تقدير موقف

بين أرمينيا وأذربيجان

هل تستطيع ألمانيا إحلال السلام في القوقاز؟


  • 5 مارس 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: politico.eu

المقدمة

مثّل يوم 19 سبتمبر (أيلول) 2023، حين سيطرت أذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ عسكريًّا- عقب عملية لم تستغرق سوى يوم واحد- بداية مرحلة انتقالية في جنوب القوقاز؛ تلك المنطقة التي تحظى بثروات ضخمة من النفط والغاز، ومرور طرق التجارة الدولية، ونقل الطاقة بين أوروبا وآسيا، ما رفع أهميتها في الإستراتيجية الدولية، والتنافس بين الفاعلين الدوليين- وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، وروسيا- والفاعلين الإقليميين، ومنهم تركيا، وإيران، وإسرائيل.

وفي ضوء تطورات الصراع التاريخي الممتد بين أرمينيا وأذربيجان منذ تسعينيات القرن الماضي، جاءت محاولة الوساطة الألمانية، حيث أعلنت وزارة الخارجية الألمانية أن وفدين من أرمينيا وأذربيجان أجريا مفاوضات سلام في برلين في 28 و29 فبراير (شباط) بموجب الاتفاق المبرم خلال اجتماع ثلاثي عقد في ميونخ، تفرض هذه الوساطة الوقوف على مستقبل الصراع بين البلدين، والتحولات المتوقعة في منطقة القوقاز استنادًا إلى عدد من المحددات والعوامل الرئيسة المؤثرة في تفاعلات هذه المنطقة، في سياق مصالح القوى الدولية والإقليمية في القوقاز المرتبطة بالتداخل العرقي والثقافي والديني، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية التي جعلت المنطقة أحد أهم الرهانات الإستراتيجية في هذه الآونة.

جذور الصراع بين أرمينيا وأذربيجان

تتركز أصول الصراع بين الجانبين منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي بشأن ثلاث قضايا رئيسة؛ أولها: إقليم ناغورنو كاراباخ، حيث أدلت حكومتا أرمينيا وأذربيجان بتصريحات متكررة بأنهما تعترف كل منهما بوحدة أراضي الأخرى، ومنها ناغورنو كاراباخ، والمناطق المجاورة، التي هي جزء من أذربيجان بموجب القانون الدولي. في الوقت نفسه، أرادت أرمينيا ضمانات مفصلة لحماية حقوق الأرمن هناك. والقضية الثانية ترتبط بالحدود بين البلدين، التي تمتد إلى مسافة 600 ميل على الأقل، وفي بعض النقاط، تتمركز القوات لكل بلد على مسافة قريبة. وبينما تريد أذربيجان الترسيم بشروطها، تريد حكومة أرمينيا ضمانات أمنية يمكن أن تمهد الطريق لأذربيجان لسحب القوات التي كانت متمركزة داخل أرمينيا، وتقلّل الحوادث الحدودية.

أما القضية الثالثة فتتعلق بطرق النقل، حيث أغلقت أذربيجان وتركيا حدودهما مع أرمينيا ثلاثة عقود بسبب الصراع، ولكن منذ وقف إطلاق النار في عام 2020، كانت هناك محادثات بشأن كيفية استئناف النقل، إذ تسعى أذربيجان إلى بناء طريق وممر للسكك الحديدية يسيطر عليه جهاز الأمن الروسي، يربطها بناخيشيفان، ومن هناك إلى تركيا.

في هذا السياق، خاضت أرمينيا وأذربيجان، الجمهوريتان السوفيتيتان السابقتان المتنافستان في القوقاز، حربين؛ الأولى في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث انتصرت أرمينيا في حربها مع أذربيجان، وسيطرت على (13%) من إجمالي مساحة الأراضي الأذربيجانية، ومنها منطقة ناغورنو كاراباخ، في حين نشبت الحرب الثانية عام 2020، بسبب النزاع على ناغورنو كاراباخ؛ المنطقة التي تقطنها غالبية أرمينية، وانفصلت عن أذربيجان بدعم من أرمينيا، لكن  أذربيجان استعادت سيطرتها على الإقليم عام 2020، وانتهت بهدنة تم التوصل إليها بوساطة روسية.

وفي عام 2022، كُلفت بعثة مراقبة تابعة للاتحاد الأوروبي بمراقبة مناطق الصراع المحتملة على طول الحدود بين أرمينيا وأذربيجان، لكن باكو نددت ببعثة المراقبة التابعة للاتحاد الأوروبي في عدة مناسبات، حتى إن وزارة خارجيتها استدعت سفير الاتحاد الأوروبي في باكو للتعبير عن قلقها بشأن المهمة، فيما انتقدت روسيا أيضًا مهمة الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد اندلاع القتال الأخير، ودعت كلاً من أرمينيا وأذربيجان إلى ضبط النفس.

وجاءت سيطرة أذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ لتكشف عن تغير في موازين القوى بين الدولتين لصالح أذربيجان، إذ تسعى باكو إلى تعزيز علاقاتها الدولية مع الولايات المتحدة، وإسرائيل، وتركيا، حتى إن تصريحات بعض المسؤولين في أذربيجان تتحدث عن أمة واحدة في دولتين، خاصةً أن تركيا تحلم ببناء فضاء لها يمتد من البوسفور إلى آسيا، ومن ضمنه بالطبع أذربيجان، كما زودت أنقرة حليفتها باكو بالأسلحة، كالطائرات المُسيّرة وغيرها؛ لدعمها في صراعها مع أرمينيا لاستعادة إقليم كاراباخ.

في المقابل، لم تتمكن أرمينيا من الحصول على الدعم الغربي الكافي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تضاءل فيه الدعم الروسي، بالرغم من العلاقات الوطيدة بين البلدين، فكلاهما عضو في منظمة الأمن الجماعي (CSTO) التي ترعاها موسكو؛ وذلك بسبب انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، وقد أسهم ذلك في تقليص الدعم الروسي لأرمينيا في صراعها مع أذربيجان؛ لذا رفضت أرمينيا إجراء منظمة الأمن الجماعي تدريبات على أراضيها، وعمدت إلى إجراء تدريبات مع القوات الأمريكية في سبتمبر 2023، وقدمت مساعدات إنسانية لأوكرانيا، واتخذت خطوة حاسمة في علاقتها مع روسيا، وقررت في محادثات برلين الأخيرة الانسحاب من المنظمة؛ اعتراضًا على تخلي روسيا عنها في حربها مع أذربيجان.

ومنذ أن سيطرت أذربيجان بالكامل على إقليم كاراباخ في سبتمبر (أيلول) 2023، تحول كثير من الاهتمام إلى سيونيك؛ المقاطعة الجنوبية الشرقية ذات الأهمية الإستراتيجية لأرمينيا. ففي أرمينيا، تزايد القلق من أن الغزو الأذربيجاني في هذا الاتجاه قد يكون وشيكًا، خاصة بعدما أثار حادث مسلح وقع في قرية حدودية في سيونيك يوم 13 فبراير (شباط) الجاري مخاوف كبيرة لدى أرمينيا، إذ أطلقت  القوات الأذربيجانية النار باتجاه المواقع الأرمينية بالقرب من قرية نيركين هاند الحدودية؛ ما أدى إلى مقتل أربعة جنود أرمينيين، وإصابة آخر، وهو ما عدّته أذربيجان عملية انتقامية ردًا على حادث سابق أدى إلى إصابة أحد جنودها؛ ومن ثم تعتقد أرمينيا أن جارتها تسعى إلى السيطرة على منطقة سيونيك الأرمينية لربط مقاطعة ناخيتشيفان الأذربيجانية ببقية أراضي أذربيجان.

ومن هذا، يمكن فهم محاولة أذربيجان السيطرة على منطقة سيونيك بهدف إنشاء الرابط البري إلى ناخيتشيفان عبر أراضي أرمينيا، الذي تسميه ممر زانجيزور، بل تطرح أذربيجان أن يكون الممر حصريًّا تحت السيطرة المحايدة لحرس الحدود الروسي، دون أي فحوصات أرمينية على البضائع والركاب الأذربيجانيين، وهو المقترح الذي تخشى أرمينيا من نتائجه المتمثلة في إجبارها على وقف سيطرتها على حدودها الجنوبية؛ لذا قدمت أرمينيا مقترحًا بديلًا ينص على تعزيز التعاون الإقليمي، وإعادة الفتح العام لجميع طرق النقل في المنطقة، على أساس مبادئ السيادة والولاية القضائية للدول.

مخرجات مفاوضات سلام برلين

يعد غياب الوساطة الدولية أحد محفزات الصراع بين الدولتين، فعلى الرغم من اندلاع مواجهات دامية في يوليو (تموز) 2020 على الحدود الرسمية بين أرمينيا وأذربيجان، بالإضافة إلى دعوات الحرب المتكررة بين الطرفين، لم يتم احتواء الصراع بوساطة دولية، وتركت الدول النزاع دون حل، بل لم يُعتمد قرار محدد ومتفق عليه دوليًّا بشأن إقليم كاراباخ المتنازع عليه، ومن هذا تعدّ الجهود الدولية التي بذلت في حل الصراع المباشر في منطقة القوقاز بعيدة كل البعد عن الحياد، فالقوى الدولية والإقليمية حاولت تقديم نفسها طرفًا محايدًا بين أرمينيا وأذربيجان، لكن العلاقات التاريخية والاقتصادية والعسكرية كان لها تأثير واضح في خريطة التحالفات.

وفي الأشهر الأخيرة، لم تسفر عدة جولات من المفاوضات عن نتائج ذات أهمية، فلا يزال الوضع غير مستقر، ولا تزال الحوادث المسلحة، حيث تتبادل أرمينيا وأذربيجان الاتهامات بإطلاق النار على حدودهما، لكن في 17 فبراير(شباط) الماضي، على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، اتفق رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف على مواصلة المفاوضات بين بلديهما في ألمانيا.

وبوساطة من المستشار الألماني أولاف شولتز، اتفق رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، في ميونيخ، على مواصلة مفاوضات السلام بين بلديهما؛ لذا اتفقا على تكليف وزراء خارجيتهما لإجراء مناقشات خلال يومي 28 و29 من الشهر الماضي، وهو ما سمي بمحادثات برلين للسلام، التي تعهدت فيها الدولتان بتسوية الخلافات من خلال سبل سلمية فقط، ومن دون اللجوء إلى القوة، واعتبرت المحادثات الحالية استمرارًا للمناقشات المثمرة التي جرت على هامش مؤتمر ميونيخ الأمني.

وتمثلت أهمية تلك المحادثات في كونها أولى الخطوات الشجاعة التي اتخذتها أرمينيا وأذربيجان في إطار مسعى جديد لتسوية نزاع مستمر منذ عقود، حيث خلصت تلك المناقشات إلى ضرورة  حل القضايا العالقة من خلال المفاوضات الدبلوماسية، وإحلال السلام بين أذربيجان وأرمينيا، حيث ناقشت الوفود المواقف التي اتخذتها الأطراف بشأن أحكام مشروع وثيقة الاتفاق الثنائي بشأن إقامة السلام والعلاقات بين الدولتين؛ ما سيوفر فرصًا جديدة لكلا البلدين ومنطقة جنوب القوقاز بكاملها خلال الفترة المقبلة.

مستقبل الصراع في القوقاز

في ضوء حسم الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، يمكن الوقوف على بعض التحولات التي من المُحتمل أن تشهدها منطقة القوقاز بعد محادثات السلام التي جرت في برلين، واحتمال إعادة هيكلة التوازن الجيوسياسي في جنوب القوقاز من خلال حدوث تغيير في الديناميكيات السياسية في هذه المنطقة، بالإضافة إلى بعض التحولات التي قد تنجم عن تغييرات سياسية داخلية، تتمثل أهم محدداتها فيما يلي:

1- زعزعة الاستقرار الداخلي في أرمينيا: قد تدفع خسارة أرمينيا الصراع مع أذربيجان باتجاه تصاعد حالة الاستياء الداخلي من الحكومة الحالية، فقد اندلعت تظاهرات متزايدة تطالبها بالاستقالة؛ ومن ثم الاتجاه نحو مزيد من عدم الاستقرار، مع مطالبة الأحزاب بضرورة استقالة الحكومة الموالية للدول الغربية.

2- تراجع الدور الروسي في منطقة القوقاز، في ظل تغير الأجندة الروسية بعد عامين من حرب أوكرانيا، وعلى الرغم من التنبؤ بتضاؤل دور موسكو في القوقاز الجنوبي، فإنها لا تزال تحتفظ بـ10 آلاف جندي يتمركزون في أرمينيا، بالإضافة إلى 2000 آخرين في ممر لاتشين، وذلك مقارنة ببعثة المراقبين المدنيين التي أرسلها الاتحاد الأوروبي العام الماضي، ولا يتجاوز عددها عدة مئات.

3- محدودية الدور الأوروبي: تتزايد الشكوك بشأن قدرة الاتحاد الأوروبي على أداء دور مهم في القوقاز لصالح أرمينيا، أو ملء الفراغ المُحتمل الذي يتنبأ به البعض نتيجة تراجع الدور الروسي، فأوروبا لم تدعم أرمينيا في صراعها مع أذربيجان، واكتفت ببيانات الشجب والإدانة والاستنكار، كما أن موقفها إزاء الصراع بشأن إقليم ناغورنو كاراباخ كان متناقضًا؛ ففي حين أكد الاتحاد الأوروبي وحدة أذربيجان الإقليمية، شدد في الوقت نفسه على حق تقرير المصير للأرمن القاطنين في الإقليم، هذا فضلًا عن التصدعات الداخلية في الاتحاد الأوروبي، وتقلص الدور الموحد لأوروبا تجاه الملفات الحيوية.

4- تعزيز النفوذ الأمريكي: تعمل الولايات المتحدة على توسيع انخراطها في منطقة القوقاز من خلال توظيف العلاقات مع أرمينيا، واستغلال خلافات الأخيرة مع روسيا، في محاولة أمريكية لاستقطاب أرمينيا بعيدًا عن موسكو، ومحاولة التمدد في هذه المنطقة الجيوستراتيجية.

5- صعود الدور التركي: تنطوي المعادلة الجيوسياسية الجديدة، التي ترتبت على حسم مصير إقليم ناغورنو كاراباخ، على خلق توازنات جديدة في القوقاز؛ إذ برز الدور التركي الطامع في خلق فضاء ممتد من البوسفور حتى جنوب القوقاز، بالاعتماد على شعبية النموذج التركي في الجمع بين الديمقراطية والإسلام. ومع أن معظم الأذريين يدينون بالمذهب الشيعي، فإن الرابطة التركمانية والدعم الذي تلقته أذربيجان من تركيا خلال صراعها بشأن الإقليم، منحا أنقرة الأولوية في الأجندة الأذرية.

6- التنافس الإيراني الإسرائيلي: تفقد إيران كثيرًا من أوراقها في منطقة القوقاز، إذ يتنامى نفوذ إسرائيل في أذربيجان، التي تقيم معها علاقات تجارية واستخباراتية بالقرب من حدود إيران، وهو ما لم تقبله طهران من جانب جارتها القوقازية، خاصة بعد العدوان على غزة؛ لذا عقدت إيران مشاورات مع الهند وأرمينيا لتدعيم العلاقات الاقتصادية؛ في محاولة لاستعادة التوازن الجيوسياسي، وذلك في مواجهة التعاون الثلاثي بين أذربيجان وتركيا وباكستان.

الخاتمة

إن التفاعل بين المكونات والديناميكيات الداخلية في منطقة القوقاز، وبين القوى الدولية والإقليمية المتنافسة على النفوذ والمصالح الاقتصادية والطاقة فيها، سيؤثر في تشكيل خريطة المستقبل، والتفاعلات الممكنة في هذه المنطقة الحيوية، إذ تبحث دول القوقاز عن تعزيز تحالفاتها لموازنة الضغوط التي تمارسها روسيا، التي لا تزال حتى اللحظة الراهنة- بالرغم من التنبؤات بتراجع دورها- الفاعل المهيمن في القوقاز.

والآن، أمام أرمينيا وأذربيجان فرصة تاريخية لإحلال السلام في المنطقة، في سياق محادثات السلام التي انعقدت في ألمانيا على مدار الأيام الماضية، فإذا اتخذ البلدان منحى جادًا من خلال تلك المحادثات ستنجح أرمينيا وأذربيجان في إنهاء ثقافة الصراع وإراقة الدماء السائدة في المنطقة؛ ومن ثم ستظفر منطقة القوقاز بتعزيز الاتفاقيات التجارية، والازدهار الاقتصادي، والتنمية الاجتماعية، والتعاون الدولي، حيث سيطلق السلام إمكانات المنطقة الكاملة للنمو والتقدم.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع