مقالات المركز

هل تنجح “دبلوماسية الباندا” في إعادة العلاقات الصينية الأسترالية إلى طبيعتها؟


  • 2 يوليو 2024

شارك الموضوع

عندما زار الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون الصين، عام 1972، أصرت زوجته، بات نيكسون، على زيارة حديقة “الباندا” في العاصمة الصينية بيجين. وتأكيدًا لحكمة الشعب الصيني وذكائه، أهدى “شو أن لاي”، زعيم الصين- آنذاك- الرئيس الأمريكي وزوجته، زوجًا من “الباندا”، هما “لينغ لينغ” و”شينغ شينغ”؛ تعبيرًا عن رغبة الصين في بناء علاقات مع الولايات المتحدة تقوم على المصالح المشتركة، والاحترام المتبادل، ونجحت هذه الزيارة في وضع العلاقات الأمريكية الصينية على المسار الصحيح؛ ولهذا وُصِف زوج الباند “لينغ لينغ” و”شينغ شينغ” بأنهما كانا “جسرًا” للعلاقة بين البلدين، وأسهما في “كسر الجليد” الذي استمر بين واشنطن وبيجين من عام 1949، عندما قامت الثورة الصينية، حتى عام 1972، عندما قام الرئيس ريتشارد نيكسون بأول زيارة لرئيس أمريكي إلى بيجين.

بروح “دبلوماسية الباندا” نفسها، زار لي تشيانغ، رئيس الوزراء الصيني، حديقة حيوان مدينة أديلايد الأسترالية، حيث يعيش زوج الباندا “وانغ وانغ” و”فو ني” الذي سبق أن أهدته الصين إلى أستراليا عام 2009. وأديلايد هي أيضًا مسقط رأس وزيرة الخارجية الأسترالية بيني وونغ، التي تُنسب إليها جهود المساعدة على استقرار العلاقات مع بكين.

وجاءت زيارة لي تشيانغ لأستراليا، وهو أرفع مسؤول صيني يزور أستراليا منذ عام 2017، بعد أن تضررت العلاقات الصينية الأسترالية بفعل القيود التجارية التي فرضها كل بلد على الآخر، واستبعاد أستراليا لشركة هاواوي الصينية من تنفيذ شبكة اتصالات الجيل الخامس في أستراليا، ودعم أستراليا لدول بحر الصين الجنوبي في شكواها الصين أمام محكمة التحكيم الدولية الدائمة في لاهاي عام 2016، بالإضافة إلى مطالبة أستراليا بتحقيق دولي في منشأ فيروس كورونا، وهو ما اعتبرته الصين دعوى موجهة ضدها، لكن العلاقة عادت إلى التحسن عام 2022، عندما تولى رئيس الوزراء الجديد أنتوني ألبانيزي، وسعى مع وزيرة خارجيته بيني وونغ إلى تحسين العلاقة مع الصين؛ ولهذا التقى ألبانيزي ولي تشيانغ في الخارج أكثر من مرة منذ عام 2022، وهو ما أسهم في إلغاء غالبية القيود التجارية، التي كلفت المصدرين الأستراليين نحو 20 مليار دولار سنويًّا، وعودة التجارة البينية إلى معدلاتها العالية، حيث وصلت في نهاية عام 2023 إلى نحو 327 مليار دولار أسترالي، أي نحو 202 مليار يورو، ولا تزال الصين هي أكبر سوق للصادرات الأسترالية، حيث تستقبل الصين نحو 35 % من صادرات أستراليا إلى العالم.

لكن في المقابل، زادت الهواجس لدى الطرفين في الملفات الأمنية والعسكرية، حيث تخشى أستراليا النمو الكبير للبحرية الصينية، وإنتاج بيجن مئات الصواريخ “فرط الصوت”، والعابرة للقارات. ولا يمر أسبوع دون أن يصدر عن واشنطن تقرير يتهم الصين “بالإكراه الاقتصادي”، و”التنمر العسكري” على جيرانها؛ مما يخلق كثيرًا من الشكوك بشأن العودة الكاملة لطبيعة العلاقات الأسترالية الصينية إلى ما قبل ديسمبر (كانون الأول) 2017، عندما اعتبرت الولايات المتحدة كلًا من روسيا والصين منافستيها الإستراتيجيتين على مستوى العالم، وخاصة في منطقة “الإندو- باسيفيك” التي تجمع بين أستراليا والصين.

ويزيد هذه الشكوك الانخراط الأمني غير المسبوق بين أستراليا من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، في كثير من التحالفات الأمنية والعسكرية، وكلها شكوك تبطئ رغبة البلدين في بناء “مسار مستقل” للعلاقات الصينية الأسترالية، بعيدًا عن تأثيرات الأطراف الثالثة؟ فما مستقبل العلاقات الصينية الأسترالية؟ وهل نحن أمام “انعطافة تاريخية” تشبه زيارة الرئيس نيكسون للصين عام 1972؟ وما مدى قدرة واشنطن ولندن وطوكيو على إجهاض الخطوة الصينية تجاه جارتها أستراليا؟

تحديات في الطريق

أولًا: مخاوف أسترالية

تعزّز واشنطن روايتها بشأن اعتبار الخلافات الصينية مع جيرانها نموذجًا للتفكير الصيني حيال محيطها الإقليمي، ولهذا تستثمر واشنطن في الخلافات البينية بين الصين ومحيطها الاقليمي، وتنعكس هذه الرواية الأمريكية سلبًا على العلاقات الصينية الأسترالية. وهناك عدد من المخاوف الأسترالية، منها:

1– تفاقم الخلافات الصينية مع جيرانها

تتمثل هذه الخلافات- على نحو رئيس- مع تايوان، والمخاوف الأسترالية والغربية من محاولة استعادة الصين جزيرة تايوان بالقوة، والتزام الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والآسيويين بالمساعدة في الدفاع عن تايوان حال تعرضها لهجوم صيني. وتعارض أستراليا استخدام القوة أو التهديد لتغيير الوضع الراهن عبر مضيق تايوان، كما تظل الخلافات الحدودية البحرية الصينية مع دول بحر الصين الجنوبي (فيتنام، والفلبين، وإندونيسيا، وبروناي، وماليزيا) عائقًا كبيرًا نحو التطبيع الكامل للعلاقات الصينية الأسترالية. وتعزز الخلافات الحدودية الصينية الهندية في “منطقة لاداخ” المخاوف الأسترالية تجاه الصين، فضلًا عن سباق التسلح غير المسبوق بين الصين من جانب، واليابان وكوريا الجنوبية من جانب آخر.

2- استهداف نشطاء أستراليين من أصول صينية

كثيرًا ما تشكو أستراليا مما تسميه ملف حقوق الإنسان في الصين، خاصة تعامل الصين في ملف بعض النشطاء الأستراليين من أصول صينية، مثل حكم الإعدام الصادر بحق يانغ هينغ جون، وهو مواطن أسترالي من أصول صينية، اعتُقِلَ بتهم التجسس في الصين عام 2019، كما تتحدث أستراليا دائمًا عن حقوق الإنسان في منطقة شين جيانغ غربي الصين، وفي التبت، وهونغ كونغ.

3- سلوك البحرية الصينية

كانت الاحتكاكات بين البحرية الصينية والأسترالية سببًا رئيسًا من أسباب التوتر الصيني الأسترالي منذ عام 2018، خاصة أن هذه الاحتكاكات تزامنت مع احتكاكات أخرى بين البحرية الصينية من جانب، وأساطيل كل من الفلبين وفيتنام واليابان من جانب آخر، وأثارت التدريبات الأخيرة لجيش التحرير الشعبي حول تايوان قلق أستراليا. وتظهر المخاوف الأسترالية بوضوح عندما يتعلق الأمر بالنمو الضخم في القدرات العسكرية الصينية، خاصة الزيادة الكبيرة في الرؤوس النووية، والمركبات الانزلاقية، والغواصات الشديدة الهدوء، وخاصة الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، بالإضافة إلى امتلاك الصين 3 حاملات طائرات، هي فوجيان، ولياونينغ، وشاودونغ، لكن الصين من جانبها تحاول طمأنة جيرانها بأن توسع قدراتها العسكرية ينطلق من مبدأ دفاعي، ولا يستهدف الدول الأخرى، مع التأكيد أن الصين لم يسبق لها أن احتلت، أو استعمرت دولًا في آسيا، أو خارجها.

ثانيًا: قلق صيني

تقوم الحسابات الصينية على النظر إلى علاقاتها مع أستراليا بوصفها علاقات ذات أبعاد ثلاثية، وليس علاقات ثنائية، بمعنى أن العلاقات بين الصين وأستراليا تعتمد على مدى التوتر والهدوء في العلاقات الصينية الأمريكية؛ ولهذا تدعو الصين إلى أن ترسم أستراليا “مسارها الخاص” بدلًا من السماح لنفسها بالارتباط بإستراتيجية الولايات المتحدة؛ ومن هنا يأتي القلق الصيني من كثير من القرارات والمواقف الأسترالية، ومنها:

1- التدخل في الشؤون الداخلية

ترفض الصين رفضًا قاطعًا تماهي الأجندة الأسترالية مع الأجندة الأمريكية بالتدخل في الشؤون الداخلية لبيجين، خاصة ما يتعلق بالمقاطعات الصينية، مثل التبت، وشينجيانغ، وتايوان، وغيرها. وتدعو الصين إلى احترام خصوصيتها، ونموذجها التنموي، وتدعو إلى احترام صيغة المصالح المشتركة، وإلى الاحترام المتبادل في العلاقات بين البلدين.

2- التوسع في الانتشار النووي

هناك رفض صيني واضح للصفقة التي عقدها الرئيس الأمريكي جو بايدن مع أستراليا وبريطانيا، في 15 سبتمبر (أيلول) عام 2021، التي ستحصل بموجبها أستراليا على غواصات تعمل بالطاقة النووية. كما تشعر الصين بخطورة سعي الولايات المتحدة إلى نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى تحمل رؤوسًا نووية في أستراليا، بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية “آي إن إف” عام 2019، التي كانت تحظر نشر صواريخ تحمل رؤوسًا نووية في البر الأوروبي، وخارج أوروبا.

3- الإستراتيجية الأسترالية الجديدة للدفاع

تنظر بيجين بعين القلق إلى “الإستراتيجية الأسترالية الجديدة للدفاع”، وهي تختلف تمامًا عن الإستراتيجية القديمة التي ظلت مستمرة حتى سبتمبر (أيلول) عام 2021. والإستراتيجية الجديدة لا تنظر إلى الأخطار الأمنية في البقعة الجغرافية والبحرية الأسترالية، وبابوا غينيا الجديدة، كما كان في السابق؛ بل تقوم على تحقيق ردع عسكري أسترالي “بعيد المدى” باستخدام الغواصات والأدوات الإلكترونية، وخصصت أستراليا من أجل الإستراتيجية الجديدة أكثر من 50 مليار دولار أسترالي، بالإضافة إلى الاتفاق على شراء الغواصات النووية البريطانية والأمريكية، التي تعمل بالطاقة النووية، بدلًا من الغواصات الفرنسية التي تعمل بالكهرباء، وهي صفقة يزيد ثمنها على 60 مليار دولار أمريكي. ويتضح من هدف هذه الإستراتيجية الجديدة أنها تريد “ردع الأعداء”، وترى الصين أن هذه الإستراتيجية صممتها واشنطن خصيصًا لأستراليا لتعمل ضد الصين.

4- تعاظم دور الصواريخ البعيدة المدى

طوال التاريخ، لم تحدث حرب بين أستراليا منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1901 مع أي دولة أخرى، وإنما تعرضت أستراليا لهجمات من اليابان في نهايات الحرب العالمية الثانية؛ لأن أستراليا كانت جزءًا من الحلفاء. ولحماية السواحل الأسترالية الشاسعة، تعاقدت أستراليا على شراء 220 صاروخًا أمريكيًّا من طراز “توما هوك”، وهو صاروخ تراه الصين يستهدف أراضيها، وليس مجرد الدفاع عن الأرضي الأسترالية. كما تبني الولايات المتحدة كثيرًا من القواعد العسكرية، وخاصة القواعد البحرية، على السواحل الأسترالية، وهو ما تراه الصين تفكيرًا عداونيًّا موجهًا إليها حصرًا؛ إذ لا يوجد لأستراليا أعداء، أو خلافات مع دول المنطقة.

5- التحالفات العسكرية

ترى الصين أن التحالفات العسكرية التي دخلت فيها أستراليا مؤخرًا تشكل ضررًا كبيرًا بالعلاقات الثنائية، وحجم التجارة بين البلدين، خاصة بعد انضمام أستراليا إلى تحالف “أوكوس”، مع الولايات المتحدة وبريطانيا، منذ سبتمبر (أيلول) عام 2021، وتحالف “الكواد الرباعي”، مع الهند واليابان والولايات المتحدة، وتحالف “العيون الخمس” مع نيوزيلندا وكندا وبريطانيا والولايات المتحدة، لكن أكثر ما بات يقلق الصين أن أستراليا اتجهت أيضًا إلى عقد شراكات واتفاقيات دفاعية مع دول أخرى من خارج المنطقة، مثل اليابان، وبريطانيا.

الثابت أن أستراليا والصين جارتان لهما مصالح كبيرة، واعتمادية متبادلة في قضايا التجارة والاستثمار والتعدين، وهو ما يقول إن اصطفاف أستراليا مع أعداء الصين ومنافسيها ليس في صالح العلاقات بين كانبرا وبيجين، وأن زيارة رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ لأستراليا يمكن أن تكون فرصة، ليس “لكسر الجليد” بين البلدين فحسب؛ بل لصياغة “معادلة جديدة” يكون عنوانها “بناء الثقة” من جديد، بعيدًا عن حسابات الطرف الثالث.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع