تصاعدت حدة الخطاب السياسي والإعلامي الإيراني خلال الأسابيع الأخيرة ردًّا على تهديدات “الترويكا الأوروبية”، التي تضم بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بإعادة فرض العقوبات الأممية على إيران، أو ما يطلق عليها “آلية سناب باك”. تعني هذه الآلية توجه “الترويكا الأوروبية” إلى الأمم المتحدة، وإبلاغ المنظمة الدولية بأن إيران “لم تلتزم” بتنفيذ ما عليها من استحقاقات خلال السنوات العشر الماضية من اتفاق “5+1” الذي وقّعته إيران في يوليو (تموز) 2015 مع ألمانيا والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. وتشير كل التوقعات إلى أن إعادة فرض العقوبات الأممية من جديد على إيران في شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل يمكن أن يدفع إيران إلى الانسحاب من “معاهدة منع الانتشار النووي” (NPT).
ومع تأكيد الرئيس ترمب أن بلاده مستعدة -مرة أخرى- لضرب إيران للتأكد من عدم سعيها إلى امتلاك سلاح نووي، رفضت طهران -بحزم- تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية منشآتها النووية مرة أخرى، أو حتى السماح للوكالة الدولية بالوقوف على الحالة التي وصلت إليها المنشآت النووية الإيرانية بعد القصف الأمريكي والإسرائيلي لهذه المنشآت في شهر يونيو (حزيران) الماضي. ورغم بدء الاتصالات والزيارات بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن طهران تعتقد أن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية قبل 13 يونيو (حزيران) الماضي هو الذي شجع إسرائيل والولايات المتحدة على قصف إيران، وأن الوكالة الدولية رفضت إدانة الهجوم الأمريكي والإسرائيلي على المنشآت النووية التي كانت تخضع بالفعل لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بموجب توقيع إيران على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. وفي جميع التصريحات، تؤكد إيران مجموعة من المطالب، منها حقها في برنامج نووي سلمي، وهو ما يتنافى مع سعي الرئيس ترمب وإسرائيل إلى إجبار إيران على “صفر تخصيب” لليورانيوم، و”صفر أجهزة طرد مركزي” التي تقوم بالتخصيب، وتفكيك ما تبقى من المنشآت النووية حتى لو كانت صغيرة ومخصصة للأبحاث العلمية. فهل هذه الفجوة بين طهران من جانب وواشنطن وتل أبيب من جانب آخر يمكن أن تقود إلى “حرب جديدة” بين الطرفين؟ وما الخيارات الأخرى أمام طهران وتل أبيب وواشنطن بعيدًا عن خيار المواجهة المباشرة؟ وهل بالفعل يشكل الخيار العسكري الخيار الأفضل للدول الثلاث أم ما زالت هناك فرصة للدبلوماسية؟
تستبعد كل المؤشرات الحالية والمتوقعة في المدى المنظور أي مواجهة مباشرة جديدة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل والولايات المتحدة على غرار ما جرى في حرب الـ12 يومًا. ويعود استبعاد استئناف المواجهات العسكرية المباشرة إلى عدد من الأسباب والمؤشرات، منها:
أولًا- فشل الخيار العسكري
رغم الأضرار الشديدة التي لحقت “بالمنشآت النووية” الإيرانية، فإن البرنامج النووي الإيراني الذي يقوم على نحو 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنحو 60%، ونحو 16 ألف عالم نووي، لم تستطع إسرائيل والولايات المتحدة القضاء عليهم خلال الحرب المباشرة؛ ومن ثم فتكرار المحاولة لن يؤدي إلى أي نتيجة مختلفة وفق كل التقديرات الأمريكية خلال الشهرين الماضيين، بل زادت الحرب المباشرة من الشكوك بشأن القدرات العسكرية الأمريكية على محو البرنامج النووي الإيراني من الوجود. وكل المنصفين والمستقلين أكدوا أن واشنطن وتل أبيب نجحتا فقط -من خلال العمل العسكري المباشر- في “تأخير” البرنامج الإيراني أشهرًا قليلة، وليس سنوات طويلة.
ثانيًا- فشل الرهان على إسقاط النظام
كان الرهان في حرب الـ12 يومًا على إسقاط النظام في طهران. وبعد فشل ذلك في يونيو (حزيران) الماضي، لا يمكن تصور تكرار التجربة في المدى المنظور، في ظل نجاح النظام في امتصاص الضربات، والتفاف الجميع -ومنهم المعارضون- حوله خلال أيام الحرب، وهو ما يقول إن فكرة “الربيع الإيراني” التي كان يروج لها في الغرب غير موجودة على أرض الواقع. وخير شاهد على السعي الإسرائيلي إلى إسقاط النظام هو نجاة الرئيس الإيراني بأعجوبة بعد استهدافه وعدد من القادة السياسيين والعسكريين خلال حرب الـ12 يومًا، وهو ما يقول إن خيار إسقاط النظام -الذي يتصالح ويتحاور مع دول الجوار الخليجي- أصبح غير ممكن في ظل الظروف والمعادلات السياسية الداخلية الحالية في إيران.
ثالثًا- التمسك برواية ترمب ونتنياهو
يشكل إقالة الفريق جيفري كروس، رئيس مخابرات وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”، الذي شكك في نجاح الضربات الأمريكية في القضاء على البرنامج النووي الإيراني خلال الهجوم الأمريكي بالقاذفات الإستراتيجية “بي 2″، يوم 22 يونيو (حزيران) الماضي، إصرارًا أمريكيًّا وإسرائيليًّا على الرواية الأولى، وهي التي تزعم القضاء الكامل على البرنامج النووي، وتأخيره سنوات طويلة، وهذا يدلل -بوضوح- أن إسرائيل والولايات المتحدة ليس لديهما خطط في المدى المنظور لمهاجمة إيران من جديد باعتبار أنهما حققتا الهدف وفق الرواية الإسرائيلية والأمريكية الرسمية المعلنة حتى اليوم.
رابعًا- إستراتيجية “الإطار” (SCOPE)
لا يمكن تصور أن الولايات المتحدة تعلم بتخطيط إسرائيل لحرب جديدة مع طهران في حين أنها تعمل على “تقليص عدد الجنود والعتاد” الأمريكي في الشرق الأوسط، وذلك وفق الإستراتيجية الجديدة التي يعمل عليها الآن الأميرال براد كوبر، قائد القيادة المركزية الجديد، ويطلق عليها “الإطار”، أو (SCOPE). فقبل الهجوم الإسرائيلي في 13 يونيو (حزيران) السابق، وبعدها الهجوم الأمريكي في 22 من الشهر نفسه، كان الانتشار الأمريكي من حيث عدد الجنود والعتاد العسكري في أقصى حالاته، حيث حشدت الولايات المتحدة نحو 50% من القاذفات الإستراتيجية في “قاعدة ديغو غارسيا” في المحيط الهندي، ونشرت الدفاعات الجوية وحاملات الطائرات في كل الشرق الأوسط، لكن اليوم، يعمل “البنتاغون” على تقليص عدد الجنود الأمريكيين في الشرق الأوسط من 42 ألفًا إلى نحو 10 آلاف فقط، ونقل المنظومات الدفاعية، مثل “ثاد”، و”باتريوت”، خارج الشرق الأوسط. وكل التقديرات الأمريكية سبق أن قالت إنه كان هناك خطر كبير على الجنود الأمريكيين في القواعد الأمريكية القريبة من إيران بعد الهجوم الأمريكي المباشر على المنشآت النووية الإيرانية في 22 يونيو (حزيران) الماضي؛ ولهذا لا يوجد تفكير لدى الرئيس ترمب بتعريض الجنود الأمريكيين إلى مثل هذا الخطر من جديد.
خامسًا- تضميد الجراح
هناك معلومات نشرتها وسائل الإعلام الأمريكية تفيد بنجاح الحرس الثوري الإيراني في “تضميد الجراح” التي لحقت بالدفاعات الجوية الإيرانية نتيجة للضربات الإسرائيلية في أكتوبر (تشرين الأول) 2024 ويونيو (حزيران) 2025، وهو ما يعني تغير الحسابات الميدانية لدى تل أبيب وواشنطن، فكثير من التقديرات تقول إن حرب الـ12 يومًا كانت بروفة عملية للأسلحة والقوات الإيرانية، وأن استئناف الحرب على إيران قد يوقع خسائر إسرائيلية وأمريكية في ظل حصول طهران على دعم قوي خلال الشهرين الماضيين.
سادسًا- وجود البدائل “حروب الظل”
بعد حرب الـ12 يومًا، تأكد للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أن “حروب الظل” ضد إيران كانت أكثر نجاحًا من “الحرب المباشرة”؛ ففي الحرب المباشرة، تعرضت سمعة الرئيس ترمب لهزة كبيرة عندما شكك الديمقراطيون في نجاح العملية. وخلال حرب الـ 12 يومًا أيضًا، تعرضت إسرائيل لهجمات وصواريخ لم تتعرض لها منذ تأسيسها، في حين أن “حروب الظل” هي التي استنزفت جزءًا من القدرات الإيرانية، وجندت آلاف العملاء والجواسيس، وسُرقت وثائق البرنامج النووي الإيراني بالكامل، وقتلت إسرائيل كبار علماء الذرة الإيرانيين، دون تكلفة سياسية أو أمنية كبيرة عليها، وعلى الولايات المتحدة،؛ ولهذا، ليس من المنطقي الذهاب إلى الخيار الأكثر تكلفة، وهو خيار الحرب المباشرة بدلًا من “حروب الظل”، التي تقول كل التقديرات إنها سوف تستمر خلال الفترة المقبلة.
سابعًا- العقوبات
منذ نهاية حرب الـ 12 يومًا، كان النهج الأمريكي والأوروبي يميل إلى العودة لفرض العقوبات، وليس إلى الحرب المباشرة. وتجلى ذلك في سلسلة من العقوبات الأمريكية الجديدة التي تهدد من يشتري النفط الإيراني.
ثامنًا- الواقعية الإيرانية
جميع المسارات التي طرحتها إيران بعد حرب الـ12 يومًا تتسم بالواقعية والمرونة؛ لأنها تعلم بضعف حلفائها، وسقوط النظام السوري السابق، ومحاولة إضعاف قوات الحشد الشعبي، واستهداف قدرات الحوثيين من جانب إسرائيل أكثر من مرة؛ ولهذا تبدي إيران واقعية كبيرة تجلت في العودة إلى الحوار مع الوكالة الدولية رغم رفضها في البداية، والسماح للمفتشين الدوليين بالحضور إلى مفاعل بوشهر في أثناء تغيير الوقود، واستئناف الحوار مع الترويكا الأوروبية رغم شكوكها في نيات الأوروبيين، وعدم ممانعتها من حيث المبدأ في الحوار مع الولايات المتحدة وستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس ترمب، وهو ما يجعل الوصول إلى مرحلة الحرب المباشرة مع إسرائيل بعيدًا على الأقل في المدى المنظور، الذي يعني حتى نهاية العام المقبل.
الواضح أنه في ظل الظروف والمواقف الحالية في إيران وإسرائيل والولايات المتحدة، هناك استبعاد لسيناريو العودة المباشرة إلى الحرب بين تل أبيب وطهران. وفي ظل المؤشرات السابقة، لا تزيد نسبة العودة إلى الحرب بين الطرفين الإسرائيلي والإيراني على 10% فقط، وهي نسبة ضئيلة جدًّا، لكن “حروب الظل” والتجسس والاغتيالات سوف تستمر، وقد تزيد وتيرتها أكثر مما كانت عليه في السابق؛ لمعرفة مصير 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، ولمعرفة مدى التدمير الذي لحق بالمنشآت النووية الإيرانية، وأي من العلماء النوويين أصبح يقود البرنامج النووي بعد اغتيال أكبر 19 عالمًا نوويًّا يوم 13 يونيو (حزيران) الماضي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.