تثير “ألسنة اللهب” التي تشتعل في مختلف أرجاء المعمورة الخوف والقلق من انزلاق البشرية- من جديد- نحو “حرب عالمية ثالثة”. ومع أن هذا القلق والخوف له منطقه ومبرراته وأسبابه، فإن المدقق في طبيعة “التفاعلات السياسية والعسكرية والأمنية” في الإقليم العربي، والشرق الأوسط، ومختلف البقاع الساخنة في شرق أوروبا، وشرق وجنوب شرق آسيا، يتأكد له أن جعبة البشرية لا يزال فيها “نصيب من الحكمة والتعقل” الذي يقول بوضوح إن عالم اليوم غير مستعد، بل غير راغب في دخول “حرب عالمية ثالثة”، ليس فقط لإدراك صانع القرار أن هذه الحرب قد تشكل “النهاية الوجودية” للبشرية ذاتها على كوكب الأرض؛ بل أيضًا لوجود مساحة من “اليقين” بأن عالم اليوم، بما فيه من تشظٍ وحروب وخلافات، لن تحل “الحرب العالمية الثالثة” مشكلاته تلك، فالحقيقة التي أدركها الجميع أن الحربين العالميتين الأولى والثانية انتهت على طاولة الحوار والمفاوضات، لكن هذا لا يعنى أن الصراعات الإقليمية والخلافات الثنائية لا يمكن أن تتحول إلى حروب، “لكن ما دون الحروب العالمية”، فرغم المآسي والتضحيات الكبيرة التي تخلفها “الصراعات الثنائية”، و”الحرب بالوكالة”، فإنها تشكل “المتنفس السياسي” لعدم الرضوخ لنزوات الحروب العالمية التي اجتاحت العالم مرتين من قبل، فالمؤكد أن التداعيات السياسية والعسكرية والاقتصادية للعقوبات الغربية على روسيا، والتجاذبات السياسية في الشرق الأوسط وآسيا، أضعفت “شهية الحرب” لدى الكثيرين، فإذا كان العالم لا يزال يكافح من أجل تجاوز تداعيات جائحة كورونا، والمشكلات في سلاسل الإمداد، وتداعيات الحرب في أوكرانيا، فكيف له أن يدخل في “حرب عالمية ثالثة”؟ وإذا كانت المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ونادي باريس، تكافح من أجل تحقيق نمو إيجابي للاقتصاد العالمي، وتخفيض التضخم، وخلق فرص العمل، وعدم الانزلاق نحو التباطؤ والركود الاقتصادي، فكيف لهذا الاقتصاد أن يمول “حربًا عالمية ثالثة”؟
كل ذلك يدفع إلى السؤال الكبير: ما العوامل السياسية والعسكرية التي تقول بوضوح إن العالم لا يمكن أن ينزلق إلى “حرب عالمية ثالثة”، على الأقل في هذا الجيل؟ وكيف يمكن تعميق هذه العوامل حتى يظل خيار “الحرب العالمية الثالثة” بعيدًا عن متناول من يملكون القرار في إعلان “الحرب العالمية الثالثة”؟
هناك كثير من الحسابات والتقديرات التي تقول إن العالم على شفا “حرب عالمية ثالثة”، وتنطلق هذه الخلاصات من الواقع العالمي الحالي الذي يشبهه البعض بالأجواء التي سادت قبل الحربين الأولى والثانية، ومن أهم المؤشرات على تلك الحسابات هي:
أولًا: ازدراء القانون الدولي والأمم المتحدة
ويتضح هذا في عجز الأمم المتحدة في تحقيق الأهداف التي صاغها الآباء المؤسسون في مفاوضات تأسيس المنظمة الدولية في سان فرانسسكو عام 1944، التي كانت تدعو إلى تفضيل الحلول السياسية والسلمية والخيارات الدبلوماسية بعيدًا عن “الأدوات الخشنة” و”لغة البندقية والرصاص”، فخلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منعت إسرائيل موظفي الأمم المتحدة من دخول إسرائيل والأراضي المحتلة، كما لم تلتزم تل أبيب بالقرار 2027 الذي يدعو إلى دخول مزيد من المساعدات الإنسانية للقطاع، وأكثر من ذلك أن إسرائيل رفضت جميع قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي التي تدعو إلى وقف إطلاق النار، كما لم تلتزم إسرائيل بقرارات محكمة العدل الدولية، وهي أحد أذرع الأمم المتحدة القضائية، وسبق هذا انسحاب الولايات المتحدة من كثير من المنظمات الدولية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، مثل انسحاب واشنطن من اليونسكو، ومنظمة الصحة العالمية، ورفضت الولايات المتحدة محاسبة جنودها أمام أي محكمة دولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، وكل هذا يقلص الثقة بالقانون الدولي، والأمم المتحدة، فغالبية الشعوب العربية والإسلامية وكل الأحرار في العالم فقدوا كثيرًا من ثقتهم بالقانون الدولي بعد استخدام الولايات المتحدة حق النقض “الفيتو” رقم 45 لمنع اعتراف مجلس الأمن بقيام الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو (حزيران) عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
ثانيًا: التحالفات العسكرية
يرى البعض في توسع التحالفات العسكرية بأنه يتشابه مع تحالفات المحور والحلفاء التي وسمت الحربين العالمية الأولى والثانية، فحلف الناتو الذي تأسس منذ 75 عامًا في أبريل (أيلول) عام 1949 بات يتوسع ويضم دولًا كثيرة كانت في السابق ضمن دول حلف “وارسو”، ووصل عدد أعضاء حلف دول شمال الأطلسي “الناتو” إلى 32 دولة بعد انضمام فنلندا في 4 أبريل (نيسان) 2023، في حين انضمت السويد إلى الناتو في 7 مارس (آذار) الماضي إلى الحلف، كما أسس الرئيس الأمريكي جو بايد “تحالف أوكوس” العسكري في 15 سبتمبر (أيلول) 2021، ويضم بالإضافة إلى الولايات المتحدة كلًا من المملكة المتحدة وأستراليا، كما يتم تعزيز وتقوية “تحالف كواد الرباعي” الذي يضم اليابان والهند وأستراليا والولايات المتحدة، فضلًا عن التحالف الاستخباراتي “العيون الخمس” الذي يضم كندا، وأستراليا، ونيوزيلاند، وبريطانيا، والولايات المتحدة، ولا يمكن تجاهل التقارب الكبير في المواقف والسياسات الصينية مع روسيا وإيران وكوريا الشمالية، التي تعززها تكتلات تجارية كبيرة، منها “منظمة شانغهاي” و”تجمع بريكس”.
ثالثًا: عسكرة “الحدائق الخلفية”
وهو أمر يكشفه الاقتراب العسكري والسياسي من أراضي الخصوم والمنافسين، فالولايات المتحدة تنشط بقوة في غرب المحيط الهادئ وشرق وجنوب شرق آسيا، وتصر على بناء تحالفات عسكرية مضادة للصين مع كوريا الجنوبية واليابان وفيتنام والفلبين وأستراليا، وبعض جزر المحيط الهادئ، وهو الاقتراب نفسه من الحدود الروسية في البحر الأسود، وبحر البلطيق، والقطب الشمالي، وردت الصين وروسيا على هذا التقارب الأمريكي من حدودها بمنافسة واشنطن وحلفائها الغربيين في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولعل كوبا خير دليل على قدرة الصين وروسيا من الاقتراب من الأرضي الأمريكية، حيث لا تبعد كوبا حليفة الصين وروسيا أكثر من 90 ميلًا بحريًّا عن ولاية فلوريدا الأمريكية.
رابعًا: التوسع في القواعد العسكرية
ينظر الكثيرون للتوسع في بناء القواعد العسكرية في الخارج بأنه تحضيراً ” للحرب العالمية الثالثة” ، والإشارة هنا بشكل خاص لزيادة “الأصول والقواعد العسكرية في الجناح الشرقي لحلف الناتو” الذي يضم مجموعة بودابيست التسع”، وهي “بولندا، والمجر، والتشيك، وسلوفاكيا، وبلغاريا، ورومانيا، ولاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا”، بالإضافة إلى القواعد الأمريكية الجديدة قرب الصين في اليابان، وفيتنام، والفلبين، وأستراليا.
على الصعيد الروسي والصيني، زاد التعاون العسكري بين روسيا من جانب ودول مهمة في إفريقيا، وفي أمريكا اللاتينية، خاصة فنزويلا، وبات هناك تعاون عسكري روسي مع كلٍ من إفريقيا الوسطى، والنيجر، وبوركينافاسو، ويرتبط التوسع في القواعد العسكرية بزيادة الإنفاق العسكري الذي وصل عام 2023 إلى أكثر من 2.3 تريليون دولار وفق بيانات معهد ستوكهولم للسلام، وهو رقم قياسي بكل معاني الإنفاق العسكري خلال العقود الماضية.
خامسًا: انقسام حاد بشأن “القيم السياسية”
ينظر العالم بقلق إلى التباين الحاد بشأن “القيم السياسية” التي يؤمن بها، ويروج لها كل طرف، فالرئيس الأمريكي جو بايدن أسس لما يراه “تحالف القيم”، وعقد له اجتماعًا عام 2021، وضم هذا التحالف نحو 100 دولة، منهم دول الاتحاد الأوروبي، وكندا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا، والهند، وهي قيم تعتمد على الديمقراطية بشكلها الغربي، في حين تشكك روسيا والصين في النظام العالمي الحالي القائم على هذه “القواعد”، وهي القواعد السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية الموروثة منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، وتدعو روسيا والصين إلى “مصفوفة من القيم” خاصة بهما، ومنها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واحترام النمط التنموي لكل دولة، وبناء علاقات قائمة على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.
سادسًا: الحسابات الصفرية والأنانية السياسية
أكثر ما يقلق البشرية من اندلاع “حرب عالمية ثالثة” هو تمسك القوى الكبرى “بالحسابات الصفرية” و”الأنانية السياسية”، فكل طرف يريد الحصول على كل شيء، وينكر على الطرف الثاني أي شيء، فالرئيس جو بايدن تعهد أن الولايات المتحدة سوف تظل على قمة العالم بأقوى جيش، وأقوى اقتصاد في العالم، حيث تنفق الولايات المتحدة نحو 886 مليار دولار على الجيش الأمريكي، لكن على الجانب الآخر، ترى دول مثل الصين، وروسيا، والبرازيل، أنه حان الوقت لعالم “متعدد الأقطاب”، وهو ما يعني نهاية لعالم “القطب الواحد” الذي تتمسك به واشنطن منذ انهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991.
رغم حقيقة وواقعية كل الأسباب السابقة التي تدفع العالم نحو “الحرب العالمية الثالثة”، فإن كل ما سبق يشكل فقط “نصف الحقيقة”، في حين يقول النصف الآخر إن العالم غير مستعد “لحرب عالمية ثالثة”؛ لأسباب كثيرة، منها:
أولًا: الاعتمادية الاقتصادية
باتت الاقتصادات الكبرى للدول المتنافسة سياسيًّا وعسكريًّا أكثر ارتباطًا واعتمادًا بعضها على بعض من أي وقت مضى من التاريخ الإنساني، ولعل ما جرى من نقص في سلاسل الإمداد في أثناء جائحة كورونا وبعدها، كشف للعالم مدى الاعتمادية التي تعتمد عليها كل دولة على الدول الأخرى، فالمواطن الأوروبي يترحم على الأيام التي كان يأتي فيها الغاز الروسي الرخيص الذي أسهم في رخاء المواطنين الأوروبين على مدى العقود الماضية.
ورغم التنافس الصيني الأمريكي على تايوان وبحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، والسباق المحموم للحصول على أفضل الأسلحة وأكثرها فتكًا، فإن كل هذه الخلافات عجزت أن “تفصل” الاقتصاد الأمريكي عن الاقتصاد الصيني، وبلغ حجم التجارة بين الصين من جانب والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والآسيويين من جانب نحو تريليوني دولار عام 2023، منهم نحو 700 مليار دولار حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين، و900 مليار دولار بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي، وما يزيد على 330 مليار دولار بين الصين واليابان، وما يصل إلى نحو 220 مليار دولار بين الصين وكلٍ من كوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، ولا يمكن للصين أو الولايات المتحدة أن تغامر بكل هذه التريليونات للدخول في نزاع مسلح، أو حروب تقود إلى حرب عالمية ثالثة.
ثانيًا: الخطوط الساخنة والقناعات الخاطئة
رغم الصراعات والتنافس في كل مكان، وعلى كل شيء، ما زالت “الخطوط الساخنة” تعمل بين القوى المتصارعة والمتنافسة حتى لا يقع أي طرف في “القناعات الخاطئة” تجاه الطرف الآخر، وخير مثال على هذا الخطوط الساخنة والقنوات الدبلوماسية التي يتواصل بها البيت الأبيض مع الكرملين، ولعل الاتصال الثاني خلال أقل من شهر بين وزير الدفاع الروسي أندريه بيلاوسوف ونظيره الأمريكي لويد أوستن خير شاهد على استمرار دبلوماسية “الخطوط الساخنة”، كما أن الزيارات لم تتوقف يومًا بين الصين والولايات المتحدة، رغم كل الخلافات.
ثالثًا: نقص السلاح والذخيرة
أكثر الأسباب التي تدفع الدول الصغرى والمتوسطة والكبرى والعظمى في التفكير ألف مرة قبل دخول “حرب عالمية جديدة” هو النقص الحاد في السلاح والذخيرة لدى جميع المدارس العسكرية في العالم، وخير شاهد على هذا الأمر أن 27 دولة في الاتحاد الأوروبي، ومعها باقي دول دول حلف شمال الأطلسي “الناتو”، فشلوا في تأمين مليون قذيفة مدفعية لأوكرانيا خلال عام 2023، كما أن نحو 50 دولة من داعمي أوكرانيا عسكريًّا، لم يتخيلوا أن يستهلك الجيش الأوكراني وحده نحو 250 ألف قذيفة مدفعية في الشهر الواحد، فكيف لهذا العالم أن يدخل حربًا عالمية على جبهات متعددة في ظل هذا النقص الحاد في السلاح؟ وتشير كل التقديرات إلى أن الأسلحة الحديثة تحتاج إلى سلاسل إمداد ضخمة ومعقدة، ولهذا تحتاج إلى وقت طويل، فصواريخ مثل جافلين وستينجر، التي تستخدم على نطاق عريض في أوكرانيا، يجري تجميع الصاروخ الواحد منها من أكثر من 16 ولاية أمريكية، فضلًا عن بعض قطع الغيار التي يشارك في تصنيعها حلفاء من “الناتو”، ولهذا فإن الولايات المتحدة لم تستطع حتى اليوم تعويض ما قدمته من تلك الصواريخ للجيش الأوكراني منذ 24 فبراير (شباط) 2022، وتعاني شركات إنتاج السلاح الأمريكية من كثرة الطلبيات التي يتقدم بها الحلفاء والشركاء من مختلف دول العالم، فهناك ضغط غير مسبوق على الطائرات الأمريكية، وخاصة طائرات الجيل الخامس “أف 35″، كما يعاني العالم قلة الإنتاج في منظومات الدفاع الجوي، والمضادات الأرضية، في ظل التوسع الكبير في استخدام الطائرات المسيرة “الدرونز”، فكيف لهذا العالم أن يخوض “حربًا عالمية ثالثة” لن تكون فقط في البر والبحر والجو؛ بل سوف تكون في الفضاء أيضًا؟
رابعًا: خطر وجودي
رغم كل الأحقاد والكراهية بين مختلف الدول والخلافات، والتنافس الحاد بين عدد من الأمم، فإن هناك إدراكًا عالميًّا بأن أي حرب عالمية جديدة يمكن أن تقضي على الجنس البشري، خاصة إذا جرى استخدام السلاح النووي وباقي أسلحة الدمار الشامل، فدول النادي النووي التسع لديها ما يقرب من 15 ألف رأس نووي، كما أن 6 دول على الأقل لديها “المثلث النووي”، أي القدرة على توصيل الرأس النووي إلى الهدف عبر الطائرات أو الصواريخ، أو حتى من بطون البحار والغواصات، وهو ما يقول بوضوح إن اندلاع “حرب عالمية ثالثة” قد يعني نهاية البشرية وفناءها، وهي مخاطرة لا يوجد عليها أي مؤشر في الوقت الحالي، وهو ما يشجع الجميع على تبني “مقاربات سياسية” تقوم على ابتكار “المساحات المشتركة”، والحلول الوسط بين جميع الفرقاء، سواء أكان الصراع على المستوى الثنائي، أم الإقليمي، أم حتى الدولي.
المؤكد أن البشرية تحتاج إلى السلام والاستقرار، وحل النزاعات والصراعات بالطرق السلمية، والدبلوماسية، والسياسية، وليس لغة البندقية والرصاص، التي ثبت فشلها في حل مختلف أنواع الصراعات.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.