يبدو أن رؤية الكاتب الكندي الشهير ستيفن مارش بشأن تصدع الولايات المتحدة الأمريكية وتفككها، وأفول نجمها، وتراجع دورها، لم تأت من فراغ؛ لأن مارش الذي كتب كتابه الشهير “الحرب الأهلية الأمريكية التالية”، عام 2022، لم يكن يعلم آنذاك أي شيء عن “مشروع ثورة 2025” الذي أعلنته في يونيو (حزيران) الماضي مؤسسة “هيرتاج”، القريبة جدًّا من المحافظين، خاصة الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري. كما قامت “رؤية مارش” على أن ما جرى في 6 يناير (كانون الثاني) 2021 من اقتحام للكونغرس، يمكن أن يتكرر على نحو أكثر عنفًا ودموية عندما يجتمع الكونغرس مرة أخرى لتثبيت الفائز في انتخابات 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. ترى أيضًا مؤسسة “هيرتاج” أن استعادة الولايات المتحدة- مرة أخرى- من يد “اليسار المتطرف” سوف تبدأ بتنفيذ “الثورة الأمريكية الثانية” عندما يدخل رئيس جمهوري للبيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني) 2025، لكن أخطر ما في الأمر ما قاله كيفن روبرتس، رئيس مؤسسة هيرتاج، بأن “الثورة الأمريكية الجديدة” يمكن أن تكون “دموية” إذا سمح بذلك “اليسار المتطرف”، وهو ما يقول إن واشنطن على موعد مع طبقات كثيفة من “الضباب السياسي”، وربما “الانقلابات السياسية”، من الآن حتى جلوس الرئيس الجديد على مقعد المكتب البيضاوي، فالديمقراطيون حائرون بين الإبقاء على الرئيس الحالي جو بايدن في المسار الانتخابي، أو اختيار مرشح أكثر حيوية من بين نحو أكثر من 10 أسماء مطروحة للنقاش، في حين يشكك الجمهوريون في تسليم الجناح التقدمي اليساري في الحزب الديمقراطي للحكم في يناير (كانون الثاني) المقبل، ووجدوا البديل عبر القيام بـ”ثورة جديدة” تعيد إلى أمريكا “الفردوس المفقود”، إذا جاز لنا استعارة هذا التعبير من الشاعر الإنجليزي الشهير جون ميلتون، في رائعته “الفردوس المفقود”.
فما ملامح الثورة الأمريكية الثانية “ثورة 2025″؟ وهل بالضرورة أن تكون ثورة دموية و”ليست بيضاء”؟ وما العوامل التي تؤدي إلى تلك الثورة الأمريكية “الثانية”؟ والى أى مدى سيكون الديمقراطيون، وفي مقدمتهم “الجناح الليبرالي اليساري” مستعدين لتفويت الفرصة على هذا المخطط، وتسليم السلطة في يناير (كانون الثاني) المقبل، أم أن “حالة الصدام والتفكك” بدأت بالفعل، ويصعب الرجوع عنها؟
رسمت مؤسسة “هيرتاج” خيارين لا ثالث لهما لمستقبل الولايات المتحدة؛ الأول هو تسلم السلطة من الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي في يناير (كانون الثاني) المقبل للمرشح الجمهوري، والخيار الثاني هو القيام “بثورة مسلحة” إذا تمسك الحزب الديمقراطي بأن مرشحه للانتخابات- سواء أكان بايدن أم غيره- هو الفائز. وتحدد “وثيقة 2025″، التي جاءت في 922 صفحة، الآليات والتكتيكات والإستراتيجيات التي سيتم بها التنفيذ، والتي تبدأ فور دخول الرئيس الجمهوري البيت الأبيض يوم 21 يناير (كانون الثاني) المقبل. و”وثيقة 2025″، التي يطلق عليها أيضًا “الوثيقة 47″؛ نسبة إلى الرئيس القادم رقم 47، وشارك في كتابتها أكثر من 100 باحث، وعشرات المؤسسات البحثية القريبة من الجمهوريين، تقوم على مجموعة من المحاور، منها:
أولًا: تفكيك الدولة العميقة
وفق القوانين الأمريكية، فإنه يحق للرئيس الجديد أن يستبدل موظفين سياسيين ينتمون إلى الحزب الذي جاء منه، بنحو 13 ألف وظيفة فيدرالية ؛ حتى يساعدوه على تحقيق برنامجه الانتخابي الذي فاز به، لكن “وثيقة 2025” تذهب إلى أبعد من ذلك من خلال توسيع صلاحيات الرئيس، وإقالة الآلاف من موظفي الخدمة المدنية، والسعي إلى تغيير شكل الحكومة والموظفين الفيدراليين، خاصة في وزارتي الخارجية والدفاع، ووضع بعض الوزارات، مثل وزارة العدل، تحت سلطات الرئيس مباشرة. ومن وجهة نظر هذه الوثيقة، فإن هذا الأمر سوف يساعد على تبسيط عملية صنع القرار، ويجعل الرئيس أكثر حرية وفاعلية من الوضع البيروقراطي الحالي، خاصة أن هذه الرؤية تدعو إلى “إلغاء الحماية” لآلاف الموظفين الحكوميين، الذين يمكن بعد ذلك استبدالهم موظفين سياسيين بهم، وليسوا تكنوقراطًا، وخلصت حسابات الجمهوريين أن غالبية الموظفين الفيدراليين يميلون إلى الديمقراطيين، ويصوتون لهم، سواء في الانتخابات الرئاسية، أو انتخابات الكونغرس، وسوف يعمل الرئيس الجمهوري الجديد- وفق هذه الرؤية- على “إعادة هيكلة” مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي تصفه مؤسسة “هيرتاج” بأنه مؤسسة متضخمة، ومتغطرسة، وغير قانونية، وهو ما يستدعي إجراء إصلاحات كاملة لهذه الوكالة، وغيرها من الوكالات الفيدرالية، لكن ربما أغرب طرح تقدمه الوثيقة بشأن شكل الحكومة الأمريكية وأدائها هو الدعوة إلى إلغاء وزارة التعليم.
ثانيًا: الخوف على الرجل الأبيض
والمقصود هنا ليس فقط الدفاع عن الأراضي الأمريكية، لكن أيضًا الوقوف في وجه موجات الهجرة غير الشرعية على الحدود الأمريكية المكسيكية. وتنظر هذه الوثيقة بعين الخوف على “الرجل الأبيض” الأمريكي بعد أن قالت كل المؤشرات أن الملونين باتوا أغلبية بالفعل في الولايات المتحدة بعد دخول نحو 20 مليون مهاجر غير شرعي في عهد الرئيس جو بايدن. وتتبنى هذه الوثيقة رؤية متكاملة لحماية الحدود الأمريكية المكسيكية، ومساعدة الولايات الحدودية على التصدي لموجات الهجرة غير الشرعية، من خلال تعزيز قوات حرس الحدود، سواء التابعة للولاية، أو القوات الفيدرالية، وضرورة عقد الاتفاقيات “الملزمة” مع دول أمريكا اللاتينية التي تصدر العدد الأكبر من هؤلاء المهاجرين، بالإضافة إلى بعض المقترحات الأخرى للسيطرة على ظاهرة الهجرة، منها زيادة التمويل لبناء جدار على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وتوحيد وكالات الهجرة المختلفة، والتوسع الكبير في صلاحياتها، وزيادة الرسوم على المهاجرين، والسماح بتقديم طلبات سريعة للمهاجرين الذين يدفعون رسومًا أكبر.
ثالثًا: تأمين الحقوق الفردية
ومنها حق شراء سلاح شخصي، حيث عانت رابطة بائعي السلاح الشخصي في الولايات المتحدة قرارات الرئيس جو بايدن التي ضيقت الخناق على أرباح بائعي السلاح الشخصي، بعد سلسلة من الحوادث التي أدت إلى مقتل المئات من طلاب المدارس على أيدي زملائهم. ورغم سقوط الآلاف من القتلى نتيجة هذه الحوادث، ترى “هيرتاج” أن حق شراء السلاح وتملكه حق دستوري، جاء في المادة الثانية من الدستور الأمريكي؛ ولهذا لا يمكن المساس بهذا الحق، لكنها تطرح فقط رؤية للسيطرة على ما يسمى “سلاح الشبح”، وهي الأسلحة التي تنتجها ورش صغيرة غير مسلجة، ولا تدفع ضرائب، وهذه الأسلحة ليس لها أرقام مسلسلة؛ وهو ما يجعل من الصعب الوصول إلى صاحبها حال ارتكاب جريمة. وضمن هذا المحور تدعو الوثيقة الى تعزيز الشرطة الأمريكية؛ حتى يمكن السيطرة على الجرائم، وتعزيز سلطة الدولة.
رابعًا: مسار مختلف للطاقة
يفتخر الرئيس جو بايدن بأنه نجح في تمرير حزمة تصل قيمتها إلى 1.3 تريليون دولار عام 2021؛ من أجل التوجه ناحية “الطاقة الخضراء”، لكن “وثيقة 2025” تقترح مسارًا معاكسًا يعتمد على خفض الأموال المخصصة للبحث والاستثمار في الطاقة الخضراء، والهيدروجين الأخضر، والأمونيا الخضراء، وكل ذلك بالتزامن مع الدعوة إلى وقف الحرب الحالية على النفط والغاز الطبيعي، مع المطالبة بالعودة مرة أخرى إلى مزيد من الاستثمارات في استخراج النفط والغاز، وهو أمر يمكن أن يصيب دعاة الحفاظ على الكوكب، وأحزاب الخضر في الولايات المتحدة والعالم بصدمة غير مسبوقة. وتسعى هذه الرؤية إلى تعزيز أمن الطاقة الأمريكية؛ حتى لا تحدث فجوة بين الإنتاج والاستهلاك.
خامسًا: الأسرة عصب الحياة الأمريكية
لا تختلف المبادئ التي نشرتها مؤسسة “هيرتاج” عن مبادئ الحزب الجمهوري وأهدافه، لكن الخلاف فقط في “الأدوات”. وتشدد “وثيقة 2025” على ضرورة استعادة روح الأسرة الأمريكية والحفاظ عليها، وألا يوجد سوى نوعين فقط من البشر؛ رجل وامرأة، وترفض أفكار اليسار عن الجنس الثالث، أو العابرين جنسيًّا، وتدعو إلى طرد المتحولين جنسيًّا من الجيش، وحرمانهم من المزايا الاجتماعية والصحية. وتقول الوثيقة إنها تريد أن تحافظ على الأسرة بالشكل الطبيعي الذي خلقها به الله سبحانه وتعالى، وتشرح كيف كانت الأسرة الأمريكية المتماسكة هي “عصب الحياة الأمريكية” منذ تأسيس الولايات المتحدة. ولا تدعو هذه الرؤية إلى منع الإجهاض على مستوى البلاد، لكنها تترك الأمر لكل ولاية حسب ثقافتها، ورؤية مواطنيها، لكن في الوقت نفسه “تقترح” الرؤية سحب حبوب الإجهاض من الأسواق. وفي سبيل المحافظة على الأسرة أيضًا ستُحظَر المواد الإباحية، وتُغلَق شركات التكنولوجيا والاتصالات التي تسهل الوصول إلى هذا المحتوى.
رغم نفي الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترمب أي علاقة له بـ”وثيقة 2025 “؛ بل انتقادها ووصفها بالسخيفة، وأنه لا يتفق مع ما جاء فيها، فإن الديمقراطيين بدؤوا بشن حملات دعائية على ترمب، وربط المرشح الجمهوري بالمجموعة التي أعدت الوثيقة؛ اعتمادًا على سلسة من الأدلة، أبرزها أن عددًا كبيرًا من الذين شاركوا في وضع هذه الرؤية سبق لهم العمل مع ترمب، مثل بول دانس، رئيس مجموعة الباحثين الذين كتبوا هذه الرؤية، الذي كان رئيسًا للموظفين في مكتب إدارة شؤون الموظفين في عهد ترمب، وسبنسر كريتيان، الذي كان مساعدًا خاصًا لترمب، فضلًا عن أن مؤسسة “هيرتاج” نفسها هي أكثر المؤسسات البحثية التي قدمت أوراقًا وأفكارًا لحملة ترمب للعودة مرة أخرى إلى البيت الأبيض؛ ولهذا سوف يحاول الديمقراطيون ترويع الناخبين من هذه الرؤية، وربطها بالرئيس السابق دونالد ترمب، من خلال مجموعة من المحاور، منها:
1- التوظيف الانتخابي
منذ إعلان “وثيقة 2025″، يحاول الحزب الديمقراطي تخويف الناخبين عبر المطالبة بانتصار واضح للرئيس بايدن في الانتخابات المقبلة؛ لأن أي تقارب بين المرشحين الديمقراطي والجمهوري يمكن أن يعطي مساحة للفوضى والتشكيك في النتيجة، كما جرى في انتخابات 2020، ويعمل الديمقراطيون على شيطنة ترمب على نحو تام، ووصفه بأنه سيصبح “رئيسًا ديكتاتوريًّا” حال فوزه بالانتخابات المقبلة، ورد أنصار الحزب الديمقراطي بأن تطبيق هذه الرؤية سوف يكون بمنزلة “انقلاب” في الحياة السياسية الأمريكية، وأنهم سوف يقاومون هذه الخطة في كل مكان وزاوية أمريكية.
2- أوقفوا مشروع 2025
وهي دعوة يعمل عليها القادة الديمقراطيون بقيادة عضو الكونغرس عن ولاية كاليفورنيا جاريد هوفمان، الذي وصف “وثيقة 2025” بأنها مؤامرة بائسة لتفكيك المؤسسات الديمقراطية، وتحد من الفصل بين الكنيسة والدولة، وتفرض أجندة يمينية متطرفة تنتهك الحريات الأساسية.
الواضح أن الولايات المتحدة وصلت إلى مرحلة يصعب الرجوع عنها من التشظي، والانقسام السياسي والمجتمعي، بعد أن تلاشت القواسم المشتركة بين النخب والمكونات السياسية في البلاد، وهو ما يقول إن الولايات المتحدة الأمريكية، وما سيجري فيها من خلافات وصراعات، سوف تكون محور اهتمام العالم في الشهور المقبلة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.
