المقدمة
بينما يتورط العالم في حروب متسارعة طويلة الأمد، جمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الحادي عشر من ديسمبر (كانون الأول) الجاري الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على طاولة المفاوضات، ليخرجا بعد سبع ساعات بإعلان نجاح الوساطة التركية في حل الأزمة بين الصومال وإثيوبيا، ويبدأ فصل جديد من الدبلوماسية التركية في القارة الإفريقية بعد أن تمكنت أنقرة من ملء الفراغ الذي خلفته القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة، والصين، ودول الاتحاد الأوروبي؛ ففي الوقت الذي ركزت فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في المقام الأول على مكافحة الإرهاب، وإدارة الهجرة في القارة السمراء، وأعطت الصين الأولوية للاستثمارات الاقتصادية، وتطوير البنية التحتية في إطار مبادرة الحزام والطريق، هدفت تركيا إلى ترسيخ أقدامها في إفريقيا، من خلال إحراز نفوذ أكبر في القرن الإفريقي.
تعود جذور الخلاف بين إثيوبيا والصومال إلى إقليم أرض الصومال المنفصل (صوماليلاند) منذ عام 1991، غير المعترف به من أي دولة حتى الآن، غير أن التوترات الإقليمية اندلعت بين مقديشو وأديس أبابا عندما وقعت إثيوبيا مذكرة تفاهم مع أرض الصومال في الأول من يناير (كانون الثاني) الماضي تقضي باستخدامها ميناء بربرة على البحر الأحمر في مقابل اعتراف إثيوبيا بإقليم أرض الصومال دولةً مستقلة، حيث شكلت تلك المذكرة أهمية محورية لإثيوبيا -الدولة غير الساحلية- لأنها ستمنحها إمكانية الوصول المباشر إلى البحر الأحمر لأول مرة منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، بعد أن فقدت إثيوبيا قدرتها على إجراء التجارة البحرية عندما انفصلت إريتريا عنها قبل أكثر من ثلاثة عقود.
وكجزء من الاتفاق، خصصت أرض الصومال مساحة بطول 20 كيلومترًا على طول ساحلها لإنشاء قاعدة بحرية لإثيوبيا، بيد أن الاتفاق لاقى معارضة شديدة من الصومال، ورأته هجومًا على سيادتها وسلامة أراضيها، وانتهاكًا مباشرًا لأمنها القومي، ولتهدئة تلك التوترات بين الدولتين الواقعتين في شرق إفريقيا، قادت أنقرة المناقشات الرامية إلى حل خلافاتهما، وتوسطت تركيا في جولتين من المحادثات بين وزيري خارجية إثيوبيا والصومال في يوليو (تموز) وأغسطس (آب) الماضيين، وكان من المزمع عقد جولة ثالثة، لكنها أرجئت بسبب تشبث طرفي الصراع بمواقفهما.
لكن الرئيس التركي استطاع في ديسمبر (كانون الأول) الجاري عقد اتفاق مصالحة تحت اسم “إعلان أنقرة” بين مقديشو وأديس أبابا بشأن إقليم أرض الصومال الانفصالي، باعتباره محور الخلاف بين البلدين، وتضمن الإعلان احترام زعماء الصومال وإثيوبيا لسيادة كل منهما ووحدته واستقلاله وسلامة أراضيه، مع أهمية التخلي عن القضايا الخلافية بين البلدين.
ولعل أبرز ما جاء في الاتفاق يرتبط بمنح إثيوبيا القدرة على الوصول إلى البحر الأحمر، مع ضمان احترام الوحدة الوطنية، وسلامة أراضي الصومال، إذ من المقرر أن يبدأ الطرفان المفاوضات الفنية بشأن هذا البند بتسهيل من تركيا بحلول نهاية فبراير (شباط) المقبل، على أن تختتم تلك المفاوضات خلال أربعة أشهر؛ ومن ثم ستكون الترتيبات المستقبلية المتعلقة بالوصول التجاري لإثيوبيا إلى البحر تحت السلطة السيادية للحكومة الفيدرالية الصومالية. وفي حين أن إعلان أنقرة لم يشر صراحةً إلى مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال، لكنه يعني ضمنيًّا أن الاتفاق الذي تسبب في النزاع بين الصومال وإثيوبيا قد أصبح ملغى.
بدءًا من عام 2013، تغيرت سياسة انفتاح تركيا على إفريقيا إلى “سياسة الشراكة الإفريقية”، إذ باتت أنقرة من بين الشركاء الإستراتيجيين التسعة للاتحاد الإفريقي، وقد حفز هذا انخراطها في القارة من أجل تعظيم مكاسبها، التي يتمثل أبرزها فيما يلي:
إن نهج تركيا في التعامل مع الدبلوماسية الإفريقية، الذي يجمع بين الروابط التاريخية والقرب الثقافي والوساطة المتوازنة، يميزها عن القوى العالمية والإقليمية؛ لذا ضاعفت أنقرة تركيزها على إفريقيا في السنوات الأخيرة من خلال مساعدات التنمية ومشروعات البنية التحتية والحلول التعاونية للتحديات الأمنية؛ ومن ثم يعد نجاح الوساطة التركية مكسبًا ملموسًا للسلام الإقليمي، من خلال حل التوتر بين الصومال وإثيوبيا؛ بل إنه يعزز أيضًا دور أنقرة بوصفها وسيطًا موثوقًا به في إفريقيا، من خلال نهج متعدد الأبعاد، يعكس السياسة التركية تجاه إفريقيا، وهو ما يدفع إلى توظيف تركيا تلك الوساطة بغية خلق آفاق جديدة للتعاون مع إثيوبيا والصومال، ترتبط بسعي أنقرة إلى تعزيز استكشافات الطاقة من خلال التعاون البحري مع الصومال بعد حصولها على حماية المياه الإقليمية الصومالية لمدة 10 سنوات؛ ما يسهم في تحقيق طموحات تركيا في أن تصبح مركزًا لتوزيع الطاقة الصومالية إلى الأسواق الأوروبية، وبالنهج نفسه ترمي أنقرة إلى تعظيم مكاسبها الاقتصادية والسياسية والدينية من خلال أكثر من 140 شركة تركية داخل الأراضي الإثيوبية في مجالات النسيج والزراعة، وتأسيس البنية التحتية، وخطوط السكك الحديدية، فضلًا عن دور وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) التي تشرف على كثير من الخدمات الحيوية في إثيوبيا.
وعلى الجهة المقابلة، لا يخلو الانخراط التركي في منطقة القرن الإفريقي من المخاطر؛ إذ فرضت أنقرة نفسها وسيطًا ولاعبًا رئيسًا في المنطقة التي تعج بمنافسة إقليمية وعالمية؛ ما يثير تساؤلًا جوهريًّا عن مستقبل الوساطة الأخيرة بين مقديشو وأديس أبابا في ظل علاقات تركيا الوثيقة مع إقليم أرض الصومال، إذ تعد أنقرة واحدة من الدول القليلة في العالم التي لديها تمثيل دبلوماسي في هرجيسا -عاصمة أرض الصومال- وهو ما يضع مصير تركيا في القرن الإفريقي أمام اختبار صعب يرتبط بموازنة علاقات أنقرة المعقدة مع الأطراف المتنازعة.
يعكس الدور الذي اضطلعت به تركيا في الوساطة بين البلدين المتصارعتين في الإقليم، نهجًا استراتيجيًّا في السياسة الخارجية، فعلى مدى العقدين الماضيين، نجحت أنقرة في ترسيخ مكانتها بوصفها شريكًا أمنيًّا للدول الإفريقية من خلال الاستثمارات الاقتصادية، والمساعدات الإنسانية، والمبادرات الثقافية، حيث تتماشى جهود تركيا في الوساطة مع الأهداف الأوسع نطاقًا التي تتبناها في القارة بعد أن أصبحت تشكل أهمية مركزية متزايدة في إستراتيجيتها الدولية. ومع أن إعلان أنقرة يمثل إنجازًا كبيرًا للدبلوماسية التركية، فإن نجاحه سوف يعتمد على تنفيذ أحكامه المرتبطة بالمفاوضات الفنية المقرر عقدها في عام 2025، وترجمة الاتفاق إلى نتائج قابلة للتنفيذ؛ ما يُشكل محطة فارقة في دور تركيا المستقبلي في القارة الإفريقية بكاملها، وليس القرن الإفريقي فقط.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.