يطرح بعضنا أسئلة كثيرة عن الدوافع الحقيقة وراء إصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على السعي إلى وقف الحرب في أوكرانيا؟ ولماذا يحاول البيت الأبيض تسخير كل أدواته السياسية والدبلوماسية من أجل وقف الحرب في أوكرانيا؟ وما الأسباب التي تقف خلف حرص الرئيس ترمب على إشاعة أجواء إيجابية عن المفاوضات القادمة في المملكة العربية السعودية رغم الكوابح الكثيرة التي لا تزال في الطريق نحو السلام الدائم، ومنها الإصرار الأوروبي على الاستمرار في دعم أوكرانيا بالسلاح والمال لمواصلة الحرب مع روسيا؟
على الفور تظهر الإجابات الكلاسيكية التي تدور كلها حول رغبة البيت الأبيض في وقف تدفق المساعدات الإقتصادية والعسكرية إلى أوكرانيا، التي زادت على 350 مليار دولار، وهناك من يعتقد أن الدوافع الأمريكية لوقف الحرب تأتي من يقين واشنطن باستحالة هزيمة روسيا إستراتيجيًّا، وهو ما قاد إلى بلورة قناعة لدى الساكن الجديد في البيت الأبيض بأن نتائج هذه الحرب سوف تنقلب على أوكرانيا في نهاية المطاف، فضلًا عن تأكيد البعض وجود مشكلات هيكلية وبنيوية تتعلق بمستقبل الاقتصاد الأمريكي، وتضاؤل دور النخبة الأمريكية وحجمها، والعزوف عن الالتحاق بالجيش الأمريكي، وزيادة النزعات الانفصالية لدى ولايات كبيرة، مثل كاليفورنيا، وتكساس.
ورغم كل هذه الإجابات المنطقية التي عليها كثير من الشواهد والأدلة فإن دوافع الإدارة الأمريكية لوقف الحرب في أوكرانيا أبعد من ذلك بكثير، وتقوم هذه الدوافع على العودة من جديد إلى ما يسمى “خيارات كيسنجر”، فيما يتعلق بأوكرانيا وروسيا، وعلاقة كل ذلك بالصين، وهي الخيارات التي توصف بأنها خيارات تعتمد مفاهيم مثل “الواقعية”، و”التكيف”، و”حل الصراعات الكبرى بخطوات خارج الصندوق”، كما فعل كيسنجر في الانفتاح على الصين والاتحاد السوفيتي رغم سخونة الحرب الباردة في ذلك الوقت، وقبل ذلك عندما نجحت رؤية كيسنجر في الخروج من المستنقع الفيتنامي، فما خيارات كيسنجر بشأن روسيا وأوكرانيا التي يتبناها الرئيس ترمب؟ وهل هدف المكتب البيضاوي حاليًا من السعي إلى وقف الحرب الروسية الأوكرانية هو فقط إبعاد روسيا عن الصين حتى تستطيع الولايات المتحدة التفرغ للصين بعد حرب السنوات الثلاث الماضية في أوكرانيا؟ وكيف سيكون رد فعل موسكو وبكين على تلك المحاولات الأمريكية؟ وإلى أي مدى تقف رؤية كيسنجر الإيجابية بشأن روسيا والرئيس بوتين وراء التقارب السريع الجاري بين واشنطن وموسكو في الوقت الحالي؟
ترمب وقناعته بأفكار كيسنجر
لا يمكن لأحد أن ينكر إعجاب الرئيس ترمب بوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، الذي أكد أكثر من مرة قبل رحيله استعداده لمساعدة الرئيس ترمب، وتقديم النصائح له منذ فوز ترمب بالولاية الأولى في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وتكشف اللقاءات الكثيرة التي جمعت بين ترمب وكسينجر أنه كان يستمع اليه باهتمام شديد، خاصةً عندما يتعلق الأمر بوضعية أوكرانيا في سلم الأولويات الأمريكية، وكيفية التعامل مع روسيا والصين، ومن يراجع مقترحات الرئيس ترمب بشأن الأزمة الأوكرانية، والطرح الذي قدمه خلال المكالمة الهاتفية الطويلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يتأكد أن الإدارة الأمريكية الحالية تنطلق في رؤيتها لوقف الحرب في أوكرانيا، والعلاقة مع روسيا، على رؤية كيسنجر، التي أخذت الاتجاهات التالية:
أولًا- قيمة محدودة لأوكرانيا
عندما تطورت الأحداث في أوكرانيا عام 2014، وطُرِدَ الرئيس الأوكراني المنتخب فيكتور يانكوفيتش من الحكم، واندلعت المعارك شرق أوكرانيا، وسيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم، كانت نصيحة كيسنجر للرئيس الأمريكي حينذاك باراك أوباما هي “ضبط النفس”؛ وذلك لسببين: الأول هو أن المواجهة المباشرة مع روسيا ليست في مصلحة الولايات المتحدة، وثانيًا: لأن “القيمة الإستراتيجية الأوكرانية” للمصالح الأمريكية ليست كبيرة، ولا تستحق هذه المغامرة وهذا الاستقطاب الذي رأيناه خلال السنوات الثلاث الماضية في العلاقات الأمريكية الروسية، وخلال اللقاء الأخير الذي جمع كيسنجر بترمب، كرر كيسنجر هذه القناعة، ولهذا يتعامل ترمب مع الملف الأوكراني في الحدود الحقيقية للقيمة الإستراتيجية لأوكرانيا، التي تتلخص في الحصول على الموارد النادرة، واسترجاع الأموال التي حصلت عليها كييف، دون الحاجة إلى وضع الولايات المتحدة على حافة الصراع المباشر مع روسيا
ثانيًا- روسيا جزء من مستقبل أوروبا
رغم كل محاولات شيطنة روسيا من جانب الحزب الديمقراطي الأمريكي، كان كيسنجر يرفض هذه الشيطنة، وتبني ترمب هذه السياسية سببت له كثيرًا من التخوين السياسي والمشكلات القضائية، سواء في ولايته الأولى، أو بعد فوز جو بايدن في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، إذ تعرض ترمب لمضايقات كثيرة لأنه لا يريد معاداة روسيا، واتُّهم في الولاية الأولى بأنه فاز بدعم من الكرملين، لكن التحقيقات أثبتت بعد ذلك عدم وجود أي تدخل روسي لصالح ترمب في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2016؛ ولذلك فإن أبرز الدوافع والأسباب التي تدفع ترمب في الوقت الحالي إلى التقارب مع روسيا، وتحسين العلاقات الثنائية، ووقف الحرب في أوكرانيا، ينطلق من تشابه رؤيته مع رؤية كيسنجر التي تقول إن روسيا كانت جزءًا أصيلًا من الأمن الأوروبي فترة تزيد على 600 عام، فكثيرًا ما كان كيسنجر يقول إن روسيا هي أكبر دولة في أوروبا، ولها امتدادات جغرافية طويلة على الشرق الأوسط وآسيا، وهي مميزات لا توجد للدول الأوروبية الأخرى التي ينبغي أن تستفيد من مكانة روسيا الجيوسياسية، وليس معادة الكرملين والرئيس بوتين، وكانت مقاربة كيسنجر التي يؤيدها ترمب في الوقت الراهن تقول إن على أوروبا أن تبني علاقة حسن جوار مع روسيا، وفي الوقت نفسه ينبغي لروسيا ألا تسعى إلى هزيمة أوروبا وسحقها، وعند سؤال كيسنجر عن الأسباب وراء المخاوف الأمنية للرئيس بوتين من اقتراب حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) من الحدود الروسية كان يقول إن الرئيس بوتين ورث روسيا في ظروف صعبة جدًّا، والناتو استغل هذه الظروف للتوسع شرقًا في 5 موجات، والرئيس بوتين نشأ في أثناء حصار مدينته سانت بطرسبورغ (لينينغراد)، وقتل أكثر من نصف السكان على أيدي النازيين؛ ولهذا من الطبيعي أن يكون الرئيس بوتين حريصًا جدًّا على عدم اقتراب القوى والجيوش الأوروبية من المدن الروسية الكبيرة مثل سانت بطرسبورغ وموسكو، التي لا تبعد أكثر من 600 كم فقط عن الحدود مع أوكرانيا، وهي الأفكار نفسها التي يتحدث عنها اليوم الرئيس ترمب، الذي حمّل أوكرانيا وحلف “الناتو” مسؤولية اندلاع الحرب بسبب سعيهما إلى ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، وعدم الأخذ في الحسبان الاحتياجات الأمنية لروسيا؛ ولهذا فإن المفاوضات بين الوفدين الروسي والأمريكي في السعودية سوف تركز على “الضمانات الأمنية” التي يمكن لروسيا أن تحصل عليها في أي تسوية نهائية للصراع مع أوكرانيا، وهي ضمانات تتعلق بعدم توسع “الناتو” تجاه أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، وإذا ما اتُّفِقَ على هذه البنود يمكن أن يعود التعاون والسلام من جديد بين الأوروبيين وروسيا، وهذا ما قاله الرئيس ترمب للأمين العام لحلف “الناتو” مارك روته.
ثالثًا- روسيا لن تهاجم ألمانيا
رغم جذوره الألمانية كان كيسنجر يرفض وجود أي نزوع أو توجه لدى روسيا لمهاجمة ألمانيا، وكان يقول إن المانيا عليها دور في قيادة الإعمار في أوكرانيا بعد نهاية الحرب الحالية، وخلق بيئة للتعاون بين أوروبا وروسيا، وإنه كلما كان التعاون وثيقًا بين برلين وموسكو كانت أوروبا أكثر ازدهاراً واستقرارًا، وهذا ما يؤمن به ترمب تمامًا، وكرره في أول لقاء له مع المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل في البيت الأبيض عام 2017، وترمب يرفض هذه الأيام حديث الأوروبيين، وفي مقدمتهم بريطانيا وفرنسا وألمانيا، عن استعداد روسيا لهجوم جديد على ألمانيا وبولندا والدول الأوروبية الأخرى.
رابعًا- تراجع الموارد
لم تأتِ رؤية الرئيس ترمب عن الأوضاع الأمريكية السيئة من فراغ، كما أن حديثه عن جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى يعني أن أمريكا تعاني كثيرًا في الوقت الحالي، وهي رؤية شاركه فيها هنري كيسنجر، الذي كان يحذر دائمًا من تراجع مراكز القوة التي كانت الولايات المتحدة تتمتع بها، ففي خلال الحرب الباردة كانت الناتج القومي الأمريكي يشكل أكثر من 50% من الناتج القومي الإجمالي في العالم، في حين أنه عام 2022 تراجع إلى نحو 24%، كذلك لم تعد الولايات المتحدة “الدولة المبتكرة الوحيدة” في العالم، وهذا ما حذر منه الرئيس ترمب عندما بدأ تطبيق “ديب سيك” الصيني ينافس بقوة التطبيق الأمريكي “شات جي بي تي”.
خامسًا- ترتيب الأولويات
يؤمن ترمب بالواقعية على غرار كيسنجر، ويدرك أن العالم تغير، ويجب أن يكون “ترتيب الأولويات” واضحًا بشدة للأمريكيين؛ ولهذا يسعى ترمب إلى ترتيب الأولويات حتى لا تضيع مقدرات واشنطن في معارك خارجية خاسرة، فوفق كيسنجر فإن الولايات المتحدة عاشت فترة ذهبية قطبًا وحيدًا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991، وخلال عقد واحد بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بدأت الولايات المتحدة الحرب على ما يسمى الإرهاب، التي استمرت نحو 16 عامًا، بدأت مع أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، و استمرت حتى 19 ديسمبر (كانون الأول) عام 2017، وخلال هذه الفترة التي كانت الولايات المتحدة مشغولة فيها بالحرب على الإرهاب استطاعت روسيا مع وصول الرئيس بوتين إلى الحكم أواخر عام 1999 أن تستعيد قوتها، كما أن الصين حققت معجزة اقتصادية خلال فترة الحرب الأمريكية على الإرهاب، عندما كانت الصين تحقق معدل نمو سنوي يصل إلى 10%، لكن الولايات المتحدة لم تدرك هذه المتغيرات عندما وضع الساسة الأمريكيون مواجهة روسيا والصين معًا في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها البيت الأبيض عام 2017، لكن اليوم تأكد للرئيس ترمب أن مصالح الولايات المتحدة تتحقق في التعاون مع روسيا، وليس بالصراع معها، وهو المسار الذي تعمل عليه حاليًا طواقم روسية وأمريكية من أجل استعادة زخم العلاقات الأمريكية الروسية وقوتها من جديد، وهو دليل على تحول السياسة الأمريكية في عهد ترمب الى واقعية كيسنجر التي كانت تقول إن على الولايات المتحدة أن تكون واقعية وتتكيف مع المتغيرات والوقائع على الأرض، التي كثيرًا ما تجاهلتها إدارة جو بايدن، ومن هذا المنطلق يعتقد الكثيرون في دوائر صنع القرار الأمريكية أن نهج ترمب لوقف الحرب في أوكرانيا هو تصحيح للأخطاء الكثيرة التي وقعت فيها إدارة جو بايدن، وكادت تقود إلى حرب عالمية ثالثة.
سادسًا- إبعاد روسيا عن الصين
كانت رؤية كيسنجر خلال الحرب الباردة تقوم على إبعاد الصين عن الاتحاد السوفيتي السابق؛ ولهذا وقف كيسنجر وراء الانفتاح الأمريكي على الصين، وزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى بكين عام 1972، التي مهدت لاعتراف الولايات المتحدة بالحكومة الصينية عام 1979، وفي الوقت الحالي تخشى واشنطن من التقارب الإستراتيجي بين موسكو وبكين، ولهذا يأتي إبعاد روسيا عن الصين ضمن الأهداف الأمريكية الحالية لإنهاء النزاع في أوكرانيا؛ لأنه بسبب هذا النزاع حدث تقارب تاريخي بين روسيا والصين، لكن هذا الملف لا توجد عليه علامات نجاح كبيرة، فما يربط روسيا والصين بات أكبر بكثير من قضايا التجارة والاقتصاد، إذ بات للبلدين رؤية متطابقة لطبيعة النظام العالمي الجديد القائم على التعدد، واحترام القانون الدولي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.