يثار الحديث حاليًا عن خطط عسكرية تحسبًا لتحول حرب غزة إلى صراع إقليمي واسع النطاق وطويل الأمد، سيشمل الجماعات الموالية لإيران في سوريا والعراق، وسط مخاوف من انتقال الحرب بالوكالة مع أذرع إيران في المنطقة إلى حرب مباشرة، ووجهًا لوجه، في سياق تنفيذ الحوثيين- الذين يسيطرون على مناطق واسعة من اليمن- أكثر من 32 هجومًا على سفن تجارية، يقولون إنها مرتبطة بإسرائيل، أو متجهة إلى موانيها منذ نوفمبر (تشرين الثاني) إلى الآن، وهو ما ردت عليه الولايات المتحدة بضربات جوية عنيفة ضد الحوثيين؛ ما يمثل علامة فارقة أخرى في سلسلة طويلة من إخفاقات السياسة الغربية في الشرق الأوسط، والفشل في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
يعكس اضطرار أمريكا- بدعم من بريطانيا- إلى استخدام القوة ردًا على هجمات الحوثيين غير المسبوقة، التي استخدمت فيها الصواريخ الباليستية المضادة للسفن لأول مرة في التاريخ على السفن التجارية في البحر الأحمر، يعكس أن نفوذ واشنطن السياسي آخذ في التضاؤل، ودبلوماسيتها غير فعالة، وسلطتها في تراجع، ودلل على هذا إعادة الولايات المتحدة في السابع عشر من يناير (كانون الثاني) الجاري إدراج الحوثيين المدعومين من إيران على قائمة الكيانات الإرهابية، وهو ما قابلته الجماعة- على الفور- بتعهدها بمواصلة هجماتها.
تفرض هذه التطورات الاستثنائية في العالم عددًا من التساؤلات المحورية عن مستقبل تلك الهجمات المتبادلة بين الحوثيين والتحالف الأمريكي تحت اسم “حارس الازدهار”، وهل تستدرج الهجمات الأمريكية على الحوثيين إيران إلى حرب واسعة النطاق؟ وماذا يعني عدم انضمام الدول الخليجية- ما عدا البحرين- إلى التحالف الأمريكي لمواجهة الحوثيين؟ وكيف يمكن استشراف مصير العلاقات الإيرانية الأمريكية خلال الصراع الدائر في البحر الأحمر؟ ولماذا لم تستهدف إيران في هجماتها الأخيرة في العراق وباكستان وسوريا قواعد ومصالح أمريكية؟ وهل هذا يشير إلى أن توازن الردع بين طهران وواشنطن ما زال قائمًا؟
خلال الأسابيع القليلة الماضية، شن الحوثيون أكثر من 32 عملية استهداف لسفن تجارية يشتبهون في أنها مرتبطة بإسرائيل، أو متجهة إلى موانٍ إسرائيلية- قرب مضيق باب المندب الإستراتيجي عند الطرف الجنوبي للبحر الأحمر- كان آخر تلك الهجمات استهداف الحوثيين سفينة أمريكية كانت تقدم الدعم لإسرائيل، مستخدمين أكثر من 20 طائرة مسيرة وصاروخًا فوق البحر الأحمر، ما يعد أكبر هجوم ينفذه الحوثيون المدعومون من إيران منذ بدء حرب غزة، حيث حذرت الجماعة جميع شركات الشحن العالمية من التعامل مع المواني الإسرائيلية؛ تضامنًا مع قطاع غزة الذي يشهد حربًا مع إسرائيل منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأعلنت جماعة الحوثي في اليمن، يوم السادس عشر من يناير (كانون الثاني) الجاري، استهدافها سفينة أمريكية في البحر الأحمر بزعم أنها تقدم الدعم لإسرائيل، حيث صرح المتحدث العسكري باسم الحوثيين يحيى سريع بأن القوات البحرية وسلاح الجو المسير والقوة الصاروخية التابعة للجماعة نفذت عملية عسكرية مشتركة بعدد كبير من الصواريخ الباليستية والبحرية والطائرات المسيرة، استهدفت سفينة أمريكية، موضحًا أن العملية جاءت ردًّا أوليًا على ما تعرضت له القوات البحرية التابعة للحوثيين في الرابع عشر من يناير الجاري (كانون الثاني) من جانب قوات تحالف حارس الازدهار.
وأضاف المتحدث العسكري أن القوات المسلحة اليمنية مستمرة في منع السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى مواني فلسطين المحتلة من الملاحة في البحرين العربي والأحمر، حتى وقف العدوان ورفع الحصار عن قطاع غزة، مؤكدًا الحرص على استمرار الملاحة في البحر الأحمر إلى الوجهات كافة، عدا المواني الإسرائيلية، في حين أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أن القوات الأمريكية والبريطانية أسقطت 18 طائرة مسيرة مفخخة، وصاروخين مجنحين، وصاروخًا باليستيًا، أطلقها الحوثيون باتجاه مسارات شحن دولية في جنوب البحر الأحمر، حيث يأتي الهجوم الكبير بعد أسبوع من التحذير الذي وجهته 12 دولة بقيادة الولايات المتحدة إلى الحوثيين من أنهم سيواجهون عواقب إذا لم يوقفوا استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر.
جاء دخول الحوثيين إلى الساحة في سياق دعم القضية الفلسطينية، حيث استطاع الحوثيون، من خلال الظهور على أنهم مدافعون عن القضية الفلسطينية، تعزيز شرعيتهم، وهو ما جعل هجومهم على البحر الأحمر يحظى بدعم واسع في اليمن، حتى خارج مناطق سيطرتهم، وهو ما قد يعطيهم قدرًا من النفوذ الإقليمي، خاصة أن مشاركتهم كانت فعالة إلى حد ما، حيث أثرت في إمدادات المواني الإسرائيلية تأثيرًا مباشرًا، فضلًا عن هذا، يعكس الهجوم على البحر الأحمر رغبة الحوثيين في إظهار قوتهم على المستويين الوطني والدولي، وأنهم يمثلون الشرعية في اليمن، كما يوجهون من خلاله رسالة إلى جيرانهم، وخاصة السعودية، من أجل رفع سقف المفاوضات معها لكسب بعض التنازلات، في مقابل تراجع الجماعة عن استهداف أحد أهم الممرات المائية للتجارة العالمية.
وبالنظر إلى رد الفعل الدولي على تلك الهجمات، نجد مجلس الأمن الدولي اعتمد القرار 2722 بتأييد 11 عضوًا، وامتناع 4 أعضاء عن التصويت، حيث يدين القرار الهجمات التي شنها الحوثيون منذ 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي على السفن التجارية وسفن النقل في البحر الأحمر، ويطالب بالوقف الفوري لجميع هذه الهجمات، ويطالب بأن يكف الحوثيون فورًا عن جميع هذه الهجمات التي تعوق التجارة العالمية، وتقوض الحقوق والحريات الملاحية، والسلم والأمن الإقليميين، كما يطالب بالإفراج فورًا عن السفينة غالاكسي ليدر وطاقمها.
ويؤكد القرار وجوب احترام ممارسة السفن التجارية وسفن النقل للحقوق والحريات الملاحية وفقًا للقانون الدولي، مع تسليط الضوء على حق الدول الأعضاء في الدفاع عن سفنها ضد الهجمات، ومنها تلك التي تقوض هذه الحقوق، فيما اقترحت روسيا 3 تعديلات على مشروع القرار المقدم من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان من بين تلك التعديلات؛ ما يسهم في حل التوترات بشأن الصراع في قطاع غزة، لكن التعديلات لم تحصل على التأييد المطلوب من أعضاء المجلس الـ15، غير أن المراقبين والمحللين العسكريين يرجحون عدم التزام جماعة الحوثي بقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، خاصة بعد تجاهلها القرار السابق رقم 2216 الصادر عام 2015، الذي حظر حينذاك تزويد الحوثيين بالأسلحة، وفرض عليهم كثيرًا من العقوبات، وطالبهم بوقف القتال.
ومن هذا، يمكن فهم هذا القرار في سياق استغلال الولايات المتحدة له كمظلة سياسية لتنفيذ ضرباتها ضد مصادر التهديد في البحر الأحمر خلال الفترة المقبلة، خاصةً أن وتيرة العمل العسكري الصاروخي والجوي قد تزداد في تحالف “حارس الازدهار” الذي شكلته الولايات المتحدة، ضد الحوثيين، بالتعامل مع مصدر التهديد ذاته، وصولًا إلى استهداف أهداف محددة بطائرات مسيرة، أو صواريخ كروز، يأتي ذلك استنادًا إلى البند الرئيس في القرار الذي نص على حق الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وفقًا للقانون الدولي، في الدفاع عن سفنها من الهجمات، ومنها تلك التي تقوض الحقوق والحريات الملاحية؛ لذا يعد هذا البند دعمًا ضمنيًّا لعملية “حارس الازدهار”، حيث إن الولايات المتحدة كانت تسعى- منذ تشكيل تحالف حارس الازدهار- إلى الحصول على مرجعية قانونية من الأمم المتحدة لإعطاء شرعية دولية وقانونية لعمليات التحالف؛ لذا شكلت الولايات المتحدة قوة عمل بحرية متعددة الجنسيات، تدافع عن السفن التجارية في البحر الأحمر وخليج عدن من الهجمات التي يشنها الحوثيون بالصواريخ والطائرات المسيرة.
ويعني هذا الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع ترسانة الحوثي الصاروخية، التي يمثل عامل قوتها الأول الخبرة المستمدة من ضربات القوات الجوية السعودية لها منذ عام 2015؛ لذا أصبح الحوثيون ماهرين في مواجهة تلك التهديدات، بل بناء ترسانة قوية استباقية، ففي عام 2018- على سبيل المثال- كشفت جماعة الحوثي عن قاذفة صواريخ تحت الأرض مصممة لإخفاء موقع إطلاق الصواريخ الباليستية التي أُطلقت على المملكة العربية السعودية، ومنذ ذلك الحين، طوّر الحوثيون- بدعم من إيران- وصنّعوا كثيرًا من الصواريخ والطائرات بدون طيار؛ أُطلِقَ 70 منها على المملكة العربية السعودية في مارس 2021 فقط، ليصل العدد في نهاية ذلك العام إلى 340 عملية إطلاق، على الرغم من 600 غارة جوية للتحالف شهريًّا، فشلت جميع تلك الغارات الجوية في تدمير البنية التحتية لإنتاج الصواريخ التابعة للحوثيين.
لكن في مقابل قوة الحوثيين الجوية، فإنهم يعانون ضعفًا واضحًا في القدرة البحرية التي تفتقد البنية التحتية الفعالة للاستهداف، حيث استخدمت الجماعة سلسلة من الرادارات الساحلية في عام 2016 لتنسيق الهجمات ضد السفن الإماراتية والأمريكية في البحر الأحمر، لكن دُمِّرَ ثلاثة منها في وقت لاحق بضربات أمريكية، ومن ثم فإن قدرات الضربات البحرية للحوثيين متقدمة من الناحية الفنية، ولكنها تفتقر إلى التعقيد في الاستهداف؛ ومن ثم فهي تمثل تهديدًا يمكن التحكم فيه، ويمكن مواجهته بأصول الدفاع الجوي في المنطقة، بشرط ألا تعمل إيران على تحسين تحديد الأهداف للحوثيين، ومع ذلك، فإن الحوثيين خصم مثابر وحازم، ومن غير المرجح أن يوقفوا ضرباتهم لمجرد أنها غير فعالة؛ لذلك فإن مواجهتهم تتطلب توجيه ضربات ضد مجموعة أهداف محدودة، ولكن ذات قيمة للحوثيين؛ لأن القيام بذلك من شأنه أن يؤثر في قدرة المجموعة على مواصلة ضرباتها الصاروخية، في حين يقلل خطر نشوب صراع إقليمي أوسع نطاقًا.
تعزز نفوذ الحوثيين في اليمن منذ أن سيطرت الجماعة على العاصمة صنعاء في عام 2014، وساعدها على بسط نفوذها في المنطقة إيران، من خلال شبكة الحلفاء التي تمتد من البحر المتوسط إلى الخليج تحت اسم محور المقاومة، وفي الهجمات الأخيرة التي شنها الحوثيون على البحر الأحمر لاستهداف السفن الإسرائيلية وأي سفن حليفة لها، بهدف تقويض قدرة إسرائيل على إجراء التجارة الدولية، وإعادة تزويد جيشها، اتهمت الولايات المتحدة إيران بتقديم الدعم اللوجستي والعسكري للحوثيين لمساعدتهم في هجماتهم في البحر الأحمر، حيث أدان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إيران لمساعدة الحوثيين وتحريضهم على استهداف سفن في البحر الأحمر، محذرًا من التداعيات الوخيمة لتهديدات الحوثيين للملاحة، محذرًا إيران من أن دعم الحوثيين يجب أن يتوقف، وأنه ليس من صالحهم توسيع نطاق النزاع، وهو ما نفته إيران، مؤكدةً أن تلك الهجمات ستؤدي إلى انعدام الأمن والاستقرار في المنطقة، وأن طهران لا تريد التدخل المباشر في تلك الهجمات المتبادلة لأنها لا تريد حربًا شاملة في المنطقة، مشيرة إلى أن الحوثيين يتخذون قراراتهم بأنفسهم دون دعم من طهران، لكن القدرات المتطورة لدى الحوثيين في مجال الطائرات بدون طيار والصواريخ في الأشهر الأخيرة، لا يمكن أن تحدث دون مساعدة من إيران، التي قدمت لهم مساعدات تكنولوجية مهمة، ففي سبتمبر (أيلول) الماضي، نظمت القوات اليمنية عرضًا عسكريًّا ضخمًا في صنعاء، عرضت فيه طائرات انتحارية بدون طيار، وصواريخ باليستية متوسطة المدى، وصواريخ كروز، لا تستطيع قوات الحوثيين الوصول إليها دون مساعدة طهران، والآن نرى أن إصرار الحوثيين على مواصلة الهجمات على السفن يسلط الضوء على حقيقة أخرى، وهي أن القوة المهيمنة في الشرق الأوسط لم تعد الولايات المتحدة، أو حتى إسرائيل؛ بل هي إيران، الحليف الرئيس للحوثيين.
فشلت الولايات المتحدة في حشد دعم الدول المحورية في المنطقة، مثل السعودية والإمارات وقطر ومصر، إلى الحملة التي تقودها واشنطن ضد الحوثيين في البحر الأحمر، بعد أن رفضت تلك الدول الانضمام إلى تحالف حارس الازدهار، الذي أعلنته الولايات المتحدة، قبل أسابيع، وقد عقّد ذلك الفشل الجهود الأمريكية لمواجهة هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، وأضعف قوة التحالف بسبب نقص الدعم الإقليمي للعملية، سواء على الصعيد العملي، أو الخطابي.
كما عوّلت واشنطن على انضمام السعودية والإمارات- بشكل خاص- إلى أي عملية ضد الحوثيين، بسبب معرفتهما الواسعة بالجماعة واليمن، حيث خاضت الرياض وأبو ظبي حربًا طويلة ضد الجماعة، المدعومة إيرانيًّا، لمحاولة طردها من العاصمة اليمنية صنعاء، وهي الحرب التي عارضتها إدارة بايدن عند توليها السلطة، وحظرت بسببها تصدير أسلحة إلى الدولتين الخليجيتين، وألغت تصنيف الحوثيين تنظيمًا إرهابيًّا عام 2021، قبل أن تعود منذ أيام وتضع جماعة الحوثي مرة أخرى في قائمة الإرهاب، بوصفها كيانًا إرهابيًّا عالميًّا مصنفًا تصنيفًا خاصًا، بدءًا من الآن حتى 30 يومًا.
يرجع الرفض الخليجي للدخول في العملية العسكرية ضد الحوثيين المحسوبين على النظام الإيراني لأسباب، منها علاقاتها التي تحسنت مع إيران، فالسعودية تلتزم باتفاق وقف إطلاق النار مع الحوثيين، في حين ترى قطر أن العمل العسكري ليس قرارًا لحل الأزمة، وأن الوسائل الدبلوماسية أفضل طريقة ممكنة للتعامل مع تطورات الأزمة الحالية. وبشكل عام، تخشى الدول العربية من أن انضمامها إلى التحالف ضد الحوثيين قد يُفهم في سياق الوقوف إلى جانب الغرب في حرب إسرائيل ضد غزة. وحتى الآن، فإن الدولة الإقليمية الوحيدة التي انضمت إلى عملية حارس الازدهار هي البحرين، التي تستضيف الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية في الخليج العربي، وهو ما استنكرته السعودية، ودعت البحرين إلى ضبط النفس، وتجنب التصعيد.
تعمل شبكات الميليشيات التي ترعاها إيران، مثل الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، والميليشيات المتمركزة في العراق وسوريا على تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، حيث برزت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر بوصفها تهديدًا فريدًا ضمن تداعيات الحرب في غزة، التي تحاول إدارة بايدن- حتى الآن- منع امتدادها وتحولها إلى حرب إقليمية. فوفقًا لتصريحات رئيس الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال جولته الشرق أوسطية الأخيرة، فإن الحوثيين لا يمثلون مشكلة أمريكية فحسب؛ بل يهددون الاقتصاد العالمي أيضًا، وفي ضوء هذا، اتهمت الولايات المتحدة إيران بالضلوع في هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، وهو ما تحاول إيران نفيه، مؤكدة أن حلفاءها يتخذون قراراتهم بأنفسهم، في حين أنه في العراق، الذي تطلق فيه القوات المدعومة من طهران النار على القوات الأمريكية، قالت حركة النجباء إن مصالح الولايات المتحدة وأعضاء التحالف الآخرين لم تعد في مأمن منذ الآن، وقال مسؤول في فصيل آخر، وهو كتائب حزب الله العراقية، إن الهجمات ستكون لها عواقب وخيمة على أمن المنطقة بأسرها، ومنها الخليج، وإن جميع المصالح الأمريكية، ليس فقط في العراق وسوريا، لكن في المنطقة بكاملها، ستكون هدفًا مشروعًا للطائرات المسيرة والصواريخ لدى الكتائب.
فضلًا عن هذا، فإن التصعيد بين طهران وواشنطن خلال هذه الأيام في تصاعد مثير للقلق، حيث احتجزت إيران في الحادي عشر من يناير الجاري ناقلة نفط أمريكية في بحر عُمان، ردًا على توقيف الولايات المتحدة الناقلة نفسها، ومصادرة شحنتها من النفط الإيراني العام الماضي، وقالت البحرية الإيرانية إن احتجاز الناقلة تم بموجب قرار قضائي، وإن الناقلة المحتجزة سرقت شحنة نفط مملوكة لإيران بتوجيه من الولايات المتحدة، ما يشير إلى أن طهران مصرة على الضغط على واشنطن لاستنزافها في مواجهات عسكرية تقوض قدرتها على مساعدة إسرائيل في حربها على قطاع غزة.
وفي مقابل هذا، وجهت إيران صواريخها تجاه 3 دول، خلال 24 ساعة، هي العراق، وسوريا، وباكستان، وقصفت أهدافًا ليست من بينها مصالح أمريكية؛ ما يدل على تجنبها أي تصعيد مع واشنطن الفترة الراهنة. وبالنظر إلى دوافع تلك الهجمات في هذا التوقيت، نجد أن طهران أطلقت 4 صواريخ “خيبر شكن” تجاه ما سماه الحرس الثوري الإيراني مجموعة تكفيرية في مدينة إدلب بسوريا، بزعم دورها في تفجيرات كرمان داخل إيران. عقب ذلك، استهدفت صواريخ ومسيرات إيرانية مقرين لما يسمى بجماعة جيش العدل في باكستان، وهي جماعة بلوشية تسعى إلى فصل محافظة سيستان وبلوشستان عن إيران، في حين أطلقت 11 صاروخًا في إقليم كردستان العراق تجاه جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) وفقًا للبيان الرسمي لوزارة الخارجية الإيرانية؛ ردًا على تحركات إسرائيلية عدوانية أدت إلى مقتل قادة في الحرس الثوري وجماعات مرتبطة به، ونتيجة للهجوم الإيراني استدعت بغداد سفيرها لدى طهران، كما استدعت القائم بالأعمال الإيراني، وسلمته مذكرة احتجاج على عدوان طهران على أربيل، وانتهاك سيادة العراق، ونفى مستشار الأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي، ما ادعته إيران بشأن الموقع العراقي الذي يضم مقرًا للموساد.
يعود سبب استهداف طهران أماكن بعيدة عن الوجود الأمريكي في المنطقة، رغم اتهامها لواشنطن بالمسؤولية عن الصراعات القائمة في المنطقة، في أن طهران دائمًا ما تسعى إلى اتخاذ ردود فعل مدروسة ودقيقة؛ بحيث لا تؤدي إلى خسائر بشرية أمريكية؛ لذا استهدفت أربيل بحجة ضرب مركز للموساد، وبقصف أربيل وإدلب يمكنها التغطية على خسائرها، وإظهار شيء من القوة أمام أنصارها وحلفائها في إطار قوة الردع بينها وبين الولايات المتحدة وإسرائيل، خاصة بعد أن فشلت أذرعها في الحفاظ على قوة الردع هذه، خاصة أنها لم تتخذ ردًّا مؤثرًا من ميليشياتها على مقتل قيادات من حزب الله وإيران خلال الأسابيع الأخيرة.
ومن ثم يمكن القول إن الضربات الأمريكية البريطانية التي جاءت ردًا على هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، مع أنها أدت إلى تدويل الصراع الذي انتشر عبر المنطقة، منذ أن اشتبكت حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية حماس وإسرائيل في الحرب، حيث تعهد الحوثيون في اليمن، المتحالفون مع إيران، بالرد على الهجمات التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن احتمالات إشعالها حربًا إقليمية حاليًا محدودة وبعيدة، في وقت تسعى فيه طهران إلى تجنب الاستدراج مباشرة إلى صراع شامل، فلا يرجح دخول إيران المعركة مباشرة، ما لم تتعرض لاستهداف مباشر على أراضيها.
تتجسد أهداف السياسية الخارجية الإيرانية في إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، والحفاظ على التفوق الإقليمي، وتعزيز التحالفات الرئيسة مع الصين وروسيا، والأهم تدمير إسرائيل؛ لذا اتخذت إيران خطوات عملية لإصلاح العلاقات مع منافسيها العرب، خاصة دول الخليج بوساطة صينية. وعلى الجانب الآخر، تظهر روسيا وإيران في الآونة الأخيرة كشريكين يجمعهما كثير من القضايا الإقليمية، وهو ما جعل إيران قوة لا يستهان بها، وأصبحت طهران الآن- بعد 45 عامًا من ثورتها- في مأمن عن تأثير العقوبات الغربية، وأصبحت أمريكا وبريطانيا وإسرائيل في مواجهة تحالف عالمي ثلاثي يضم إيران، والصين، وروسيا، تدعمه قوة عسكرية ذات ثقل في المنطقة، وقوة اقتصادية ذات تأثير؛ لذا تسعى إيران إلى تحقيق التوازن بين المكاسب العسكرية التكتيكية ومخاطر صراع شامل في المنطقة.
ومع أن رهان الحوثيين هو الفائز حاليًا، فإنه من الصعب توقع ردود فعل الجماعة، خاصة بعد الانتقام العنيف الذي شنه الحوثيون على الشاحنة الأمريكية الأسبوع الماضي، وهو ما يضع طهران في مأزق تتحمل فيه مسؤولية أفعال جماعة الحوثي المتهورة، خاصةً بعدما أعلن البيت الأبيض أن واشنطن لا تسعى إلى نزاع مع إيران، وهو ما قد يعرض مكاسب طهران الحالية للخطر فيما يتعلق بوقف إطلاق النار، والمفاوضات مع السعودية، أو في تخفيف الحصار عن ميناء الحديدة، ومطار صنعاء؛ لأن التحالف الأمريكي قد يطبق على الحوثيين الحصار الشامل، حتى لا يعبر شيء إليهم، حتى المساعدات الإنسانية، وهو ما لا يمكن أن تصمد أمامه الجماعة طويلًا.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.