صرح المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، في إيجازه الصحفي اليومي، الاثنين 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، أن روسيا “تعول على تحقيق تقدم ملموس في تسوية الأزمة الأوكرانية خلال اللقاء المرتقب في بودابست، عاصمة المجر، بين الرئيس بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترمب”.
بيسكوف قال في تصريحاته إن القمة لن تكون محصورة في موضوع الملف الأوكراني؛ بل ستُطرح خلالها كذلك ملفات العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة، وهي الصيغة التي تدخل بها موسكو دائمًا مثل هذه اللقاءات، لعلمها المسبق -حسبما أفهم- أن موضوع أوكرانيا كمادة للمحادثات هو موضوع محكوم بالفشل إلا إذا رُبط بغيره، على الأقل في هذا التوقيت.
المتحدث الرئاسي أكد بالطبع أن العمل التحضيري للقمة جارٍ على قدم وساق بين وزارتي خارجية البلدين لضمان أن يكون اللقاء الرئاسي “منتجًا ومحدد الهدف”. في الوقت نفسه، أعلن فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري، تكليفه بتشكيل لجنة تنظيمية خاصة لتسهيل التحضيرات المذكورة.
تعد هذه التصريحات من كل الجهات، التي تعكس التفاعل السريع بين موسكو وبودابست وواشنطن، مؤشرًا واضحًا على اقتراب اللقاء من مرحلته العملية، وهذا بالطبع يمنح هذا اللقاء وزنًا سياسيًّا، خصوصًا ونحن نتابع المساعي الأوروبية، أو لنقل المواقف الأوروبية، المعادية لأي حوار روسي أمريكي مباشر، أو لنخفف الوصف، ونقُل المتذمرة من حدوث هذا الحوار المباشر أمام أنوفها، دون أن تكون شريكًا فيه. وأوضح تعبير عن هذه المواقف الأوروبية جاء في توجه دول الاتحاد نحو تبني حزمة جديدة من الإجراءات العقابية ضد موسكو، وهو ما لا يمكن وصفه بالطبع إلا بأنه خطوة جديدة في مسار التصعيد الاقتصادي. ففي اجتماع وزراء الطاقة الأوروبيين في لوكسمبورغ، يوم الاثنين 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، وافقت غالبية دول الاتحاد على خطة لحظر استيراد الغاز الطبيعي الروسي بالكامل بحلول نهاية عام 2027. هذه الخطوة، حسب ما صرحت المفوضية الأوروبية، هي “محاولة لحرمان موسكو من مصدر تمويل رئيس للحرب في أوكرانيا”. وهذا التصريح في رأيي هو للاستهلاك الإعلامي المحلي أوروبيًّا؛ لأننا إذا احتكمنا إلى لغة الأرقام، التي لا تكذب ولا تبالغ، فسنرى أن حصة الغاز الروسي المستهلك في الاتحاد الأوروبي انخفضت من 45% في عام 2022 إلى نحو 13% في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، وأنا هنا أنقل حرفيًّا ما قاله مفوض الطاقة الأوروبي دان يورغنسن في لوكسمبورج قبيل اجتماع وزراء الطاقة أمس.
الممثلة العليا للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس أكدت أن الحزمة الجديدة، وهي التاسعة عشرة، سوف تُعرَض على البرلمان الأوروبي قريبًا، ولم تفوت الفرصة لتتهم روسيا بأنها “لا تريد السلام”.
والصورة بالطبع سوف تبدو معكوسة إذا نظرنا إليها من الزاوية الروسية، وما أقصده هو أنه من وجهة نظر موسكو والكرملين وبوتين، لا يمكن لهذه الخطوة الأوروبية إلا أن تكون دليلًا جديدًا على أن بروكسل هي التي لا تسعى إلى تسوية، ولا ترغب في حل للأزمة الأوكرانية؛ بل تحاول فقط تشديد الضغوط الاقتصادية والسياسية، والهدف من هذه التصرفات هو عرقلة أي مسار تفاوضي، وفي المقام الأول القمة المنتظرة في بودابست.
من جهة ثانية، ومن واقع متابعتي للمواقف الروسية عن هذه القمة المرتقبة، وبموضوعية، أرى أن موسكو تعتقد أن إعداد جدول أعمال لقاء بودابست سيكون معقدًا؛ بسبب تباين أولويات الأطراف الثلاثة المعنية على نحو مباشر، وأقصد بالطبع روسيا، والولايات المتحدة، وأوكرانيا. وإذا أخذنا مثلًا ما نشرته صحيفة الواشنطن بوست بهذا الشأن، فسنرى أنها أكدت أن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو سيجتمع مع نظيره الروسي لبحث تفاصيل أجندة القمة، وهي خطوة أكدها أيضًا يوري أوشاكوف، مساعد الرئيس الروسي، وأوضح أن عقد القمة كان من اقتراح بوتين، لكن اختيار بودابست مكانًا لها كان اقتراحًا من ترمب وافق عليه بوتين على الفور.
تقارير روسية معتبرة تقول إن واشنطن ترغب هذه المرة في تحضير بنود واقعية يمكن البناء عليها لتفادي تكرار تجربة أنكوريدج التي انتهت بلا نتائج؛ لذلك يضع الكرملين -حسب فهمي الخاص بالطبع- خطوطه الحمراء مسبقًا، بالقول: أي لقاء جديد لا معنى له من دون التوصل إلى تفاهمات ملموسة.. الإقرار بسيطرة روسيا على أراضي دونباس.
لكن ما يعقد المشهد هو إعلان الرئيس زيلينسكي استعداده للحضور إلى بودابست بحجة أن “القضية الأوكرانية لا يمكن بحثها من دون أوكرانيا”، لكنه في الوقت نفسه يكرر رفضه لأي “تنازل إقليمي” لروسيا.
وهذا التناقض في موقفه، الذي يسلط الكرملين الضوء عليه باستمرار، يعكس -من وجهة نظري- عجز كييف عن تبني سياسة تفاوضية واقعية.
وفي الوقت نفسه، إذا عدنا إلى الموقف الأوروبي، فسنرى أن أوروبا تظهر ميلًا متزايدًا إلى التشدد، وما يمكن لفت الانتباه إليه هذه المرة هو تصريحات وزير الدفاع السويدي بول جونسون الذي قال “إن القارة يجب أن تدخل في وضع الحرب للحفاظ على السلام”، وهنا يبدو التناقض الأوروبي صارخًا، وموسكو في رأيي محقة في تسليطها الضوء عليه، إذ كيف تدعو وتتحدث عن السلام، بالتوازي مع تسليح متزايد، وتصعيد اقتصادي شامل ضد روسيا؟!
ولا يفوتنا هنا أيضًا الإشارة إلى تنشيط الكونغرس الأمريكي مشروعات قوانين جديدة بشأن العقوبات الثانوية على الدول المتعاملة مع قطاع الطاقة الروسي، وهو ما يفسره الكرملين على أنه جزء من منظومة الضغط الغربي المتكاملة التي تهدف إلى حرمان روسيا من أي مكسب سياسي من لقاء بودابست.
وفي هذا السياق، ومن وجهة نظري، يمكن القول إن موسكو تفهم أن الغرب يستخدم خطاب “الواقعية” نعم، لكن فقط لإخفاء إستراتيجيته القائمة على إبقاء الحرب ضمن حدود السيطرة الغربية، وتحت سقف الاستنزاف.
لهذه الأسباب أعتقد أن موسكو تنظر إلى قمة بودابست بوصفها اختبارًا جديدًا لجدية الرئيس ترمب وللإدارة الأمريكية، أكثر من كونها لقاءً رمزيًّا كقمة ألاسكا مثلًا، والسؤال الذي يدور في رأس بوتين: ما مدى استعداد واشنطن، أو قدرة ترمب، على الانتقال من مجرد عملية إدارة الأزمة إلى محاولة تهدئتها؛ لأن الحل -في رأيي- لا يزال بعيدًا.
فضلًا عن ذلك، يبدو التصعيد الأوروبي في ملف الغاز، الذي أشرت إليه أعلاه، مرتبطًا مع الحاجة الأمريكية إلى إعادة ترتيب أولوياتها في ظل التنافس مع الصين. وموسكو في اعتقادي تدرك أن البيت الأبيض لا يريد حربًا أوروبية بلا نهاية، لكنها -أي موسكو- ترى أن الأوروبيين يدفعون في هذا الاتجاه من أجل حماية دورهم داخل الحلف الأطلسي؛ ومن ثم فإن أي تقدم قد يحدث في بودابست سيعني بالضرورة تهميش بروكسل، وإعادة تحديد، بل تحجيم موقعها في منظومة الأمن الأوروبي.
داخليًّا، ومن واقع متابعتي اليومية، يُستخدم الخطاب الرسمي للكرملين لتأكيد ثبات الموقف الروسي رغم تصاعد الهجمات الأوكرانية على المقاطعات الحدودية، وخصوصًا بيلغورود وكورسك، فضلاً عما يلحق بكراسنودار وروستوف. واستخدام بيسكوف في حديثه عبارات مثل “عمل جاد”، و”ثبات الموقف”، هو بالطبع حديث موجه إلى الرأي العام الروسي، وغرضه تأكيد أن القيادة تتحكم في إيقاع الأزمة، وأنها -أي القيادة- لا تفاوض من موقع ضعف.
إجمالًا نقول، ترى القيادة الروسية أن المسارين الأوروبي والأمريكي يتباعدان بوضوح؛ فأوروبا تتجه إلى تصعيد اقتصادي هدفه خنق روسيا، وإفشال أي مسار تفاوضي، في حين تترك واشنطن الباب مواربًا أمام قنوات التفاهم مع موسكو. وينظر الكرملين وبوتين إلى قمة بودابست على أنها ستكون اختبارًا حقيقيًّا لإمكانية العودة إلى حوار إستراتيجي مباشر بين القوتين النوويتين العظميين، بعيدًا عن الوصاية الأوروبية، وإن كان اللقاء في قلب القارة العجوز.
أما العقوبات الأوروبية الجديدة، وخصوصًا حظر الغاز بحلول عام 2027، فما هي إلا خطوة أوروبية “غبية” جديدة على طريق قطيعة اقتصادية شاملة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، تدفع روسيا دفعًا إلى الارتماء في أحضان الصين، وتثبيت العلاقات مع الهند، وآسيا، والشرق الأوسط.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير