السؤال الكبير الذي يردده الكثيرون هذه الأيام: هل هناك خلافات عميقة وحقيقية بين الولايات المتحدة وإسرائيل؟ وما الملفات الخلافية بين واشنطن وتل أبيب؟ وهل هي خلافات شخصية وطارئة بين نتنياهو وترمب أم أنها خلافات إستراتيجية بين دولة إسرائيل والولايات المتحدة؟ وهل تقتصر هذه الخلافات على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أم أنها تمتد وتتوسع لتصل إلى مواقف الرئيس ترمب بشأن إيران وسوريا واليمن؟
اللافت أن هذا السؤال ليس وليد مواقف الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة الرئيس دونالد ترمب؛ بل كان على مدار اليوم في عهد الرئيس السابق جو بايدن، خاصةً بعد أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وكانت الأوساط الإسرائيلية، وفي مقدمتها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير ماليته بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، تأمل نجاح الجمهوريين بقيادة الرئيس دونالد ترمب؛ لأنه -في نظرهم- أفضل بكثير من الرئيس بايدن، الذي علّق تسليم بعض الشحنات العسكرية لإسرائيل وقت الحرب. وفور عودته إلى البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني) هذا العام، أوفى ترمب بوعوده لإسرائيل، واستقبل نتنياهو في البيت الأبيض بعد أسبوع واحد من عودته إلى الحكم، لكن بعد مرور أقل من 3 أشهر على عودة الإدارة الجمهورية الجديدة بدأت وسائل الإعلام العربية والعبرية، والدولية كذلك، بنشر تقارير وتحليلات عن الخلافات والتوتر بين إسرائيل والولايات المتحدة، ويجري الحديث دائمًا عن وجود تباينات وخلافات في “تقدير المواقف” ليس فقط بشأن الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، بل وصل الأمر إلى الترويج بأن واشنطن اتخذت قرارات بمفردها بعيدًا عن إسرائيل في ملفات إستراتيجية تتعلق بسوريا واليمن وإيران، فما حقيقة الخلافات الإسرائيلية الأمريكية؟ وإلى أي مدى يمكن أن تصل هذه الخلافات؟ وهل يمكن للرئيس الأمريكي أن يتخلى عن إسرائيل كما تخلى عن حلفاء آخرين في الاتحاد الأوروبي، أو في حلف دول شمال الأطلسي (الناتو)؟
عندما وقعت أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 طرح البعض أسئلة كثيرة عن أسباب الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي “المطلق وغير المشروط” من الغرب بقيادة الولايات المتحدة لإسرائيل، وما السر وراء إرسال الولايات المتحدة حاملات الطائرات لحماية إسرائيل، مع أن واشنطن لم ترسل نفس حاملات الطائرات إلى أوكرانيا عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير (شباط) 2022؟ وكانت الإجابة الكلاسيكية السريعة تقول بأن إسرائيل هي بمنزلة الولاية الـ(51) للولايات المتحدة، وإن واشنطن لا تقبل “هزيمة عسكرية واحدة” لتل أبيب، وهذا ما يفسر حضور الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن وعدد من وزرائه مجلس الحرب الإسرائيلي، وهو ما أكد أن “مكان إسرائيل ومكانتها” لدى صانع القرار الأمريكي أكبر بكثير حتى من كونها الولاية الواحدة والخمسين؛ لأن إسرائيل منذ نشأتها كانت عنوانًا “للعالم القائم على القواعد”، وهي القواعد التي تأسس عليها عالم ما بعد نهايات الحرب العالمية الثانية، وضمنت هذه القواعد هيمنة شبه كاملة للولايات المتحدة والدول الغربية طوال نحو 80 عامًا؛ لأن إسرائيل تأسست وخرجت من رحم هذه “القواعد” في 14 مايو (أيار) 1948، وهو ما يعني أنها أصبحت عنوانًا للهيمنة والمصالح الغربية على مدار 77 عامًا، وأي خدش أو ضعف يمس إسرائيل لا يضعف إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة فقط؛ بل يضعف الهيمنة الغربية بالكامل؛ ولهذا ينظر الغرب إلى بقاء إسرائيل وأمانها على أنهما “حاجة وجودية” تتعلق ببقاء الولايات المتحدة والغرب على رأس هرم القيادة العالمية، وأن أي ضعف يلحق بإسرائيل يعني ببساطة انهيار “النظام القائم على الأحادية القطبية”، والتحول المباشر نحو “عالم متعدد الأقطاب”.
رغم الدعم السياسي الكامل من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لإسرائيل، سواء بالسلاح والذخيرة، أو الدعم السياسي والاقتصادي، فإن هناك سلسلة من المواقف دفعت البعض إلى الاعتقاد بوجود خلافات بين واشنطن وتل أبيب، وأبرز تلك المواقف هي:
أولًا- خلافات تكتيكية
خلال الشهور الأربعة من عودة الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض، برز تباين في التقديرات الأمريكية الإسرائيلية على المستوى التكتيكي، ففي الوقت الحالي تتبنى واشنطن وتل أبيب “الأهداف نفسها”، لكن كل طرف يريد تحقيق هذه الأهداف “بأدوات” ووتيرة مختلفة، فالرئيس ترمب ومبعوثه ستيفن ويتكوف يسعيان إلى هدنة في قطاع غزة مقابل الإفراج عن 50% من الرهائن الإسرائيليين الأحياء والأموات لدى حماس مقابل وقف إطلاق النار لنحو 60 يومًا، ودخول كميات كبيرة من المساعدات، على أن تكون أسابيع وقف الحرب فترة لإجراء المفاوضات لوقف الحرب، واستعادة تل أبيب لكل الرهائن الأحياء والأموات، وحال عدم التوصل إلى اتفاق نهائي، وانهيار المفاوضات، يمكن لإسرائيل أن تعود إلى الحرب مرة أخرى في غزة، لكن الحكومة الإسرائيلية تؤكد أن خيارها الأفضل هو هزيمة حماس نهائيًّا، واسترجاع الرهائن من خلال “الضغط العسكري”، وأن إدخال الذخيرة والمتفجرات إلى غزة له الأولوية على دخول المساعدات الإنسانية، وفي اليوم التالي لوقف الحرب لا تمانع الولايات المتحدة تسليم القطاع إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، في حين أن إسرائيل تقول إنه لا فرق بين حماستان وفتحستان. كل هذا يؤكد أن الخلاف بين الولايات المتحدة وإسرائيل هو فقط بشأن “الأدوات”، وليس في “الأهداف”، فكلٌّ من واشنطن وتل أبيب لديها الأهداف نفسها في غزة، وهي القضاء على حماس، ونزع سلاحها، وطرد قادة حماس إلى خارج القطاع. وفي الإطار نفسه، تواصلت الولايات المتحدة “على نحو مباشر” مع حماس من خلال مبعوث الرهائن الأمريكي آدم بهلر، ورجل الأعمال الفلسطيني الأمريكي المقرب من ترمب بشارة بحبح، لكن كل ذلك يصب في الهدف الإسرائيلي نفسه؛ وهو “استعادة الرهائن” الإسرائيليين، سواء أكانوا أحياء أم أمواتًا.
اللافت أيضًا في هذا الملف أن البيت الأبيض لا يتحدث -من قريب أو بعيد- عن حل الدولتين، أو إقامة دولة فلسطينية؛ بل لا تتضمن رؤية الإدارة الأمريكية الحالية أي رؤية للحل السياسي الطويل المدى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهناك من يدعو إلى تمكين إسرائيل بالكامل من الضفة الغربية، وطرد السكان الفلسطينيين خارج الخط الأخضر، وهذا ما يفسر إعلان إسرائيل بناء 22 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية، وحال استكمالها ستكون المستوطنات في جميع المناطق الرئيسة في الضفة الغربية، وهو ما يؤدي عمليًّا إلى فشل أي توجه نحو حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 4 يونيو 1967.
ثانيًا- التفاوض مع إيران
وفق بعض الروايات الإسرائيلية، فإن الرئيس ترمب لم يتشاور مع نتنياهو بشأن بدء المفاوضات مع إيران، لكن المفاوضات تُنسَّق بالكامل مع إسرائيل، فخلال الجولة الخامسة التي جرت بين طهران وواشنطن في العاصمة الإيطالية روما، كان هناك الوفد الإسرائيلي بقيادة رون ديرمر، وزير الشؤون الإستراتيجية، وقبل جميع جولات التفاوض الأخرى التقى ديرمر بمبعوث ترامب ستيف ويتكوف لتنسيق المواقف والاتفاق على الخطوط الحمراء الإسرائيلية، وهو ما يؤكد الاتفاق الكامل بين واشنطن وإسرائيل على الأهداف المشتركة، وهي عدم امتلاك إيران القنبلة النووية، والمراقبة الصارمة لأنشطتها النووية، سواء من خلال وكالة الطاقة النووية، أو من خلال العمل على تقليل مستوى التخصيب إلى المستوى العالمي للاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وهو 3.67%. ورغم الحديث عن عدم موافقة الرئيس ترمب على أي خطوة عسكرية إسرائيلية في أثناء المفاوضات مع إيران فإن كل التقديرات الإسرائيلية تقول إنه إذا هاجمت إسرائيل المواقع النووية الإيرانية فسوف يدعم البيت الأبيض هذا الهجوم، وإذا حاولت إيران الرد فإن الولايات المتحدة سوف تدافع عن إسرائيل.
ثالثًا- رفع العقوبات عن سوريا
تجدد الحديث عن الخلافات الأمريكية الإسرائيلية عندما قرر الرئيس ترمب رفع العقوبات الاقتصادية عن الحكومة السورية الجديدة في أثناء لقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض الشهر الجاري، لكن التفاصيل التي كُشف عنها بعد ذلك أكدت أن الإدارة الأمريكية كانت منخرطة بعمق في دراسة خياراتها في سوريا، وأن تل أبيب كانت تطّلع -دوريًّا- على كل الأفكار الأمريكية بشأن سوريا، ومنها رفع العقوبات، وكل ما قيل في هذا الأمر يشير فقط إلى أن وتيرة اتخاذ القرار الأمريكي رفع العقوبات عن سوريا ربما كانت أسرع مما تعتقده إسرائيل، وهو ما يقول في النهاية إنها ليست خلافات إسرائيلية أمريكية بشأن الملف السوري بقدر ما هو تعاون كامل، لكن الاختلاف فقط في التوقيتات والأدوات.
رابعًا-: دعم غير مشروط
تاريخ العلاقات الإسرائيلية الأمريكية يقول إن واشنطن ظلت تدعم إسرائيل سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا بدون أي شروط، وهناك نحو 600 ألف إسرائيلي يحملون الجنسية الأمريكية، كما أن آلاف الأمريكيين خدموا في الجيش الإسرائيلي، مثل حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتوس، والجندي الإسرائيلي الأمريكي الذي أطلق سراحه منذ أيام ألكسندر إيدان، وإسرائيل هي أكثر دولة في العالم تحصل على مساعدات عسكرية أمريكية، بل هي أكثر دولة في التاريخ حصلت على مساعدات عسكرية بنحو 400 مليار دولار في حال حساب نسبة التضخم طوال العقود الثمانية الماضية، ومنذ أبريل (نيسان) 2024 حصلت إسرائيل على نحو 24 مليار دولار مساعدات عسكرية أقرها الكونغرس في عهد حكومة جو بايدن، وعندما جاء ترمب سمح بتوريد كل صفقات القنابل الثقيلة التي جمدت إدارة بايدن تسليمها للحكومة الإسرائيلية.
الواضح أنه لا يوجد أي خلاف بين دولة إسرائيل والولايات المتحدة، وأي خلاف يتعلق فقط “بالأدوات”، وليس “بالأهداف”، وهذا الهامش البسيط في الخلاف بشأن “الأدوات” هو بين الإدارة الأمريكية وشخص نتنياهو، وليس بين الولايات المتحدة ودولة إسرائيل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.