إستراتيجيات عسكريةمقالات المركز

هل تستفيد أوكرانيا من “حروب السجق”؟


  • 4 يناير 2024

شارك الموضوع

منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير (شباط) 2022، هناك بحث عن “صيغة مبدعة”، و”رؤية خارج الصندوق” تقنع الطرفين، ليس بوقف الحرب فقط؛ بل بتحقيق تسوية شاملة ومستدامة يقبلها ويرضى عنها الجميع، وتؤسس لمرحلة جديدة من التعاون والسلام والاستقرار بين الشعبين الروسي والأوكراني، خاصة في ظل تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بداية العام الجديد، التي قال فيها إنه لا يوجد أدنى مشكلة لروسيا مع الشعب الأوكراني.

وإذا كانت صفحات التاريخ هي من تصنع المستقبل وتصوغه، فإن “التسويات التاريخية” بشأن الخلافات الجيوسياسية، تظل نموذجًا يمكن العمل به والبناء عليه، ومن هذه التسويات التاريخية “اتفاقية موسكو” عام 1940 بين فنلندا والاتحاد السوفيتي السابق، التي أسست لاتفاقية “التعاون والصداقة” عام 1944 بين موسكو وهلسنكي بعد سنوات من “حروب الشتاء” التي اندلعت بداية من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1939، ويطلق عليها “حروب السجق”.

ورسمت “الواقعية السياسية” التي تحلى بها الزعيم السوفيتي يوسف ستالين، و”التواضع السياسي” الفنلندي في أربعينيات القرن الماضي، الخطوط العريضة لاتفاق أنهى الصراع الفنلندي السوفيتي، وحقق مصالح كل من هلسنكي وموسكو، فما أوجه التشابه بين الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا، والصراع الذي كان بين الاتحاد السوفيتي السابق وفنلندا؟ وكيف “للمقاربة” التي وضعها ستالين أن تكون “أساس صفقة” لوقف الحرب وتحقيق السلام بين روسيا وأوكرانيا في ظل المستجدات الأخيرة، التي تتمثل في تراجع الدعم الغربي لكييف في العام الجديد؟

تشابه وتماثل

المدقق في تفاصيل الصراع الروسي الأوكراني منذ ما يسمى “بالثورة البرتقالية” عام 2005 يتأكد له أن هناك تشابهًا كبيرًا يصل إلى “حالة التماثل” في الحرب الحالية بين كييف وموسكو، و”حروب السجق” التي كانت بين الجيش الأحمر السوفيتي وفنلندا في بدايات الحرب العالمية الثانية، وأبرز محاور التشابه هي:

أولًا: جزء من الأراضي الروسية

 جميع الأراضي الأوكرانية وأغلب الأراضي الفنلندية، كانت لقرون طويلة أراضي روسية، وجزءًا فيما بعد من الإمبراطورية الروسية، فعلى سبيل المثال، كانت فنلندا جزءًا من جمهورية نوفغورود الروسية، منذ أيام الدوق ياروسلاف عام 1227، الذي عمل على ربط فنلندا بالجمهورية الروسية الشمالية، من خلال ربط منطقة كاريليا الواقعة بالقرب من نوفغورود بروسيا، وهو المسار نفسه لأوكرانيا التي كانت جزءًا من روسيا والاتحاد السوفيتي حتى منح الزعيم السوفيتي فلاديمير لينين أوكرانيا وضعًا أشبه بالحكم الذاتي عام 1917، فقد كانت كييف جزءًا من الدولة الروسية ليس فقط منذ اتفاقية “السلام الدائم” عام 1686، بل منذ اتفاقية “بيرياسلاف” بين روسيا ودولة القوزاق عام 1654، التي جعلت من دولة القوازق الأوكرانية تحت “الوصاية الروسية”، ولم تراوح أوكرانيا هذه الوضعية إلا بالحصول على الحكم الذاتي عام 1917، ثم الاستقلال بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.

ثانيًا: الخلاف على الأرض 

 كل من الصراع الروسي الفنلندي، والروسي الأوكراني هو صراع على الأرض، فاليوم، الخلاف بين كييف وموسكو على 5 مقاطعات رئيسة هي: لوغانسك، ودونيتسك، وخيرسون، وزاباروجيا، بالإضافة إلى شبه جزيرة القرم، في حين طلب ستالين في بداية الحرب العالمية الثانية من فنلندا التنازل عن برزخ كاريليا، وقاعدة بحرية في هانكو، وبعض الجزر في خليج فنلندا بهدف حماية لينينغراد من سيطرة النازيين عليها، وجاء طلب ستالين من الفنلنديين بالتنازل عن نحو 9 % من أراضيهم بعد أن سيطر النازيون على جزء كبير من بولندا في سبتمبر (أيلول) عام 1939، وبات النازيون يهددون لينينغراد.

ثالثًا: دعم الطرف الثالث

 أسهم وجود طرف ثالث في إفشال المفاوضات بين روسيا وفنلندا عام 1939، كما أدّى “الطرف الثالث” الدور السلبي نفسه في الصراع الحالي بين أوكرانيا وروسيا، فالرفض الفنلندي لطلب ستالين جاء مدفوعًا بدعم النازيين الذين قدموا بعض الدعم العسكري لهلسنكي حتى تقاوم الزحف السوفيتي الذي بدأ في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1939، في حين أدّت الولايات المتحدة وحلف دول شمال الأطلسي (الناتو) الدور السلبي نفسه بين أوكرانيا وروسيا حتى قبل الحرب، عندما دعم حلف الناتو كييف بالسلاح والذخيرة منذ عام 2014، كما أفشل الناتو كل المحاولات الدبلوماسية لتنفيذ “اتفاقيات مينسك عام 2014، وهناك أكثر من اعتراف غربي بأنهم في الناتو استغلوا “اتفاقيات مينسك” بهدف إعطاء كييف مزيدًا من الوقت لتسليح نفسها ضد روسيا.

رابعًا: فشل سيناريو الحرب الخاطفة

 في “حروب الشتاء”، أو “حروب السجق”، راهن ستالين على حرب “سريعة وخاطفة” ضد فنلندا، خاصة أن عدد الجيش الأحمر كان يفوق نظيره الفنلندي بثلاثة أضعاف، وقدم الفنلنديون أداء عسكريًّا مميزًا، خاصة في معركة “السجق” التي بدأت عندما طارد الروس الجيش الفنلندي، الذي هرب وترك وراءه كميات كبيرة من “حساء السجق” الذي يساعد على مواجهة البرد القارس، وبعد اطمئنان السوفيت إلى انتصارهم في تلك المعركة جلسوا لاحتساء “حساء السجق”، وهو ما أعطى فرصة لهجوم مضاد من جانب الفنلنديين.

السيناريو نفسه بدأت به الحرب الروسية الأوكرانية، حيث راهن البعض على حرب روسية “سريعة وخاطفة” ضد أوكرانيا، والسيطرة- سريعًا- ليس فقط على كييف، بل على مدينة “لفيف” في غرب أوكرانيا، والوصول إلى الحدود الأوكرانية البولندية. ورغم تحقيق روسيا تقدمًا كبيرًا في الأسابيع الأولى من الحرب، والوصول بالفعل إلى تخوم كييف، فإن المعارك الآن باتت على جبهة طولها نحو 1300 كم من المواجهة شرق أوكرانيا، بدءًا من خاركوف في الشمال حتى زاباروجيا وخيرسون في الجنوب، وكما طالت الحرب الروسية الفنلندية من نوفمبر (تشرين الثاني) 1939 حتى عام 1944، لا تزال المواجهة مستمرة بين روسيا وأوكرانيا، رغم دخول الحرب عامها الثالث بعد أسابيع قليلة.

خامسًا: نصر لم يكتمل

 المكاسب التي حققتها أوكرانيا- مؤقتًا- في خاركوف في الشمال الشرقي لأوكرانيا، والوصول إلى الحدود الدولية مع روسيا في سبتمبر (أيلول) 2022، خدعت البعض الذي اعتقد أن هذا السيناريو سوف يستمر لطرد روسيا من نحو 18 % من الأراضي الأوكرانية، لكن ما جرى بعد ذلك، وفشل الهجوم الأوكراني المضاد في 4 يونيو (حزيران) الماضي أكد أن سيناريو “النصر المؤقت” في خاركوف يتشابه مع إغراء الفنلنديين لمواصلة الحرب على روسيا بعد توقيع اتفاقية سلام عام 1940، فرغم توقف الحرب بين موسكو وهلنسكي في مارس (آذار) 1940، فإن فنلندا استأنفت الحرب ضد الجيش السوفيتي عام 1941 حتى عام 1944، وأطلق عليها “حرب الاستمرار”، ونجحت فنلندا- في البداية- في السيطرة على مناطق قريبة من كاريليا، لكنها في نهاية المطاف خسرت الحرب، وسيطر الاتحاد السوفيتي على برزخ كاريليا بكامله في يونيو (حزيران) 1944، وهو ما قاد إلى استقالة الرئيس الفنلندي ريستو روتي في أغسطس (آب) من العام نفسه، وتم توقيع الهدنة في 19 سبتمبر (أيلول) 1944، وأعادت اعتراف فنلندا “باتفاقية موسكو” عام 1940، التي استرجع بموجبها الاتحاد السوفيتي “منطقة بيتاسمو” الإستراتيجية، كما دفعت فنلندا تعويضات لروسيا بنحو 300 مليون دولار على 6 سنوات.

خامسًا: تراجع الدعم

 الهزائم التي تعرض لها النازيون على يد الجيش السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، وتوقف الدعم العسكري لهلسنكي، أقنعت فنلندا- في النهاية- بضرورة الاتفاق مع روسيا بعد أن انحسر وتضاءل أي دعم للحكومة الفنلندية، وهو ما نراه اليوم في ظل رفض الكونغرس- بمجلسيه النواب والشيوخ- تمرير مزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، كما فشل حلف الناتو، بالتعاون مع دول الاتحاد الأوروبي، في تصنيع مليون قذيفة مدفعية لأوكرانيا في عام 2023، في ظل نقص حاد في السلاح والذخيرة لدى الدول الغربية، التي نزحت من الاحتياطي الإستراتيجي لأسلحتها، وقدمته لأوكرانيا، وبعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد بات هناك تيار قوي في الغرب يقول إنه إذا كانت أوكرانيا قد فشلت في تحقيق أي إنجاز برغم كل أشكال الدعم والسلاح الذي حصلت عليه منذ فبراير (شباط) 2022، فإن أي دعم جديد لن يحقق نتيجة مختلفة عن النتائج المخيبة للغرب طوال ما يزيد على 21 شهرًا من الحرب.

سادسًا: ضعف الجبهة الداخلية

كما انهارت “روح حرب الشتاء” لدى الفنلنديين في نهايات عام 1944، وانتصر الاتحاد السوفيتي في نهاية الحرب، تسود أوكرانيا في الوقت الحالي “روح التشاؤم” التي عبر عنها- بوضوح- رئيس الأركان الأوكراني فاليري زالوجني، وهي روح تسود حلفاء أوكرانيا في جميع دول الناتو بأن أوكرانيا لا يمكن أن تنتصر على روسيا في هذه الحرب، وهي روح تسربت إلى الجميع، بداية من الجنود الأوكرانيين على الجبهة، حتى دافع الضرائب الأمريكي الذي سئم من طول أمد هذه الحرب.

الواقعية مقابل الأرض

كان من نتيجة الحرب السوفيتية الفنلندية أن تنازلت فنلندا عن نحو 11 % من أراضيها للاتحاد السوفيتي السابق، لكنها حافظت في الوقت نفسه على كيان الدولة الفنلندية، وهو حل ظل مقبولًا من الجانبين الروسي والفنلندي منذ توقيع “اتفاقية الصداقة والتعاون” السوفيتية الفنلندية عام 1944، وتجددت هذه الاتفاقية مع روسيا منذ عام 1992، فروسيا التي ورثت الاتحاد السوفيتي السابق، لم تعد تطالب باستعادة كل الأراضي الفنلندية التي ظلت- قرونًا طويلة- جزءًا من أراضيها، وفي الوقت نفسه سمحت فترة الهدوء والسلام منذ عام 1944 بتحول فنلندا إلى أنجح دولة في شمال أوروبا، وأن تتصدر المؤشرات العالمية في كثير من المزايا الإيجابية، مثل التنافسية، والسعادة، والنمو الاقتصادي الكبير.

“الواقعية” نفسها يمكن أن تتحلى بها القيادة الروسية الحالية للتعامل مع أوكرانيا؛ من خلال التنازل عن الأفكار التي تقول بتبعية أوكرانيا التاريخية لروسيا، مقابل تخلي أوكرانيا عن المطالبة باستعادة المناطق الخمس (شبه جزيرة القرم، ولوغانسك، ودونيتسك ، وخيرسون، وزاباروجيا)، وحينئذ سيكون لأوكرانيا دولة على باقي الأراضي الأوكرانية، ويمكنها أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي بعد توقيع اتفاقية سلام وصداقة مع روسيا، على غرار السيناريو الفنلندي.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع