لم ينهِ اتفاق وقف النار الهش المخاوف التي يحملها الصراع العسكري الراهن بين الهند وباكستان، حيث أعادت التحالفات العسكرية تشكيل مشهد الصراع بين القوتين النوويتين، ما قد يحول الصراع التقليدي إلى ساحة مواجهة غير مباشرة بين القوى الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الصين وتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل. تاريخيًّا، لطالما حافظت تركيا وباكستان على علاقات عسكرية ودبلوماسية وثيقة، ترتكز على مصالح إستراتيجية ودينية وأيديولوجية مشتركة، لكن تنامي وجود الأصول العسكرية التركية في باكستان على مدار الأيام القليلة الماضية، يثير تكهنات عن دور تركيا في تغيير ميزان الحرب لصالح باكستان، ويطرح تساؤلات عن طبيعة تسليح أنقرة لإسلام آباد، ولماذا يدعم أردوغان باكستان على حساب الهند؟ وهل يعني هذا أن تركيا ستدخل في مواجهة عسكرية مباشرة مع الهند؟ وما السيناريوهات المطروحة أمام تركيا للانخراط في هذا الصراع؟
في ظل رؤية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للنموذج التركي، تُعد أنقرة علاقتها بإسلام آباد جزءًا من كتلة جيوسياسية إسلامية أوسع؛ ما يضعهما على النقيض من مراكز القوة التقليدية في الشرق الأوسط، مثل السعودية والإمارات، أو المنافسين الإقليميين، مثل الهند وإسرائيل واليونان، ويتماشى طموح أردوغان لقيادة الأمة الإسلامية مع رغبة باكستان الطويلة الأمد في أن تكون نواة للعالم الإسلامي، وهو ما دفع إلى ترسيخ العلاقات التركية الباكستانية، خاصةً في الجانب العسكري لتكون حجر الزاوية لشراكة إستراتيجية قوية بين البلدين تشمل الإنتاج الدفاعي، والتدريب، والعمليات المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ومكافحة الإرهاب. وفي هذا السياق ربطت بين تركيا وباكستان عقود من التعاون الدفاعي، الذي أُرسي رسميًّا من خلال اتفاقيات تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث كان البلدان عضوين في التحالف العسكري الأمريكي المعروف باسم منظمة المعاهدة المركزية، أو حلف بغداد، وهو ما عزز التعاون العسكري بين البلدين، وأسهمت الاتفاقيات الثنائية، مثل اتفاقية التعاون الدفاعي لعام 1980، في تسهيل التدريبات العسكرية المشتركة، ونقل الأسلحة، وتقاسم التكنولوجيا.
وفي السنوات الأخيرة، وتحديدًا في عام 2016، قامت مجموعة الحوار العسكري الرفيعة المستوى بإضفاء الطابع الرسمي على هذا التعاون، وأدت إلى التطوير المشترك لمشروعات مثل طائرة كان التركية المقاتلة، وبرزت تركيا بوصفها موردًا رئيسًا للسلاح وسط القيود الغربية على الأسلحة التي فُرضت على باكستان، حيث باعت أنقرة لإسلام آباد طائرات بدون طيار مثل “بيرقدار تي بي 2“، و”أكينجي”، وطورت أنقرة طائرات باكستان من “طراز إف-16″، وفي عام 2018 طلبت باكستان 30 مروحية تركية من طراز “تي-129” بقيمة تقارب 1.5 مليار دولار أمريكي، لتحديث أسطولها من المروحيات الهجومية، وقد تعطلت الصفقة بسبب مشكلات في ترخيص التصدير الأمريكي؛ لأن المحركات المستخدمة أمريكية الصنع.
وفي عام 2021 تشاركت أنقرة مع إسلام آباد في تطوير أنظمة صاروخية وطائرات مقاتلة، حيث وقعت تركيا وباكستان اتفاقية دفاعية لتصنيع الأسلحة المشتركة، وزودت أنقرة إسلام آباد بأسلحة متطورة، منها أربع سفن حربية من فئة “ميلجم – بي إن إس بابور”، و”بي إن إس خيبر”، التي تم تسليمها في عام 2022، كجزء من البرنامج البحري المحلي الرائد في تركيا، حيث يُبنَى طرادان في حوض بناء السفن في كراتشي الباكستاني، لتبلغ واردات باكستان من تركيا من الأسلحة والذخائر وقطع الغيار والملحقات في عام 2024 نحو 5.16 مليون دولار أمريكي.
بعد ساعات قليلة من هجوم باهالغام في 22 أبريل (نيسان) الماضي المنسوب إلى جبهة المقاومة، وهي فرع معروف لجماعة عسكر طيبة/ لشكر طيبة، التي يُتهم جهاز المخابرات الباكستاني بمساندتها، سرعان ما دعمت تركيا باكستان على المستوى الرسمي، حيث التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان برئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، وبعد أن نفذت الهند عملية سيندور، حيث استهدفت ضربات صاروخية دقيقة البنية التحتية لباكستان، كانت تركيا الدولة الأبرز التي أيدت الرواية الباكستانية، وأعربت عن تضامنها مع الشعب الباكستاني.
ولم تكتفِ أنقرة بالدعم الدبلوماسي، ففي 27 أبريل (نيسان) الماضي، هبطت سبع طائرات تركية من طراز هيركوليس “سي-130” في باكستان، حيث هبطت ست منها في إسلام آباد، وواحدة في قاعدة فيصل الجوية بكراتشي، وتُدوِلَت تقارير عن أن هذه الطائرات كانت تحمل طائرات “بيرقدار تي بي 2” بدون طيار، وأسلحة خفيفة، وقنابل ذكية، وأنظمة صواريخ موجهة، وهو ما نفته تركيا بإصرار، ولكن في الرابع من مايو (أيار) الجاري أعلنت البحرية الباكستانية وصول البارجة الحربية التركية “تي سي جي بويوك أدا” إلى ميناء كراتشي.
وبينما وصفت أنقرة وإسلام آباد هذه الخطوات بأنها روتينية، وبوادر حسن نية، وانعكاس للثقة المتبادلة الراسخة والشراكة الإستراتيجية بين البلدين الشقيقين، فإن توقيتها أثار تكهنات عن نيّات إستراتيجية أعمق، خاصةً أن وسائل إعلام باكستانية أعلنت أن الطائرة ربما كانت تحمل معدات قتالية، لكن الحكومة التركية أكدت أن الطائرة كانت تُزود بالوقود فقط، ونفت أي عمليات نقل بضائع عسكرية، لكن في ليلة التاسع من مايو (أيار) الجاري، اخترقت ما بين 300 و400 طائرة مُسيرة تركية الصنع المجال الجوي الهندي أطلقتها باكستان لاختبار أنظمة الدفاع الجوي الهندية، وجمع معلومات استخباراتية؛ ما دفع إلى تفسير أن السفينة الحربية “بيكادا”، المُجهزة بصواريخ مضادة للسفن وتقنيات مراقبة، كانت جزءًا من الدعم العسكري التركي لباكستان في صراعها الراهن ضد الهند.
شهدت العلاقات الهندية التركية توترات دوريةً تخللتها محاولات للتواصل، إذ كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بباكستان بعد استقلالها عام ١٩٤٧، وأقامت علاقات دبلوماسية معها منذ عام ١٩٤٨، وظلت العلاقات بين أنقرة ونيوديلهي محايدة إلى حدٍ كبير خلال فترة الحرب الباردة، حيث انضمت الهند إلى حركة عدم الانحياز، ووقفت تركيا بثبات في الكتلة الغربية بوصفها عضوًا في حلف شمال الأطلسي، لكن العلاقة اكتسبت زخمًا في فترة ما بعد الحرب الباردة، لا سيما من خلال التبادلات الاقتصادية والثقافية.
ومع صعود أردوغان إلى السلطة، وتركيزه المتزايد على نموذج السياسة الخارجية العثمانية الجديدة بوصفه نموذجًا يسعى إلى توسيع النفوذ التركي في العالم الإسلامي، بدأ نهج أنقرة تجاه نيودلهي يعكس إعادة تقييم أيديولوجي وجيوسياسي، وكانت نقطة الخلاف الرئيسة في العلاقات الهندية التركية في عهد أردوغان هي دعم تركيا المستمر لموقف باكستان بشأن كشمير. ومن ناحية أخرى، تتناقض علاقات تركيا المتنامية مع الصين، وخاصة في إطار مبادرة الحزام والطريق، مع معارضة الهند للمبادرة بسبب المخاوف السيادية المتعلقة بالممر الاقتصادي الصيني الباكستاني؛ ومن ثم اتخذت الهند تدابير إستراتيجية مضادة لموازنة النفوذ التركي من خلال ترسيخ تحالفاتها في شرق البحر الأبيض المتوسط وجنوب القوقاز، وهما منطقتان جيوسياسيتان مهمتان لتركيا، كما عززت الهند علاقاتها الدبلوماسية مع اليونان، وهي المنافس التاريخي لتركيا. بالإضافة إلى هذا، طورت الهند علاقات إستراتيجية مع إسرائيل والإمارات وفرنسا، وهي دول تنظر أيضًا بعين الريبة إلى النشاط الإقليمي التركي.
واستنادًا إلى ما سبق، في حال توسع الصراع الحالي بين الهند وباكستان، ستنحاز تركيا إلى حليفتها التاريخية في الجنوب الآسيوي باكستان؛ ما يطرح عددًا من السيناريوهات عن طبيعة الدعم الذي ستقدمه أنقرة لإسلام آباد لضمان تقدمها على نيوديلهي، كما يتضح فيما يلي:
السيناريو الأول: الدعم الدبلوماسي (مرجح): تستطيع تركيا دعم باكستان من خلال التصريحات الرسمية الرافضة للموقف الهندي، والمتعاطفة مع الرد الباكستاني، وقد تقدم تركيا شكاوى ضد الهند في المنظمات الإقليمية والدولية، مثل الأمم المتحدة، أو منظمة التعاون الإسلامي، أو من خلال إثارة قضية كشمير لتعود إلى الواجهة مرة أخرى، ويعزز حدوث هذا السيناريو موقف تركيا الثابت والواضح من قضية كشمير، ودعمها للسردية الباكستانية كما حدث خلال الحرب الهندية الباكستانية عام ١٩٧١، حين قدمت تركيا دعمًا دبلوماسيًّا واسعًا لباكستان ضد الهند، وتكرر الدعم التركي في عام ٢٠١٩ حين عارض أردوغان قرار الهند بإلغاء المادة رقم ٣٧٠، الخاصة بكشمير.
السيناريو الثاني: الدعم الاقتصادي (محتمل): قد تساعد تركيا باكستان اقتصاديًّا من خلال تقديم شكل من أشكال الدعم المالي، ولكن هذا الدعم سيكون محدودًا جدًّا؛ نظرًا إلى الأزمات الاقتصادية التي تشهدها تركيا، والتي تتزامن مع الاضطرابات الداخلية للنظام الحاكم، ما يحد من قدرة أنقرة على دعم اقتصادي طويل الأجل لباكستان خاصة أن عبء ديون باكستان يتجاوز حاليًا 21.6 تريليون دولار، وهو دين يصعب على تركيا المشاركة في سداده.
السيناريو الثالث: التدخل العسكري المباشر (ضعيف): يمكن لتركيا تزويد باكستان بالأسلحة، والطائرات المسيرة، والسفن الحربية، والمعلومات الاستخباراتية، حيث تتميز تكنولوجيا الطائرات المسيرة التركية بتطورها الكبير في الآونة الأخيرة. في هذه الحالة، يمكن لتركيا مساعدة باكستان بتوفير طائرات مسيرة للمراقبة أو الهجوم على الهند، ويدعم هذا السيناريو الخلفية التاريخية للتعاون العسكري بين تركيا وباكستان، غير أن هذا السيناريو يقابله عدد من المعوقات، أهمها ما يرتبط بقوة الهند العسكرية، خاصةً القوة البحرية التي تتفوق على قدرات تركيا وباكستان البحرية، فضلًا عن هذا، فإن عضوية تركيا في حلف الناتو تقوّض انخراطها المباشر في حرب ضد الهند، فقد تواجه معارضة من الناتو والدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. إضافةً إلى ذلك، فإن الجيش التركي غير قادر على خوض حرب ضد الهند عبر باكستان؛ لأن ذلك سيكون صعبًا ومكلفًا من الناحية اللوجستية؛ ما يجعل أنقرة تفضل سيناريو الدعم العسكري الخلفي لباكستان بدلًا من التورط في قتال مباشر.
محصلة القول أن تركيا تستطيع مساعدة باكستان على إطالة أمد الحرب، لكنها لا تستطيع هزيمة الهند عسكريًّا؛ لأن نيودلهي تستطيع الرد بقوة على الانخراط العسكري التركي في باكستان، فرغم القدرات النوعية للأسلحة التركية، خاصةً الطائرات المسيرة، وأنظمة الصواريخ المضادة للسفن مثل “روكيتسان”، فضلًا عن السفن الحربية وحاملات الطائرات المسيرة على غرار السفينة الحربية التركية “أنادولو” وفرقاطات وطرادات من فئة “ميلجم”، القادرة على مهاجمة القواعد البحرية الهندية، فإن الجيش الهندي يمتلك أنظمة دفاع جوي، مثل “إس-400″، و”أكاش”، وصواريخ “إم آر- سام أرض- جو”، وقنابل “سبايس-2000″، قادرة على إسقاط القنابل الذكية والصواريخ الموجهة التركية، إلى جانب امتلاك نيودلهي أكثر من 150 سفينة حربية وغواصة قادرة على هزيمة السفن التركية، مثل سفن “فيكرانت” و”فيكراماديتيا”؛ ومن ثم فإن مشاركة تركيا -مهما كانت محدودة- في الصراع القائم بين الهند وباكستان من شأنها تعقيد المشهد الجيوسياسي الحالي، وإضافة لاعب خارجي آخر إلى بؤرة التوتر المثارة في جنوب آسيا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.