مقالات المركز

هل ينفذ ترمب “خطاب وداع” جورج واشنطن؟


  • 16 مارس 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: vpm

عندما قاربت الولاية الثانية للرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن من نهايتها، شعر مؤسس الولايات المتحدة أن بلاده قد تنزلق إلى صراعات خارجية يمكن أن تقوّض الحلم الأمريكي، وهو لا يزال  في بدايته؛ ولذلك قرر قبل أن يعود إلى منزله في “ماونت فيرنون” أن يكتب “رسالة وداع” أطلق عليها بعضهم -فيما بعد عندما نشرتها صحيفة بنلسفانيا-  “خطبة وداع”. ومع أن هذه الرسالة أو الخطبة تضمنت أشياء وموضوعات كثيرة، مثل ضرورة الحفاظ على الوحدة، وإعلاء القيم الفيدرالية الأمريكية فوق قيم المجتمعات المحلية في مختلف الولايات، فإن اللافت في هذه الرسالة هو تحذير الرئيس جورج واشنطن لمن سيخلفه في البيت الأبيض من الانخراط في الخلافات والحروب والصراعات الأوروبية، وهي السياسة التي سُميت فيما بعد بسياسة “الانكفاء على الذات”، وتمسكت بها الولايات المتحدة طوال أكثر من قرن، وسار عليها الرئيس توماس جيفرسون. وفي عهد الرئيس جيمس مونرو رفضت الولايات المتحدة التدخل الأوروبي في شؤون غرب الكرة الأرضية بما يشمل كل أمريكا اللاتينية، وهو ما سُمي بعد ذلك “مبدأ مونرو” الذي أعلنه الرئيس جيمس مونرو في 2 ديسمبر (كانون الأول) 1823، لكن الحرب الأمريكية الإسبانية التي امتدت من الفلبين إلى غوام وكوبا وغوانتنامو وبورتريكو عام 1898، كانت بداية التخلي الأمريكي عن سياسة “الانكفاء على الذات”، وهي السياسة التي تخلت واشنطن عنها كليًّا عندما انخرطت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الكورية، ثم الدخول في حرب فيتنام قبل أن تتورط في ٢٠ عامًا من الحرب على ما يُسمى بالإرهاب.

لكن تحليل المواقف والمبادرات التي يطرحها الرئيس دونالد ترمب تؤكد أن سيد البيت الأبيض قرأ جيدًا “رسالة الوداع” التي تركها له الرئيس جورج واشنطن، وأنه يريد العودة مرة أخرى إلى نصائح جورج واشنطن والمبادئ التي أرسها توماس جيفرسون وجيمس مونرو، من خلال العمل على وقف الحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا،  وإغلاق ملفي البرنامجين النوويين الإيراني والكوري الشمالي، وقد يصل به الأمر إلى سحب نحو 100 ألف جندي من أوروبا، وتقليل الإنفاق على التحالفات والقواعد العسكرية الأمريكية في الخارج، التي تضم أكثر من 220 ألف جندي.

  على الجانب الآخر، هناك التقدميون واليساريون وغيرهم في الحزب الديمقراطي الأمريكي الذين يجادلون بأن سياسة “الانكفاء على الذات”، التي يطلق عليها الرئيس ترمب “أمريكا أولًا” سوف تقود إلى تراجع القيمة الإستراتيجية للولايات المتحدة على الساحة الدولية، وهو ما يمكن أن يهدد المصالح الوطنية للشعب الأمريكي، بل يمكن أن يقود إلى تفكك الولايات المتحدة نفسها، فعلى سبيل المثال، تقول وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون إن عدد سكان الولايات المتحدة نحو 370 مليون نسمة، وبهذا لا يشكلون أكثر من 5% من سكان العالم، لكن قوة الولايات المتحدة تأتي من انخراطها السياسي والتجاري والثقافي مع مختلف دول العالم، وإن الانكفاء على الذات وسياسة ترمب “لنجعل أمريكا عظيمة من جديد”، سوف تؤدي -في نهاية المطاف- الى تقوقع الولايات المتحدة وانزوائها وتراجعها،  وتحولها من دولة عظمى إلى “دولة إقليمية”، فهل يمضي ترمب في طريق “جورج واشنطن”، أم أن ضغوط حلفائه الأوروبيين، وجيرانه في كندا والمكسيك يمكن أن تأخذه نحو العودة من جديد إلى نشر الحروب والفتن والصراعات في العالم كما كانت حال غالبية الرؤساء الأمريكيين بداية من القرن العشرين؟

4 مسارات:

 أولًا- وقف الاستغلال

هناك قناعة لدى النسخة الجديدة من الحزب الجمهوري بقيادة الرئيس دونالد ترمب أن هناك “استغلالًا” للولايات المتحدة من جانب حلفائها، وأن هذا الاستغلال يجب أن يتوقف على جميع الأصعدة، ولهذا قرر الرئيس ترامب سلسلة من الخطوات، منها:

1-وقف المساعدات الخارجية

قرر الرئيس ترمب وقف 90% من برامج وكالة التنمية الأمريكية نهائيًّا، التي كانت ميزانيتها تتجاوز 40 مليار دولار سنويًّا، ففي حين كان الديمقراطيون وأصحاب نظرية الانخراط في العالم ينظرون إلى تلك الوكالة بوصفها إحدى “الأدوات الناعمة” الأمريكية في التأثير لدى المجتمعات والدول الأخرى، لكن الرئيس ترمب، ورجل الأعمال إيلون ماسك، يريان ذلك نوعًا من الهدر المالي، وأن استثمار  هذه الأموال في الداخل الأمريكي أفضل من منحها لدول وشعوب أخرى في العالم، وبالفعل أوقفت الخارجية الأمريكية جميع المساعدات الأمريكية الخارجية لحين مراجعتها من وزارة الكفاءة التي يترأسها إيلون ماسك.

2-المواد النادرة مقابل المساعدات

لم تكتفِ الإدارة الحالية بوقف المساعدات للدول التي تعتمد على واشنطن؛ بل تعمل على الحصول بأثر رجعي على مقابل المساعدات التي دفعتها الإدارة السابقة للدول الأخرى، وفي مقدمتها أوكرانيا، التي يقول الرئيس الأمريكي إنها حصلت على 350 مليار دولار، ويسعى إلى الاستحواذ على الموارد الأوكرانية النادرة مقابل هذه المساعدات السابقة.

3-التجارة العادلة بدلًا من التجارة الحرة

أساس الخلافات التجارية بين الولايات المتحدة وكل دول العالم أن الرئيس ترامب لا يؤمن “بالتجارة الحرة”، لكن مشروعه الاقتصادي قائم على  “التجارة العادلة”، فالتجارة الحرة هي ضمن مصفوفة القيم والمبادئ التي يؤمن بها الحزب الديمقراطي؛ ولهذا وقع الرئيس الأمريكي الأسبق بارك أوباما مع 8 دول تطل على المحيط الهادئ  على”اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ” عام 2016، ثم ألغى ترمب هذه الاتفاقية في أول أيام رئاسته في 20 يناير (كانون الثاني) 2017. ويهدف ترمب من زيادة الحواجز الجمركية على كندا والمكسيك وأوروبا والصين إلى أمرين؛ الأول هو تقليل الواردات من هذه الدول بما يصب في صالح العمال والمصانع الأمريكيين، والهدف الثاني هو دعم نفاذ البضائع والسلع الأمريكية ووصولها إلى مختلف دول العالم.

ثانيًا- تقليل الالتزامات العسكرية

 الدور القيادي للولايات المتحدة في التحالفات العسكرية، كلفها كثيرًا من الأموال والمخاطر السياسية والعسكرية؛ ولهذا يسعى الرئيس ترمب إلى تقليل الانخراط الأمريكي في قيادة التحالفات الدولية، فعلى سبيل المثال، يعتقد الكثيرون في حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) أن عليهم البحث من الآن عن آلية جديدة للدفاع الجماعي مع توقعات بانسحاب الولايات المتحدة من “الناتو”،  أو تقليل انخراطها ومساهماتها السياسية والمالية إلى أدنى مستوى، مع التركيز على القضايا التي لها علاقة مباشرة بأمن الأراضي الأمريكية، وهنا يظهر التفكير الأمريكي في “الانكفاء على الذات” من خلال منظومة “القبة الحديدية” الأمريكية، فوفق رأى الدائرة الضيقة حول الرئيس ترمب، فإن الله يحمي أمريكا بالمحيط الأطلسي شرقًا، والمحيط الهادئ غربًا؛ ولهذا لا تحتاج الولايات المتحدة إلى دوائر دفاعية متقدمة، سواء في أوروبا أو شرق آسيا وجنوب شرقها. وفكرة أن أمريكا يحميها الله بالمحيطين بدأت منذ الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وكان هذا في تاريخ مبكر بعد الاستقلال الأمريكي عن بريطانيا، وخلال ما يقارب الشهرين في البيت الأبيض لم يتحدث الرئيس ترمب كثيرًا عن “التحالفات العسكرية” الأخرى، مع أنه تحدث واتخذ قرارات في كل شىء، فلا يوجد أي تحرك واضح تجاه “تحالف أوكوس” الذي يضم مع الولايات المتحدة كلًا من بريطانيا وأستراليا، بل وجدنا أستراليا وبريطانيا يدعمان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعد المشادة الكلامية الشهيرة مع الرئيس ترمب، ولم نسمع كلمة واحدة من الرئيس ترمب عن “تحالف كواد الرباعي” الذي يضم مع الولايات المتحدة كلًا من أستراليا والهند واليابان، وهو الشىء نفسه عن تحالف “العيون الخمس” الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وكل هذا قد يقود في النهاية إلى سحب القوات الأمريكية من عشرات القواعد العسكرية الأمريكية في آسيا وأوروبا.

ثالثًا- العودة إلى مبدأ مونرو

كل ما يجري من مواقف أمريكية منذ 20 يناير (كانون الثاني) الماضي يؤشر إلى عودة الرئيس ترمب إلى روح السياسة التي انتهجها الرئيس الخامس جيمس مونرو، والتي كانت تطبيقًا عمليًّا “لخطبة الوداع” التي تركها جورج واشنطن، والتي رفض من خلالها الانخراط في مشكلات القوى الأوروبية، التي كانت تشكل حينذاك العالم القديم، وكان تركيزه ينصب فقط على حماية النفوذ الأمريكي في الأمريكتين ونصف العالم الغربي، وهذا واضح تمامًا في توجهات الرئيس الحالي دونالد ترمب مع المكسيك وكندا وبنما، وحتى جزيرة غرينلاند التي ينظر إليها جيولوجيًّا على أنها جزء من شمال أمريكا الشمالية.

رابعًا- الانسحاب من الأمم المتحدة 

انسحاب الرئيس ترمب من منظمة الصحة العالمية، ومنظمة اليونسكو، والمجلس العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية باريس للمناخ عام 201 لم يكن عفويًّا. حتى الأمم المتحدة لا يوجد إيمان كبير بها من جانب مخططي السياسة الجمهورية الحاليين؛ لذلك لم يكن مستغربًا أن يتقدم أعضاء جمهوريون من مجلس الشيوخ بمشروع قانون للانسحاب الكامل من هيئة الأمم المتحدة، والأكثر أن الرئيس ترمب وقع بالفعل يوم 4 فبراير (شباط) الماضي أمرًا تنفيذيًّا لإعادة تقييم مشاركة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، بدعوى أن المنظمة “سيئة الإدارة”، ولا تقوم بعملها، ويدعو السيناتور الجمهوري البارز مايك لي الرئيس ترمب إلى إلغاء عضوية الولايات المتحدة بالكامل في الأمم المتحدة، وفي أي أجهزة أو وكالات متخصصة، أو لجان، أو هيئات أخرى مرتبطة رسميًّا بالأمم المتحدة.

المؤكد أننا أمام عودة أمريكية جديدة إلى نصائح الرئيس جورج واشنطن ودعواته؛ ولهذا فإن كل كلمة وقرار يتخذه ترمب في الوقت الحالي يقول إن الولايات المتحدة لا تريد الانخراط في خلافات وقضايا دولية أدت إلى حروب طاحنة، مثل الحربين العالمية الأولى والثانية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع