لا يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترمب لديها رؤية واضحة للتعامل مع الإدارة الجديدة في سوريا، فعندما كانت تتحرك قوات هيئة تحرير الشام من إدلب باتجاه حلب وحماة وحمص، وقبل أن تصل إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، كان للرئيس ترمب -المنتخب حينذاك- موقف يقوم على عدم الانخراط في الشأن السوري، وقال مقولته الشهيرة “ليس للولايات المتحدة مصالح في سوريا، وعلينا ألا ننخرط في الأحداث السورية”.
لكن بعد مرور أكثر من 3 أشهر من حكم الإدارة السورية الجديدة، ومرور شهرين فقط على وصول ترمب إلى البيت الأبيض، تأكد أن واشنطن تحاول أن تجد طريقًا مشتركًا مع حكومة أحمد الشرع عندما التقت ناتاشا فرانشيسكي، نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون بلاد الشام وسوريا، في 18 مارس (آذار) الجاري، بوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وذلك في اجتماع خاص على هامش مؤتمر المانحين لسوريا في بروكسل، وقدمت واشنطن في هذا اللقاء حزمة من المطالب الأمنية والسياسية، في مقدمتها عدم تولي المقاتلين الأجانب من الإيغور الصينيين والشيشان الروس، وغيرهم من دول آسيا الوسطى والدول العربية، أي مناصب عسكرية في الجيش السوري، وتدمير دمشق مخازن الأسلحة الكيماوية المتبقية، وضرورة تقديم سوريا معلومات كاملة عن المجموعات الإرهابية المرتبطة بالقاعدة وداعش على الأراضي السورية، والتعاون في مكافحة الإرهاب، وتعيين منسق اتصال للعمل مع واشنطن بهدف استعادة الولايات المتحدة للصحفي الامريكي المختطف منذ عام 2012 أوستن تايس، مع ضرورة أن تكون العملية السياسية السورية شاملة، ولا تقصي أحدًا، وتقف على مسافة واحدة من كل السوريين.
في مقابل ذلك عرضت الولايات المتحدة تمديد الاستثناءات من العقوبات التي تسمح بدخول المساعدات الإنسانية لمدة 6 أشهر أخرى. ورغم حديث البعض أن الولايات المتحدة تطلب الكثير، وتقدم القليل جدًّا في هذا العرض، فإن لقاء الشيباني مع ناتاشا فرانشيسكي شكّل تحولًا كبيرًا في موقف واشنطن التي كانت بعض التصريحات السابقة ترفض الانخراط في أي حوار مع إدارة الشرع، وهنا السؤال: إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا التحول في الموقف الأمريكي؟ وهل الحكومة السورية جاهزة لتنفيذ بعض الشروط الأمريكية مثل طرد المقاتلين الأجانب من آسيا الوسطى والدول العربية، الذين شكّل ظهورهم بجانب أحمد الشرع، قلقًا للدول التي ينتمي إليها هؤلاء المقاتلون؟ وهل كل هذا يؤشر على أن واشنطن بات لها إستراتيجية جديدة وواضحة للتعامل مع سوريا؟
منذ الأحداث التي وقعت في سوريا بداية من مارس (آذار) 2011، حتى نهاية حكم الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لم يكن للولايات المتحدة رؤية أو إستراتيجية ثابتة وواضحة بشأن سوريا، وتغيرت الأهداف الأمريكية على مدار تلك السنوات، ففي الفترة من 2011 حتى نهاية 2016 في عهد بارك أوباما، كانت السياسية الأمريكية تهدف -بوضوح وصراحة- الى إسقاط نظام الأسد، وخصص الكونغرس ملايين الدولارات لدعم المقاتلين السوريين الذين كانوا يقاتلون حكومة الاسد، لكن عندما جاء الرئيس دونالد ترمب في ولايته الأولى من 20 يناير (كانون الأول) 2017 حتى 20 يناير 2021، كان تركيزه الأول هو هزيمة داعش بعد أن قال أوباما إن القضاء على داعش في سوريا والعراق سوف يستغرق عقودًا من الزمن، وبالفعل نجح ترمب في ولايته الأولى في القضاء على السيطرة المكانية والجغرافية لداعش عندما أسهم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في هزيمة داعش في آخر معركة لها في قرية الباغوز، وأعلن حينذاك الرئيس ترمب في مارس (آذار) 2019 القضاء على آخر جيب للتنظيم الإرهابي في الأراضي السورية، لكن عندما عاد الديمقراطيون إلى البيت الأبيض بقيادة جو بايدن تغيرت الأولويات الأمريكية من جديد، وكان تركيز الرئيس بايدن هو احتواء النفوذ الإيراني، وبعد بدء الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022 كان التركيز الأهم للولايات المتحدة هو مراقبة الوجود الروسي على الأراضي السورية.
هناك أحاديث كثيرة في مؤسسات صنع السياسيات الجمهورية بشأن أفضل الطرق للتعامل مع الإدارة السورية الجديدة، وتعكس الخطوات الأمريكية المترددة تجاه دمشق هذا التباين، الذي يدفع نحو 3 خيارات رئيسة، وهي:
الأول- تجنب المستنفع:
يتبني البعض في الإدارة الأمريكية رؤية تقول “إن أفضل شيء تفعله الولايات المتحدة في سوريا هو عدم فعل أي شىء”، ويطالب أصحاب هذه الرؤية بسحب كل القوات الأمريكية التي يصل عددها إلى نحو 2000 مقاتل، مع بعض المئات من العناصر اللوجستية، ويمكن إدارة الملف السوري من بعيد، سواء من خلال العلاقة مع تركيا، أو من خلال الفاعلين الأوروبيين، وتقوم حسابات هذا الفريق على أن الولايات المتحدة ليس لها مصالح في سوريا، وربما هذا ما عبر عنه الرئيس ترمب في ديسمبر (كانون الأول) الماضي قبل تسلمه الحكم، ويرى هؤلاء في الإدارة السورية الجديدة أنها لا يمكن أن تخلع “رداء التطرف والإرهاب”، وأنها لا يمكن أن تؤسس لمرحلة جديدة من السلام والاستقرار في سوريا، وأن الانخراط الأمريكي مع دمشق لن يعزز التطرف في المشرق العربي فحسب؛ بل في المنطقة العربية، وكل دول الشرق الأوسط.
الثاني- محور التفاعلات:
لكنّ هناك فريقًا يعتقد أن الولايات يمكن أن تكون محور التفاعلات السياسية والأمنية السورية، ولا يمكن أن تترك دولة لها مكانة إستراتيجية في الشرق الأوسط لفاعلين إقليميين آخرين يمكن أن يأخذوا سوريا في اتجاهات بعيدة عن المصالح الأمريكية. ويتبنى هذه الرؤية إريك تريجر، مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ويقول أنصار هذا الفريق إن للولايات المتحدة سلسلة من المصالح في سوريا وهي:
1-عدم إحياء النفوذ الايراني
يقول هذا الفريق إن وجود الولايات المتحدة العسكري والمدني في سوريا مهم جدًّا لمنع “إعادة النفوذ الإيراني” من جديد، ويربطون بين هذا الهدف وإستراتيجية الرئيس ترمب “للضغط الأقصى” على إيران، ويقولون إن سحب القوات الأمريكية من سوريا سيكون خطأ كبيرًا لن يضعف الولايات المتحدة في سوريا فقط؛ بل في العراق أيضًا، وإن للقوات الأمريكية في سوريا دورًا كبيرًا في منع وصول المساعدات الإيرانية إلى لبنان عبر الأراضي السورية، وإن كل هذا يمكن أن يساعد -في النهاية- على دفع طهران إلى مائدة التفاوض بشأن البرنامج النووي والصاروخي لإيران.
2- حماية الحلفاء
ويأتي الأكراد على رأس حلفاء واشنطن في سوريا، ويستدل هؤلاء بنفوذ واشنطن في وقف الهجوم التركي المدعوم من الجيش السوري الحر على قوات “قسد” التي شكلها الأكراد. كما أن الجيش الأمريكي أدى دورًا بارزًا في توقيع الاتفاق بين الإدارة الذاتية السورية بقيادة مظلوم عبدي والرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في فبراير (شباط) الماضي عندما نقل الجيش الأمريكي مظلوم عبدي بمروحية من القامشلي إلى دمشق لتوقيع اتفاق دمج قوات “قسد” في الجيش السوري، ومن شأن الانسحاب العسكري الأمريكي -وفق هذه الرؤية- أن يمهد لسحق الأكراد من قوات هيئة تحرير الشام والجيش التركي، بما يترك انطباعًا سلبيًّا في الشرق الأوسط بأن الولايات المتحدة تتخلى عن أصدقائها في المنطقة.
3- تحجيم الدور التركي
مع أن تركيا والولايات المتحدة عضوين في حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) منذ انضمام تركيا إلى الحلف عام 1952 فإن هناك اختلافًا في الأهداف بين البلدين في سوريا؛ ففي الوقت الذي تحارب فيه تركيا القوات الكردية في سوريا، تشكل الولايات المتحدة المظلة الأمنية والسياسية لأكراد سوريا، ودائمًا ما كانت واشنطن تعمل على أن يكون الأكراد “قوة حاجزة”، و”قوة مانعة” لما تسميه واشنطن باندفاعة أنقرة في الأراضي السورية؛ ولهذا انتقد الرئيس ترمب السياسة التركية في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي عندما قال إن ما جرى في سوريا قامت به وهندسته بالكامل الدولة التركية.
4-حماية المصالح الإسرائيلية
لا تزال بعض الأوساط الأمريكية والإسرائيلية تتشكك في نيات الحكومة السورية الجديدة تجاه إسرائيل، خاصة بعد سيطرة إسرائيل على مناطق شاسعة في ثلاث محافظات سورية، هي القنيطرة، والسويداء، ودرعا، وينظر هؤلاء إلى الانخراط والتفاعل الأمريكي السياسي والعسكري في سوريا بوصفه “ضمانة” لعدم انحراف السياسة السورية ضد إسرائيل، على غرار حكومة الأسد السابقة التي كانت تعمل ضد إسرائيل من منطلق مركزيتها في محور المقاومة.
5-عدم إحياء داعش
هناك اتفاق أمريكي أن داعش لديها كل الأدوات للعودة إلى سوريا في ظل تنامي العمليات التي يقوم بها التنظيم الإرهابي في سوريا، ووجود نحو 70 ألفًا من عائلات الدواعش في المخيمات السورية، وما يقال عن “أشبال الخلافة”، وهم أطفال مقاتلي داعش الذين قتلوا بداية من عام 2014 في سوريا والعراق، وترفض كثير من الدول استعادة هؤلاء الأطفال الذين أصبحوا أشبالًا في الوقت الحالي، وصاروا جاهزين للانخراط في أي أعمال إرهاب يقوم بها التنظيم، ويصر هؤلاء على أن انسحاب الولايات المتحدة، وعدم قدرة الأكراد على حماية هذه المخيمات التي تسكنها عائلات داعش، مثل مخيم الهول، سوف يُسهمان في إطلاق موجة جديدة من الإرهاب في المنطقة.
6- التطبيع مع إسرائيل
يراهن هذا الفريق على أن الوجود الامريكي في المشهد السوري سيكون حاسمًا في توجه الحكومة السورية ناحية التطبيع مع إسرائيل، وتقول تقديرات هذا الفريق إن أول دولة في المنطقة يمكن أن تطبع علاقاتها مع إسرائيل هي سوريا إذا قدمت إسرائيل مقاربة جديدة تقوم على نزع سلاح المناطق الجنوبية في سوريا مقابل إعادة تلك الأراضي إلى الحكومة السورية.
الخيار الثالث- خطوة بخطوة:
وهو تيار في الإدارة الامريكية يسعى أن يكون للولايات المتحدة التأثير دون الانخراط والتدخل في تفاصيل الملفات السورية، ويشدد هؤلاء على أن الدور الأمريكي يمكن أن يكون ضابطًا للتفاعلات السورية دون الانخراط العسكري أو السياسي؛ من خلال تعظيم دور المساعدات، ووضع شروط لرفع العقوبات، وخاصة عقوبات قانون “قيصر”، ويطلقون على هذه الإستراتيجية “خطوة بخطوة”؛ بمعنى ألا تقدم الولايات المتحدة أي دعم سياسي أو اقتصادي أو أمني لسوريا دون أن تقوم الحكومة السورية بخطوة مقابلها، وقدمت الولايات المتحدة نماذج على هذا التعاون عندما طلبت معلومات عن المجموعات الإرهابية السورية، لكنها في الوقت نفسه قدمت معلومات استخباراتية أمريكية أسهمت في إجهاض هجوم أعدت له داعش للهجوم على مرقد ومسجد السيدة زينب في قلب دمشق.
لم تقدم الحكومة السورية ردها على المطالب الأمريكية حتى الآن، لكن كل التقديرات تقول إن الحكومة السورية الجديدة سوف تستجيب لكثير من المطالب، خاصة تلك التي تتعلق بتدمير كل أسلحة الدمار الشامل، لكن يظل مصير نحو 8 آلاف من المقاتلين الأجانب المحك الحقيقي لتطور العلاقات الامريكية السورية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.