكز السياسية، لا سيما بين المكونات المحلية، مثل الدروز في الجنوب السوري، والعشائر في الشرق السوري وغرب العراق، بما يسهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي والديموغرافي للمنطقة. وتعمل إسرائيل على تحقيق هذا الهدف من خلال عدة أدوات، منها العمليات العسكرية المحدودة، والتغلغل الاستخباراتي، والضغوط الاقتصادية، والتحالفات المحلية، بما يمهد لتحويل الجنوب السوري إلى منطقة نفوذ خاصة بها؛ ولهذا أصرت إسرائيل على البقاء في الجنوب السوري عقب حرب عام 1973 من خلال “اتفاقية فض الاشتباك” عام 1974. وطوال فترة الحرب الأهلية السورية التي اندلعت منذ مارس (آذار) 2011، وجدت إسرائيل فرصة جديدة للتوسع في الجنوب السوري عن طريق تقديم الدعم الاستخباراتي للمجموعات المسلحة في جنوب سوريا، خاصة في درعا والسويداء، وكانت تقوم بنحو 250 غارة جوية سنويًّا على سوريا في الفترة من 2011 حتى 2024، وهو ما يقول إن “ممر داود” ليس مجرد مشروع آني؛ بل هو جزء من إستراتيجية طويلة الأمد بدأ تنفيذها منذ عقود، وتسعى إسرائيل الآن إلى استغلال الظروف الجديدة لتحويله إلى واقع على الأرض.
ثالثًا- قواعد عسكرية
على مدار الشهور السبعة الأخيرة، استطاعت إسرائيل أن تبني 9 مواقع عسكرية في العمق السوري، وهو ما يوفر لإسرائيل بنية تحتية عسكرية ليس فقط لتفكيك أي مجموعات عسكرية يمكن أن تعمل ضد إسرائيل في المستقبل، بل تؤكد إسرائيل من خلال هذا الوجود العسكري الكبير أنها سوف تمنع أي قوة عسكرية إقليمية يمكن أن يكون لها وجود في سوريا في ظل الحسابات الإسرائيلية التي تقول إن الولايات المتحدة يمكن أن تنسحب من سوريا خلال العام المقبل.
رابعًا- منطقة عازلة منزوعة السلاح
الهدف الإستراتيجي للوجود والتعمق الإسرائيلي في جغرافيا الجنوب السوري هو بناء منطقة عازلة، فهاجس أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 لا يزال يلاحق الإسرائيليين؛ ولهذا تعمل الفرق الإسرائيلية على مدار الساعة على تفكيك أي بنية عسكرية، بما فيها تفكيك أي أصول يمكن توظيفها عسكريًّا في المستقبل ضد إسرائيل. كما أن القبض على السكان واستجوابهم في جنوب سوريا يوفر لتل أبيب معلومات استخباراتية عن المجموعات التي يمكن أن تشكل خطرًا على إسرائيل في المستقبل. وفي سبيل تحصين المنطقة العازلة، تعمل إسرائيل على إحلال وتبديل للسكان في الجنوب السوري حتى لا يكون السكان في تلك المنطقة “حاضنة شعبية” لأي مقاومة أو معارضة للوجود الإسرائيلي في المستقبل.
خامسًا- صوفا 53
خلال الشهور السبعة الماضية، عملت إسرائيل بسرعة على إنجاز مشروع “صوفا 53″، ووضعت له إطارًا زمنيًّا لا يزيد على نهاية العام المقبل. ويتركز العمل في مشروع “صوفا 53” -على نحو رئيس- على محافظة القنيطرة، ويضم مناطق أم العظام، والقحطانية، والحميدية، وجباتا الخشب؛ بهدف إنشاء طريق عسكري يربط القواعد العسكرية الإسرائيلية في جنوب سوريا من الشرق إلى الغرب حتى الحدود السورية مع العراق، وهو طريق وفق معايير الطرق الحربية الإسرائيلية، حيث يحاط بخنادق وسواتر ترابية بارتفاع من 5 إلى 7 أمتار، بما يضمن حرية حركة الآليات العسكرية والوحدات القتالية الإسرائيلية ضمن الأراضي السورية، بعد أن ثبتت القوات الإسرائيلية لافتة مؤرخة بتاريخ 8 يناير (كانون الثاني) 2022 كتب عليها عبارة “طريق صوفا 53 منطقة محظورة”. ويمتد هذا المشروع على نحو موازٍ لخط فك الاشتباك الموقع عام 1974 بين دمشق وتل أبيب.
سادسًا- الضفة الغربية
تشكل السيطرة الإسرائيلية على الجنوب السوري، وتحديدًا في درعا والسويداء، حماية خاصة لشمال الضفة الغربية، ففي الوقت الحالي، تعد الضفة الغربية على الحدود الدولية لإسرائيل التي ينبغي لتل أبيب أن تتخلى عنها، خاصة منطقة الأغوار ضمن حل الدولتين، لكن السيطرة الإسرائيلية على جنوب سوريا، بما فيه جبل الشيخ الذي يشرف على بحيرة طبرية، ويمدها بالمياه، فإن الضفة الغربية باتت أقرب إلى المناطق الداخلية في إسرائيل، وليس على الحدود. فوفق “ممر داود”، ومشروع “صوفا 53″، والمنطقة العازلة، فإن إسرائيل ذهبت بحدودها الدولية والإستراتيجية بعيدًا، بما يجعل التخلي عن الضفة الغربية أكثر صعوبة وفق الحسابات الإسرائيلية. كما تفكر إسرائيل في نقل جزء من سكان جنوب سوريا للضفة الغربية، وتهجير جزء من سكان الضفة وغزة إلى جنوب سوريا عندما يستقر لها الأمر في الجنوب السوري.
سابعًا- المعادلات الإقليمية
تعمل إسرائيل على توظيف سيطرتها على الجنوب السوري بوصفها ورقة مساومة في المفاوضات الإقليمية فيما يتعلق بمستقبل الشرق الأوسط، وترسيخ التطبيع وتحالفاتها الإقليمية الجديدة. وتسعى تل أبيب إلى توظيف النفوذ في الجنوب السوري بوصفه ورقة ضغط في بناء تفاهمات إقليمية بشأن سوريا بما يخدم المصالح الإسرائيلية الطويلة الأمد؛ ولهذا تعمل تل أبيب على تفكيك سوريا، وإعادة تشكيل موازين القوى في الجنوب السوري بما يحقق أمنها ومصالحها الجيوسياسية.
ثامنًا- الهندسة الديموغرافية
تعمل إسرائيل -على نحو حثيث، منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) الماضي- على تشجيع إنشاء كيانات سياسية محلية موالية لإسرائيل، كما حدث من قبل مع جيش “أنطوان لحد” في جنوب لبنان، وتحييد الدور العربي التقليدي في درعا، وتعزيز تحالفات مع الفصائل التي يمكن استخدامها كأدوات للنفوذ الإسرائيلي من خلال الدفع نحو اتفاقيات “حكم ذاتي” لبعض المناطق، بما يسهم في إضعاف مركزية الدولة السورية، ومنع عودتها كقوة موحدة.
تاسعًا- التحكم في الطرق الإقليمية
بينما تبقى درعا ذات أهمية محورية بوصفها نقطة الوصل بين سوريا والأردن، فإن امتلاك إسرائيل نفوذًا فيها يعني قدرتها على التحكم في خطوط التجارة الإقليمية من شمال الخليج العربي حتى تركيا والبحر المتوسط. وتمهد إسرائيل لهذا الأمر من خلال السيطرة على الطرق الرئيسة التي تتجه نحو ريف دمشق الجنوبي والجنوبي الغربي، مع السيطرة الكاملة على “الطريق 7″ الذي ينطلق من خان أرنبة إلى دمشق، و”الطريق 119” الذي يتحد مع طريق آخر يصبح رقمه داخل المنطقة منزوعة السلاح 98، ويصل إلى قرية العشة، ويصل هذا الطريق إلى مدينتي درعا والسويداء.
عاشرًا- خزان للمياه
السيطرة على جنوب سوريا تعني ضمان كميات ضخمة من المياه لإسرائيل، فمحافظة السويداء هي خزان المياه الكبير في جنوب سوريا، كما أن جبل الشيخ مصدر أساسي للمياه، حيث تنبع منه أنهار رئيسة، مثل أنهار الوزاني وجرجرة وبانياس والحصباني والأردن، مما يوفر نحو 1.5 مليار متر مكعب من المياه سنويًّا.
المؤكد أن تلك هي الأهداف الإسرائيلية، لكن على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال أن الطابع العدواني لإسرائيل، وما تقوم به ضد سكان غزة، يمكن أن يخلق بيئة معادية لإسرائيل، ليس في الجنوب السوري فقط؛ بل في المنطقة كلها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.