أبحاث ودراسات

هل تهدد انتخابات إيران الأخيرة شرعية نظام خامنئي؟


  • 26 مارس 2024

شارك الموضوع

بعد ما يقرب من ثلاثة أسابيع على الانتخابات الإيرانية، لا تزال الخلافات مستمرة بشأن النتائج، وطريقة إجراء الانتخابات في مجلس الشورى الإسلامي المعنى بسن القوانين، ومجلس خبراء القيادة المعنى باختيار المرشد وعزله، حيث أدى استبعاد المرشحين على نطاق عريض في تلك الانتخابات من جانب النظام إلى تجاهل كثير من الناخبين الإيرانيين لهذه السباقات، حيث حُسم 245 مقعدًا من أصل 290 في مجلس الشورى الإسلامي، وسيُحسم الـ45 مقعدًا الباقية في الجولة الثانية المُقرر إجراؤها في نهاية أبريل (نيسان) 2024، بعد أن فشل هؤلاء المرشحون في الحصول على النسبة اللازمة لدخول البرلمان.

جاءت نتائج الانتخابات التي أجريت في إيران مطلع مارس (آذار) الجاري، مُعبرة عن حراك الداخل الإيراني من جهة، وما ينتظر إيران وشعبها من تحديات في المرحلة المقبلة من جهة ثانية، حيث حددت الانتخابات الخريطة السياسية للبرلمان الإيراني في دورته الثانية عشرة، فيما انتُخِبَ أعضاء مجلس خبراء القيادة الإيرانية في دورته السادسة، ما يطرح تساؤلًا جوهريًّا مفاده: ما تداعيات هذه الانتخابات على سياسة إيران الإقليمية وسط الحرب على غزة والتوترات الإقليمية المرتبطة بها، التي تشمل الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية المدعومة من إيران؟ وما مصير شرعية النظام السياسي في ظل إستراتيجية الاستبعاد المتعمد التي ينتهجها خامنئي ضد المعتدلين؟

جيل جديد من المتشددين

في الأول من مارس (آذار) 2024، أجرت إيران انتخابات لبرلمانها ومجلس الخبراء، وهو الهيئة المؤثرة المسؤولة عن الإشراف على المرشد الأعلى وتعيينه، ولم يُظهر الجمهور الإيراني سوى قليل من الاهتمام بهذا السباق الانتخابي؛ فقد كانت نسبة الإقبال الأقل تاريخيًّا بنسبة 41 %، حيث شارك 25 مليون فقط من أصل أكثر من 61 مليون ناخب، رغم الحملات الدعائية التي مهدت لتلك الانتخابات، والتي استغلت الجانب الديني لفرض المشاركة واعتبارها واجبًا دينيًّا، إذ وصف المرشد الأعلى علي خامنئي مقاطعة الانتخابات بأنها عمل عدائي يتعارض مع الإسلام، كما صرح الحرس الثوري الإيراني بأن ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات يفشل حسابات العدو ضد إيران. فضلًا عن هذا، قبل مجلس صيانة الدستور ترشيح عدد كبير من المرشحين، بلغ نحو 15 ألفًا مرشح، على أمل زيادة نسب المشاركة في الانتخابات. بجانب هذا، أشارت بعض المصادر إلى استخدام النظام الإيراني سلاح الترهيب لإجبار المواطنين على المشاركة، من خلال التهديد بحرمانهم من الرواتب، أو وظائفهم، أو بعض المزايا.

في هذا السباق، كشفت الانتخابات الإيرانية تراجعًا في فرص المحافظين التقليديين، بعد أن خسرت قائمة النائب السابق في مجلس الشورى علي مطهري في الانتخابات البرلمانية؛ نتيجة عزوف القطاعات الشعبية المؤيدة للإصلاحيين والمعتدلين عن المشاركة في التصويت، فيما فشل آية الله صادق لاريجاني، الذي حل في المركز الخامس بين مرشحي دائرة مازندران، في الاحتفاظ بمقعده في مجلس خبراء القيادة، مع أنه أحد أفراد أشهر العائلات السياسية في إيران. فضلًا عن هذا، أخفق محمد باقر نوبخت- مساعد الرئيس السابق حسن روحاني- في تجديد مقعده للمرة الخامسة في البرلمان نائبًا عن مدينة رشت.

كانت القوائم المحافظة غير المؤسسية تتألف في الغالب من شخصيات متشددة. وعلى عكس الإصلاحيين والمحافظين المعتدلين، الذين أظهروا بعض الاستعداد للتكيف والتسوية بشأن قضايا معينة، فإن المتشددين يسعون إلى نسخة صارمة وانتقائية من الشريعة الإسلامية، ويرفضون أي إصلاحات قد تهدد سلطتهم أو أيديولوجيتهم، وهم أكثر تشككًا أو معارضة للمشاركة مع القوى الغربية، حيث تصدر المحافظون الأصوليون نتائج الانتخابات الإيرانية الأخيرة، وأشارت بعض التقديرات إلى فوز 200 من أصل 245 مرشحًا، من التيار الأصولي في هذه الانتخابات، ويرجع السبب وراء ذلك إلى الإجراءات التي اتخذها النظام الإيراني، وعلى رأسها منع مجلس صيانة الدستور، ولجنة الانتخابات في وزارة الداخلية الإيرانية، أغلب المتقدمين للترشح للانتخابات، سواء من التيار الإصلاحي أو من المعتدلين أو من المستقلين، وكان من أبرز مَن مُنِعُوا الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، الذي استبعد من الترشح لانتخابات مجلس الخبراء، مع أنه كان عضوًا في هذا المجلس ثلاث دورات متتالية، منذ عام 1999.

لكن المواجهة الأبرز كانت في طهران، حيث تنافست على المقاعد البرلمانية الثلاثين مجموعة من المرشحين الذين ظهروا على قوائم من مختلف الفصائل المحافظة، لكن القائمة المعتدلة الوحيدة التي تُسمى صوت الأمة، والتي يقودها علي مطهري، فشلت في تأمين أي مقاعد بسبب انخفاض نسبة إقبال الناخبين والغموض النسبي لمرشحيها، وشهدت المنافسة بين المحافظين في العاصمة صعود بعض المرشحين الذين كانوا وافدين جددًا على السياسة الانتخابية، ولم يلتزموا بالخط المحافظ السائد، إذ تحدوا القائمة المحافظة التي كان يقودها محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان، والقائد السابق للحرس الثوري الإسلامي، الذي يتمتع بمسيرة سياسية طويلة تشمل الترشح للرئاسة، والعمل عمدة طهران. والجدير بالإشارة أن الثلاثة الذين حصلوا على أعلى الأصوات في طهران جميعهم أعضاء في جبهة استقرار الثورة الإسلامية، وهي المجموعة السياسية الأكثر أصولية داخل الطيف السياسي للجمهورية الإسلامية، ويتمتع ساستها بسجل حافل في معارضة كل من المحافظين المعتدلين والإصلاحيين، وكانوا من أشد المنتقدين لإدارة روحاني المعتدلة.

ورغم كل الدلالات المقلقة التي حملتها الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فإن نتائجها عكست تحولًا ملحوظًا في السلوك التصويتي للناخبين، وبدلًا من التصويت تصويتًا موحدًا لقائمة المرشحين من فصيل واحد، قام كثير من الناخبين باختياراتهم الخاصة من قوائم مختلفة، ما قد يعد علامة على زيادة النضج السياسي، باختيار مزيج من المرشحين من الخيارات المتاحة. وبالرغم من سيطرة الأصوليين على نتائج الانتخابات، فإنها شهدت متغيرًا جديدًا يتعلق بظهور وجوه جديدة من الأصوليين، بما يعني أن جيلًا أصغر من المتشددين في طريقه إلى أن يحل محل الجيل السابق، الذي تجاوزت أعمار بعضه التسعين عامًا، وربما يهدف النظام الإيراني من تلك الخطوة إلى إعداد جيل جديد يكون أكثر استعدادًا للتغييرات المحتملة في ضوء إمكانية تغيير المرشد الحالي، في حال عجزه أو وفاته.

أزمة شرعية

على مدى عقود من الزمن، استخدمت المؤسسة الدينية في إيران نسبة إقبال الناخبين على أنها دليل على  شرعيتها، وخاصة في نظر العالم الخارج، لكن في الانتخابات البرلمانية الإيرانية الأخيرة، قاطع غالبية الناخبين تلك الانتخابات، وكانت نسبة إقبال الناخبين هي الأدنى في تاريخ الجمهورية الإسلامية، في حين أعرب أولئك الذين صوتوا، وأغلبهم من القاعدة الموالية للحكومة، عن استيائهم من الوضع الراهن؛ إما بإفساد أصواتهم، وإما برفض مرشحي المؤسسة الرئيسين؛ ما جعل إيران تواجه حاليًا أزمة داخلية حقيقية، خاصةً مع تصاعد المشاعر المناهضة للمؤسسة بين عامة الناس، واندلاع الاحتجاجات غير المسبوقة ضد السلطات في الأعوام الأخيرة، لا سيما في ظل الاحتجاج الشعبي المستمر الذي بدأ في سبتمبر (أيلول) 2022 تحت شعار “المرأة، الحياة، الحرية”، والذي هز ركائز النظام.

ومع اكتساب الفصائل الأكثر تشددًا في الجمهورية الإسلامية مزيدًا من السلطة، يواجه النظام ككل أزمة شرعية متنامية، ويظهر التكوين الضيق أيديولوجيًّا لتلك الهيئة أن المرشد الأعلى الحالي، آية الله علي خامنئي، البالغ من العمر 84 عامًا، قرر الاستعداد لخلافته من خلال ضمان عدم خروج اختياره عن مساره بسبب المعارضة داخل النخبة الحاكمة، فلأكثر من عشرين عامًا، عمل خامنئي بلا هوادة على غربلة النخبة السياسية، وتحويل كثير من أعضاء المؤسسة السابقين إلى منشقين ساخطين، وفي الجولة الحالية من الانتخابات استبعد النظام العشرات من الموالين للنظام الذين لم ينجحوا بعد في حشدهم. لقد زود خامنئي جميع القطاعات الحيوية في الحكومة بأمثال الرئيس إبراهيم رئيسي.

فالمرة الأخيرة والوحيدة التي اختارت فيها إيران مرشدًا أعلى جديدًا كانت في عام 1989، عندما توفي مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخميني، وفي ذلك الوقت، كان النظام لا يزال يتمتع بقدر من الدعم الشعبي، وكانت النخبة السياسية الإيرانية ذات ثقل سياسي، وربما كان اختيار خامنئي خليفة للخميني مفاجأة للكثيرين؛ نظرًا إلى مؤهلات خامنئي الدينية الباهتة، لكن النخبة السياسية سرعان ما احتشدت خلفه، لكن اليوم، غابت جميع العناصر التي أدت إلى نجاح عملية الخلافة عام 1989، وانقطعت الروابط بين الدولة والمجتمع، وأصبح أكثر من 70 % من السكان يريدون فصل الدين عن الدولة، حيث ينتشر السخط على نطاق عريض، لأسباب ليس أقلها أن 60 % من الإيرانيين يعيشون الآن في فقر نسبي، وحتى النخبة المقربة، التي كانت تشكل عماد الدعم الشعبي للنظام، خرجت إلى الشوارع بأعداد كبيرة لإثارة قلق الثيوقراطية الإيرانية.

ولعل التهديد الأسوأ لشرعية النظام يتمثل في استعداء النخبة ذات الشعبية الواسعة لدى الإيرانيين، حيث ثار الجدل بشأن الحكم الذي أصدره مجلس صيانة الدستور باستبعاد مرشحي مجلس الخبراء من كبار السياسيين، ومنهم الرئيس السابق حسن روحاني، الذي دعا المجلس إلى تقديم تفسيرات لعدم أهليته، لكن مجلس صيانة الدستور ترك جميع استفساراته دون إجابة، بل إن الشكاوى التي قدمها روحاني ليست الوحيدة التي أُرسلت إلى مجلس صيانة الدستور، حيث أعلن الحرس الثوري الإيراني– منذ أيام- أن مجلس صيانة الدستور تلقى أكثر من 7000 شكوى بشأن الانتخابات في ثلاث مدن فقط، تتعلق معظمها بتخويف الناخبين ومسؤولي الانتخابات في يوم التصويت، والاعتداء والضرب ضد الناخبين، ومنهم النساء، والقتال في مراكز الاقتراع، ومنع الناخبين من التصويت، والهجوم على المركبات الخاصة، وتشويه أوراق الاقتراع، وإعلان النصر المبكر، ومع ذلك، لم يوضح الحرس الثوري أي تفاصيل عن نتائج تلك الشكاوى؛ ما يضع النظام أمام سخط داخلي يقوض شرعيته على مستوى النخبة والشعب معًا.

مصير النظام

سمحت الانتخابات الأخيرة للمتشددين بتعزيز سيطرتهم، وتهميش البراغماتيين على نحو خطير، وإزاحة الإصلاحيين من مستويات السلطة، حيث سيخضع البرلمان والرئاسة والنظام القضائي لسيطرة المتشددين، وجميعهم يتبعون المرشد الأعلى، ومن المرجح أن يكون هذا الاصطفاف بين الفصائل على القمة تعزيزًا لوجهات النظر المتشددة بشأن سياسات إيران الداخلية والخارجية. وعلى الصعيد الخارجي للسباق الانتخابي المشتعل في البلاد، تنظر السلطات الإيرانية إلى الحرب في غزة، والقتل الإسرائيلي العشوائي للفلسطينيين، ودعم الولايات المتحدة لإسرائيل رغم الإدانة العالمية الواسعة النطاق، على أنها دليل على موقفها المتشدد تجاه إسرائيل، وكانت إيران تعارض- بشدة- تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. ومع تراجع الدول العربية، مثل الإمارات والبحرين، عن التزامها بالاتفاقيات في مواجهة الفظائع الإسرائيلية، تجدد السلطات الإيرانية اعتقادها بأنها تسير على الطريق الصحيح؛ ونتيجة لذلك، فمن المرجح أن تشدد القيادة الإيرانية على موقفها تجاه الولايات المتحدة، الذي كان عنصرًا ثابتًا في السياسة الخارجية الإيرانية لأكثر من أربعة عقود.

هذا يعني أن هذا العداء الإيراني تجاه الولايات المتحدة سوف يشكل تحديات كبيرة للمنطقة، وتظل الولايات المتحدة تتمتع بعلاقات جيدة مع الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، وأي اشتعال للتوترات بين إيران والولايات المتحدة من شأنه أن يشكل أخطارًا أمنية وسياسية قد تجتاح المنطقة، وتتمثل الأخطار الأكثر أهمية في إغلاق مضيق هرمز لشل تدفق حركة المرور البحرية، والإضرار بالمصالح الأمريكية، فضلًا عن الاقتصاد العالمي، وتفعيل مختلف المجموعات شبه العسكرية المتحالفة مع إيران لاستهداف الأصول الأمريكية في دول مجلس التعاون الخليجي. وهذه ليست خيارات فورية لإيران، ولكن مع تصاعد التوترات يتزايد الخطر، لا سيما إذ كانت السلطة في يد المتشددين.

وبالنظر إلى مستقبل الداخل الإيراني، فقد أنشأ خامنئي نظامًا أصبح الآن أقرب إلى مجرد التوصيل والتشغيل، حيث لا يتعين على خليفته أن يكون بارعًا حتى يتمكن من جني نتائج مماثلة، فبعد اغتيال إدارة ترمب للعقل المدبر للحرس الثوري الإسلامي قاسم سليماني، لم يتخلف خليفته الأقل إثارة للإعجاب، إسماعيل قاني، عن سلفه في استخدام الوكلاء لمهاجمة أعداء النظام، ومع ذلك، تظل مخططات خامنئي الكبرى ضعيفة في جوهرها؛ لأن أغلب الإيرانيين لا يتمتعون بمزاج إسلامي، أو إمبريالي، فإذا كانت المحاولات الغربية جادة في كبح جماح إيران، فسوف يكون لزامًا عليها استهداف إيران من المركز من خلال إثقال قدرة الثيوقراطية على التعامل مع غضب مواطنيها.

خاتمة

محصلة القول أن خامنئي وضع إيران والشرق الأوسط في ديناميكية تصعيدية في سياق الانتخابات الأخيرة، من شأنها أن تدوم بعده، وقد تؤدي إلى تبادل دموي يدوم سنوات كثيرة، ففي نهاية المطاف، قد يؤدي صعود الفصائل الأصولية للسلطة إلى الفشل، بل يؤدي ذلك إلى تآكل آفاق الإصلاحات المطلوبة عاجلا، إذ يكمن نذير الخلاف المحتمل في الانقسام المتزايد بين المحافظين بشأن القضايا المجتمعية، وقد يكون ذلك مقدمة لسلسلة متصاعدة من الصراعات بين المحافظين داخل نظام في حاجة ماسة إلى الإصلاح، ولكن مع أن الانتخابات الإيرانية كانت مهمة في الماضي، فمن غير المرجح أن تحدث هذه الانتخابات فارقًا كبيرًا، على الأقل فيما يتعلق بالبرلمان، فمن المتوقع أن يتحالف البرلمان الجديد- أيًّا ما كانت خلفيته- مع إدارة الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، ويدعم سياساتها الرئيسة، ومنها ما يتعلق بالشؤون الخارجية.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع