اتسمت العلاقات الثنائية بين روسيا وإيران تقليديًّا بأنها مزيج من التعاون والمنافسة والغموض. ومنذ أوائل تسعينيات القرن العشرين تحسنت العلاقات تحسنًا كبيرًا. وبحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تميزت العلاقة بالتعاون المتزايد في الشؤون العسكرية، فضلًا عن بعض التوافق بشأن المصالح الاقتصادية، لكن منذ بداية الحرب بين روسيا وأوكرانيا، تعمقت العلاقات الثنائية بين البلدين. والآن، بحلول الذكرى الثالثة للحرب الروسية الأوكرانية، تتجه العلاقة بين موسكو وطهران من التعاون المتعدد الأبعاد إلى الشراكة الحذرة.
منذ بداية الحرب في أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، تجنب المرشد الأعلى علي خامنئي إسناد أي مسؤولية عن الحرب إلى روسيا، ولم تتطرق إيران إلى المسؤولية الروسية أو الهجوم الأول الذي شنته موسكو على الأراضي الأوكرانية، والتزمت طهران بموقف دبلوماسي وسياسي صارم يتجنب مصطلحات تدين روسيا، وتجلى الموقف الإيراني في مارس (آذار) 2022، خلال الدورة الاستثنائية الطارئة الحادية عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ امتنعت طهران عن التصويت على قرار يدين هجوم روسيا على أوكرانيا، ومع ذلك، لم تصوت ضد القرار على عكس دول عدة، كان أبرزها الحليف السوري.
وظهر هذا أيضًا بوضوح في بيان البعثة الدائمة لإيران لدى الأمم المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، إذ سلط الضوء على موقف إيران الحذر في تبني الدعوة إلى حل الصراع، فلم يستخدم البيان الموجه إلى الأمم المتحدة سوى مصطلحي الأزمة في أوكرانيا، والصراع في أوكرانيا، ولم يذكر روسيا، ولم يُشر إلى مصطلح الحرب إلا في بيانات لاحقة.
وفي المقابل، عكست إيران في خطاباتها الرسمية سردًا يتهم الولايات المتحدة بالتسبب في الحرب انطلاقًا من الرؤية الإيرانية التاريخية بشأن عداء الدول الغربية، وكثرت في هذا الصدد التصريحات الإيرانية عن مسؤولية الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، عن نشوب الحرب الروسية الأوكرانية؛ ما سمح بحماية روسيا من أي مسؤولية دولية، بل أيضًا بتعزيز خطاب أوسع يصور الولايات المتحدة على أنها صانعة الأزمات الدولية؛ ما يقدم جبهة مشتركة ضد واشنطن وحلفائها.
قدمت الحرب الروسية الأوكرانية كثيرًا من الفرص الإستراتيجية لإيران لترسيخ موطئ لقدمها في المنطقة من خلال عدة أبعاد تتمثل في:
أولًا- البعد الاقتصادي: كانت موسكو وطهران شريكتين اقتصاديتين مستقرتين في السنوات الأخيرة، وقد تعمقت هذه العلاقة التجارية منذ بدء الحرب، إذ يمكن الوقوف على أول تطور اقتصادي ملحوظ في العلاقات بين البلدين في فبراير (شباط) 2022، وهو مشروع ممر النقل الدولي من الشمال إلى الجنوب، الذي اتفقت عليه في سبتمبر (أيلول) 2017 كل من روسيا والهند وإيران؛ بهدف إنشاء طريق سكة حديدية وبحرية بين روسيا والهند، مرورًا بإيران، وتطمح طهران من خلاله إلى تعزيز مكانتها كمركز لوجستي بين القارات، مع إنشاء منافذ جديدة لموانيها في الخليج العربي.
تأمل روسيا -من جانبها- تجاوز العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إذ تواجه سفنها معوقات مع الدول الساحلية، لا سيما دول بحر البلطيق في شمال شرق أوروبا، ودول جنوب شرق أوروبا، وجورجيا، وتركيا، وأوكرانيا في البحر الأسود؛ لذا أعلنت في فبراير (شباط) الماضي تخصيص قرض لبناء خط سكة حديد “رشت- أستارا” في إيران كجزء من ممر النقل الدولي “شمال- جنوب”.
أما التطور المهم الثاني في العلاقات الاقتصادية بين روسيا وإيران فيتمثل فيما يتعلق بالاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي يوحد روسيا وأربع دول من الاتحاد السوفيتي السابق، إذ وقعت إيران اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في ديسمبر (كانون الأول) 2023 التي دخلت حيز التنفيذ في القمة الأخيرة للاتحاد في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وحصلت طهران خلالها على صفة مراقب في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وفي هذا السياق شهدت تلك المنطقة الاقتصادية زيادة في حجم تجارتها مع طهران بنسبة 150٪ على مدى ثلاث سنوات.
وبالإضافة إلى زيادة التعاون في مجال الطاقة بين البلدين منذ بداية الحرب، وعلى الرغم من المنافسة على لقب المصدر الرئيس للغاز، فإن الأولوية الاقتصادية منذ عام 2022 كانت إزالة الدولرة من بورصاتهما لمواجهة العقوبات الأمريكية؛ ومن ثم افتتح بنك VTB(ثاني أكبر بنك في روسيا) مكتبًا دائمًا في إيران لإلغاء الدولرة عن بورصاتهما في مايو (أيار) 2023، وفي نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2023، أعلن رئيسا البنكين المركزيين الإيراني والروسي إتمام اتفاق لإجراء تجارتهما بالعملات الوطنية، وقد سعت طهران بعد اندماجها الكامل في مجموعة الـ”بريكس بلس”، إلى الترويج بين أعضائها للتخلي التام عن العملة الأمريكية في تعاملاتهم.
ولعل الشق الاقتصادي الأهم بين إيران وروسيا الذي نشأ بسبب حرب أوكرانيا يرتبط بالمساعدة الإيرانية لروسيا في تجنب العقوبات المفروضة عليها، إذ تعد إيران واحدة من أكثر الدول الخاضعة للعقوبات الاقتصادية على مستوى العالم، وبفضل خبرتها في التحايل على العقوبات منذ عام 1979، بدأت الجمهورية الإسلامية بعقد اجتماعات بين المسؤولين والمصرفيين الإيرانيين والروس منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2022. وفي إطار تأسيس شكل فريد من أشكال التعاون الاقتصادي، كشفت إيران عن آلياتها القانونية والاقتصادية لروسيا لمساعدتها على تفادي الآثار المدمرة للعقوبات المفروضة عليها.
ثانيًا- البعد السياسي: تقاسمت روسيا وإيران تحالفًا جيوسياسيًّا من خلال استخدام الخطاب المعادي للغرب، إلى جانب زيادة نقاط الاتصال بين النخب السياسية من خلال الاجتماعات رفيعة المستوى ومذكرات التفاهم الموقعة لمجموعة من مجالات القضايا، ومن هذا يمكن تفكيك معالم الشق السياسي بين البلدين بالنظر إلى منطقة البحر الأسود الكبرى، التي لا تشمل حوض البحر الأسود وساحله فحسب؛ بل تمتد أيضًا عبر القوقاز، وتصل إلى بحر قزوين، وهي المناطق التي تداخلت فيها المصالح والنفوذ الروسي والإيراني، وقد انعكست الحرب على تلك المنطقة الحيوية؛ إذ أصبحت إيران مشاركًا مباشرًا في الحرب الروسية الأوكرانية، وواحدةً من أكثر شركاء روسيا قيمة في منطقة البحر الأسود الكبرى بسبب الخبرة القيمة الكبيرة التي اكتسبتها طهران في التهرب من العقوبات، والقدرة التي لا غنى عنها على تسليم الأسلحة المحظورة؛ ومن ثم كانت إيران تراقب، بل تحاول أحيانًا ملء الفراغات الإقليمية على مدى السنوات الثلاث الماضية بسبب انشغال روسيا بجهودها العسكرية في أوكرانيا من ناحية، وتردد الغرب في التعامل معها من ناحية أخرى.
وفي هذا السياق، أدت الحرب الروسية الأوكرانية، والجهود الجماعية التي يبذلها الغرب لدعم كييف، إلى تقليص الموارد والاهتمام الذي يمكن لأي من الجانبين تخصيصه لجنوب القوقاز، وقد أتاح هذا الفرصة أمام إيران لسد الفراغ في تعزيز أهدافها الإستراتيجية في دول جنوب القوقاز، خاصة جورجيا التي ارتفعت وارداتها من الغاز الطبيعي الإيراني ارتفاعًا كبيرًا، في حين تجاوزت علاقات إيران وأرمينيا الزيارات الدبلوماسية الرفيعة المستوي، وشاركت أرمينيا في صيغة تعاون ثلاثية جديدة تركز على الاقتصاد والعبور مع الهند وإيران، افتُتحت في يريفان في أبريل (نيسان) 2023، ومؤخرًا، افتتحت أرمينيا أكبر مركز تجاري في العالم لإيران، وتعهدت بزيادة التجارة الثنائية، بجانب التوقيع على صفقة عسكرية جديدة بقيمة 500 مليون دولار، وبدورها تعمل طهران على تعزيز علاقاتها مع يريفان من خلال موازنة باكو في مشروع ممر زانجيزور المتنازع عليه. ومع أن أذربيجان وإيران كانتا مرتبطتين تاريخيًّا فإن علاقة باكو بطهران توترت بسبب دعمها الكبير لتل أبيب منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
البعد العسكري: يتسم البعد العسكري للتدخل الإيراني في الصراع بين روسيا وأوكرانيا بخصوصية فريدة، فهو ربما الأكثر أهمية مقارنةً بالمجالين السياسي والاقتصادي بسبب الغموض الذي تحافظ عليه إيران وروسيا، إذ تنفي إيران -باستمرار- أي تورط في الصراع، وتدحض أي مبيعات أسلحة إلى روسيا، في حين تظل الأخيرة صامتة بشأن الواردات العسكرية، ومع ذلك، تزعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا أنه منذ أبريل (نيسان) 2022، بدأت إيران بتزويد روسيا بالصواريخ، وأكدت أجهزة الاستخبارات الأمريكية أن إيران تبيع لروسيا أيضًا صواريخ “فتح 360″، وهو نموذج يمكنه حمل شحنة متفجرة تزن 150 كيلوجرامًا لمسافة تزيد على 100 كيلومتر، وطائرات بدون طيار، ولا سيما نموذج الهجوم “شاهد 136″، وهو غير مكلف، ومصمم لحمل شحنة متفجرة. فضلًا عن هذا، اتهمت الولايات المتحدة وأوكرانيا الحرس الثوري الإيراني بالتورط في ساحة المعركة الأوكرانية لمساعدة القوات الروسية، وتقديم المشورة لها.
من المرجح أن تتجه العلاقات بين روسيا وإيران إلى شراكة حذرة ارتباطًا بتوقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين البلدين في 17 يناير (كانون الثاني) المنصرم، ومع ذلك، يظل التحالف الكامل بين موسكو وطهران مثيرًا للجدل في ظل المعطيات الراهنة المرتبطة بالتقارب المرتقب بين ترمب وبوتين. ومع أن انعدام الثقة لا يزال قائمًا في بعض المجالات، فمن غير المرجح أن تتطور الخلافات الحادة بين روسيا وإيران في الأمدين القريب والمتوسط، خاصة في حال استمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا؛ ما يعني مواصلة الطلب الملح من جانب الجيش الروسي على الذخائر والطائرات بدون طيار الإيرانية؛ ما يضمن استدامة الشراكة بين الطرفين.
ومع أن روسيا كانت تزود إيران تاريخيًّا بمعظم السلع الصناعية المطلوبة، فقد انقلبت العلاقة، أو على الأقل بدأت بتحقيق التوازن، إذ تزود إيران روسيا الآن بالسلع الصناعية الحيوية التي تساعد موسكو على معالجة القيود التي تفرضها الحرب، ويساعد هذا الدعم في إطالة قدرة روسيا على إحراز تقدم في أوكرانيا. وبالإضافة إلى ذلك، أدت العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين روسيا وإيران إلى توجيه إيران المسؤولين الروس إلى كيفية التهرب من العقوبات، ويمكن لهذا النوع من التعاون أن يؤثر في الجدوى الطويلة الأجل للعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية. ومن جانب آخر، فإن مستقبل العلاقة بين إيران وروسيا يرتبط برغبة موسكو في استمرار نفوذ إيران ضد إسرائيل، خاصة أن طهران تدرك أنها تواجه معادلة صعبة بعد انهيار قدرات محور المقاومة على ردع إسرائيل؛ ما يجعل الجمهورية الإسلامية تبحث حاليًا عن مصادر ردع، ودعم إضافي، وأحد المصادر المحتملة لهذا الدعم هو روسيا.
تاريخيًّا، اعتُبرت علاقة إيران بروسيا علاقة غير متكافئة لصالح موسكو، ولكن منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية بدأت العلاقة تتخذ منحى مغايرًا مع تضخم أهمية إيران الإستراتيجية للكرملين، وتعززت العلاقة بين روسيا وإيران مع وجود ديناميكية واضحة للمصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية لكلا الطرفين؛ ومن ثم يمكن القول إن التعاون بين البلدين يتعمق، ولكن في حدود دقيقة، تجلت في المعاهدة الإستراتيجية الجديدة لعام 2025، التي أضفت الطابع الرسمي على المكاسب التي تحققت في السنوات الأخيرة، وتوجت التعاون الطويل بين موسكو وطهران في مواجهة المستجدات الإقليمية والدولية.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير