شكلت سيطرة حركة طالبان على كابُل في أغسطس (آب) 2021 اختبارًا معقدًا أمام قدرة الحركات الإسلامية المسلحة على التحول من العمل المسلح إلى إدارة الدولة، حيث مثلت عودتها لحظة فارقة في التاريخ السياسي المعاصر لأفغانستان، فرغم نجاح الحركة في تثبيت سيطرتها الميدانية داخل أفغانستان، فإن مسألة الشرعية -داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا- ظلت المعضلة الأعمق في حكمها. هذه الشرعية واجهت تحديات بنيوية متجذرة في طبيعة الحركة الأيديولوجية والتنظيمية، انعكست على سياستها الخارجية التي سعت إلى تحقيق القبول عن طريق البراغماتية والتوازنات الإقليمية، وهو ما يثير علامات استفهام عدة عن طبيعة السياسة الخارجية التي ستتبناها الحركة بعد عقدين من الصراع المسلح، فبينما جسدت طالبان في التسعينيات نموذجًا لحركة أيديولوجية مغلقة، عادت في 2021 إلى المشهد الدولي وهي أكثر إدراكًا لتعقيدات البيئة الإقليمية والدولية، وكيف توفق الحركة بين خطابها الأيديولوجي الصارم ومتطلبات السياسة الخارجية البراغماتية؟ وهل تستطيع أن تقنع دول الجوار الإقليمي بأنها شريك موثوق به رغم سجلها المتدهور في قضايا حقوق الإنسان والإرهاب؟ وما حدود قدرتها على كسر جدار العزلة الغربية في ظل العقوبات وتجميد الأصول؟ ويبقى التساؤل الأهم مطروحًا: هل ستنجح طالبان في ترسيخ نموذج حكم إسلامي مستدام يمكن تصديره، أم أن تجربتها ستظل مؤقتة وعرضة للانهيار أو التحول تحت ضغط الداخل والخارج معًا؟
كشفت السنوات الأربع الماضية عن ملامح السياسة الخارجية الأفغانية تحت حكم طالبان، التي تميزت بمحاولة المزاوجة بين العقيدة الدينية والبراغماتية السياسية، في ظل ظروف داخلية صعبة، وعزلة دولية واسعة، تتضح ملامحها فيما يلي:
1-مبدأ السيادة ورفض التدخل الخارجي: أحد أبرز المبادئ التي ركزت عليها طالبان هو التشديد على استقلال القرار السياسي، ورفض التدخلات الأجنبية، كرد فعل تاريخي على تجربتي الاحتلال السوفيتي والأمريكي، فقد أعادت الحركة تأكيد أن أفغانستان لن تكون ساحة نفوذ لأي قوة أجنبية، سواء بالقواعد العسكرية، أو بالتحالفات الأمنية. هذا المبدأ انعكس في خطابها الموجه إلى واشنطن والغرب، كما برز في تحفظها على أي وجود عسكري إقليمي، لكن التطبيق العملي لهذا المبدأ واجه معضلة؛ إذ اضطرت طالبان إلى قبول شراكات اقتصادية وأمنية مع الصين وروسيا وإيران، بما يعكس التناقض بين الرغبة في السيادة الكاملة والحاجة إلى دعم خارجي للبقاء.
2-مبدأ الشرعية الدينية بديلًا عن الاعتراف الدولي: اعتمدت طالبان على مرجعية الشريعة الإسلامية أساسًا للشرعية السياسية، معتبرة أن هذا الأساس يغنيها عن الشرعية الدولية التي تمنحها الاعتراف الرسمي، فقدمت نفسها للعالم على أنها “إمارة إسلامية” تستمد شرعيتها من الدين لا من النظام الدولي، غير أن هذا المبدأ قوبل بعزلة دبلوماسية، إذ رفضت معظم دول العالم الاعتراف الرسمي بطالبان، باستثناء خطوات محدودة، مثل استقبال سفراء الحركة في الصين وروسيا.
3-البراغماتية الاقتصادية: على الرغم من خطابها الأيديولوجي، أبدت طالبان واقعية عالية في السياسة الاقتصادية الخارجية، فقد سعت إلى جذب الاستثمارات الصينية في مجال التعدين والطاقة، ووقعت اتفاقات مع روسيا لتشغيل عمالة أفغانية، وتصدير سلع حيوية، كما فتحت قنوات اقتصادية مع الهند عن طريق ميناء تشابهار الإيراني. عكست هذه البراغماتية إدراك طالبان لحاجتها الماسة إلى موارد مالية، في ظل العقوبات الدولية وتجميد الأصول، وبذلك أصبح البعد الاقتصادي إحدى أدواتها الرئيسة لاختراق العزلة السياسية، دون التنازل عن ثوابتها الأيديولوجية المعلنة.
4-سياسة الحياد الإقليمي المشروط: أصرت طالبان على أنها لن تسمح باستخدام الأراضي الأفغانية لتهديد جيرانها، محاولةً بذلك طمأنة دول مثل الصين وروسيا وإيران، وفي الوقت نفسه، تبنت خطابًا أقرب إلى الحياد في الصراعات الإقليمية، فلم تنخرط في محاور واضحة، بل سعت إلى إقامة توازنات بين خصوم تقليديين، مثل إيران والسعودية، أو الهند وباكستان، غير أن هذا المبدأ تعرض لاختبار صعب مع تصاعد الخلافات مع باكستان بسبب نشاط حركة “تحريك طالبان باكستان“، ما أدى إلى تبادل ضربات عسكرية حدودية بين أفغانستان وباكستان. هذه التطورات كشفت حدود قدرة طالبان على الحفاظ على حيادها في بيئة إقليمية معقدة.
5-أولوية الانفتاح على القوى الآسيوية الكبرى: أظهرت السياسة الخارجية الأفغانية توجهًا واضحًا نحو الشرق، إذ منحت طالبان الأولوية لبناء علاقات مع الصين وروسيا وإيران على حساب الغرب، ارتباطًا برفض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الاعتراف بحكم طالبان بسبب سجل حقوق الإنسان في مقابل توافق المصالح مع بكين وموسكو في مواجهة النفوذ الغربي. هذا التوجه شرع لطالبان مبدأ التحالفات البراغماتية التي لا تقوم على أساس أيديولوجي بقدر ما تستند إلى المصالح الاقتصادية والأمنية.
6-الموازنة بين الأيديولوجيا ومتطلبات الدولة: من المبادئ غير المعلنة في السياسة الخارجية لطالبان محاولتها التوفيق بين عقيدتها الجهادية ومتطلبات الدولة القُطرية، فهي من ناحية تحافظ على خطاب إسلامي صارم يعزز مكانتها بين قواعدها الداخلية، ومن ناحية أخرى تنفتح على أنظمة علمانية أو غير إسلامية مثل روسيا والصين، وهذه الازدواجية منحتها هامش مناورة سياسيًّا، لكنها في المقابل فقدت المصداقية أمام جزء من أنصارها الجهاديين الذين يتهمونها بالانحراف عن مسار الجهاد العالمي.
7-استغلال البعد الإنساني: اعتمدت طالبان على توظيف الكوارث الطبيعية والأزمات الإنسانية مدخلًا لتوسيع قنواتها الدبلوماسية مع المجتمع الدولي، فعلى سبيل المثال، سمحت كابل للمنظمات الدولية بالعمل في الاستجابة للزلازل المتكررة على مدار الشهور الماضية. هذا المبدأ لم ينجح في كسر العزلة السياسية، لكنه وفر لطالبان موارد إغاثية محدودة، وخفف نسبيًّا حدة الضغوط الإنسانية الداخلية.
أعادت عودة طالبان إلى الحكم تشكيل معادلات السياسة الإقليمية لأفغانستان، إذ وجدت القوى الكبرى والدول الإقليمية نفسها أمام سلطة أمر واقع. تختلف عن طالبان التسعينيات في بعض جوانبها، لكنها تحمل التحديات نفسها، وخلال الحكم الحالي لحركة طالبان طورت شبكة علاقات خارجية اتسمت بالبراغماتية، محاولة الاستفادة من توازنات القوى الإقليمية والدولية لكسر العزلة السياسية والاقتصادية، حيث سعت إلى بناء علاقة متينة مع موسكو، مستفيدة من رغبة روسيا في ملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأمريكي، واعتمدت العلاقة على التعاون الأمني والاستخباراتي لمواجهة تنظيم “داعش- خراسان”، بجانب الانفتاح الاقتصادي عبر تجارة النفط والقمح، وسمحت روسيا لطالبان بفتح مكتب دبلوماسي في موسكو عام 2022، ثم عززت التعاون معها بعد اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية عام 2022، في إطار سعيها إلى توسيع شبكة شركائها غير الغربيين. وفي أبريل (نيسان) الماضي أزالت موسكو طالبان من قائمة الإرهاب، واعترفت بسفيرها في يوليو (تموز) من العام نفسه، ووسعت التعاون الاقتصادي من خلال مشروعات تشغيل عمال أفغان، واستيراد السلع الأساسية، ليمثل هذا التطور اختراقًا كبيرًا للعزلة الدولية المفروضة على طالبان.
مثلت الصين الشريك الأكثر أهمية لطالبان، إذ تبنت بكين نهجًا براغماتيًّا قائمًا على المصالح الاقتصادية والأمنية، وانصب اهتمامها على استقرار الحدود مع إقليم شينجيانغ، ومنع نشاط الجماعات الإيغورية المسلحة، مقابل الاستثمار في قطاع التعدين الأفغاني، خاصةً النحاس والليثيوم. وفي عام 2023، وقعت شركات صينية عقودًا طويلة الأمد لاستخراج النفط والمعادن، وربط أفغانستان بمبادرة الحزام والطريق. وفي عام 2024 اعترفت الصين بسفير طالبان كخطوة رمزية باتجاه الاعتراف الرسمي، وبذلك أصبحت بكين أقرب داعم دولي لحكم طالبان ضمن حسابات دقيقة مرتبطة باستقرار الأوضاع الأمنية.
أما علاقات طالبان مع إيران فتأرجحت بين التعاون والتوتر، حيث تعاون الطرفان اقتصاديًّا من خلال التجارة والطاقة، واعتمدت أفغانستان على تشابهار كمنفذ رئيس، كما تعاونت طهران مع طالبان في قضايا اللاجئين، غير أن التوتر ظل قائمًا بسبب ملف الأقليات الشيعية (الهزارة) ونزاعات المياه على نهر هلمند، التي أدت إلى مواجهات مسلحة متكررة بين الطرفين، ومع ذلك، بقيت العلاقة قائمة على إدارة الأزمات بدلًا من القطيعة؛ نظرًا إلى حاجتهما المتبادلة، التي كشفت ملامحها زيارة وزير الخارجية الإيراني لكابل في بداية العام.
ولعل لقطر دورًا محوريًا في علاقة طالبان بالعالم، بوصفها الوسيط الأساسي بين الحركة والمجتمع الدولي، فمنذ استضافة مكتب طالبان السياسي في الدوحة، احتفظت قطر بدور الوساطة في الملفات الإنسانية والتعليمية والاتصالات الدبلوماسية، وكانت الدوحة قناة الاتصال غير الرسمية بين طالبان وواشنطن، كما ساعدت على تسهيل المفاوضات مع منظمات دولية بشأن المساعدات الإنسانية؛ ومن ثم مثلت قطر نافذة طالبان إلى الغرب، واحتفظت بشرعية استثنائية في التعامل مع الحركة.
وفي المقابل، اختلفت علاقة طالبان بالإمارات عن قطر، إذ اتسمت بالطابع الاقتصادي والإنساني أكثر من السياسي، حيث قدمت أبو ظبي مساعدات إنسانية بعد زلزال عامي 2022 و2023، كما استثمرت في بعض مشروعات البنية التحتية، لكنها لم تمنح طالبان أي اعتراف رسمي أو دور سياسي، مفضلة التعامل معها ضمن حدود إنسانية وتجارية، كما احتفظت الإمارات أيضًا بعلاقات مع المعارضة الأفغانية؛ ما جعل موقفها براغماتيًّا ومحسوبًا.
وسعت تركيا إلى أداء دور موازٍ لقطر من خلال استثمار نفوذها السياسي والاقتصادي، حيث اهتمت بإدارة مطار كابل الدولي ضمن شراكة مع قطر، كما فتحت قنوات مع طالبان لتوسيع استثمارات تركية في البنية التحتية، لكن تركيا واجهت قيودًا بسبب انتقادات الغرب، وحاجتها إلى عدم الصدام مع واشنطن، ما يعني أن العلاقة بين أنقرة وكابل تجسد شراكة حذرة، تمزج بين الطموح التركي والبراغماتية الأفغانية.
أما نيودلهي فتعتبر طالبان تاريخيًّا امتدادًا للنفوذ الباكستاني، لكن بعد سيطرة الحركة على كابل، اضطرت الهند إلى إعادة تقييم سياستها، وسمحت ببعثة دبلوماسية محدودة في كابل 2022، وركزت على المساعدات الإنسانية والاستثمار في مشروعات تنموية عبر ميناء تشابهار الإيراني لتقليل اعتمادها على باكستان، وظلت العلاقة محكومة بالحذر والحد الأدنى من التعاون، دون انتقال إلى مستوى شراكة سياسية أو اقتصادية وثيقة. ورغم رفض الهند الاعتراف بحكم طالبان، أجرت في دبي محادثات رفيعة المستوى مع الحركة في يناير (كانون الثاني) المنصرم لمناقشة التعاون على مشروعات البنية التحتية في ميناء تشابهار الإيراني.
وعلى النقيض من الهند، تُعد العلاقة مع باكستان الأكثر تعقيدًا، فرغم دعم إسلام آباد التاريخي لطالبان، سرعان ما ظهرت خلافات عميقة بعد 2021 بسبب نشاط “تحريك طالبان باكستان” داخل الأراضي الباكستانية، حيث شهدت الحدود مواجهات عسكرية متكررة خلال الأعوام الأربع الماضية، وتبادل اتهامات بين الطرفين بدعم الفوضى، ومع ذلك، استمرت الروابط التجارية والدينية والقبلية؛ ما جعل العلاقة تمثل شراكة متوترة تحمل في طياتها احتمالات صدام أوسع.
واعتمدت طالبان سياسة تهدئة تجاه دول آسيا الوسطى، خاصة (أوزبكستان، تركمانستان، طاجيكستان) عبر ضمان أمن الحدود، وتسهيل مشروعات الطاقة والنقل على غرار مشروع “TAPI”، وهو خط الغاز الذي يربط بين تركمانستان وأفغانستان وباكستان والهند، ولكن بقيت هذه الدول حذرة، لا سيما طاجيكستان التي تستضيف دائمًا معارضين أفغانيين، ما أضعف ثقتها بطالبان؛ ما يشير إلى أن علاقات طالبان بآسيا الوسطى اتسمت بالوظيفية من خلال تعاون اقتصادي وأمني دون انفتاح سياسي كامل.
شكلت عودة طالبان إلى الحكم محطة فارقة في المشهد السياسي والأمني الإقليمي، فبينما واجهت الحركة عزلة دولية واسعة، ورفضًا شبه جماعي للاعتراف الرسمي بحكمها، فإن مسألة الشرعية الإقليمية اكتسبت أهمية خاصة، إذ مثلت المجال الأكثر واقعية أمام طالبان لكسر العزلة الدولية وبناء شبكة من العلاقات التي تتيح لها الاستمرار كسلطة أمر واقع، والتعامل معها على أساس مصالح أمنية واقتصادية، حتى في ظل غياب الاعتراف الدبلوماسي الرسمي، ويمكن الوقوف على أبرز محددات هذا فيما يلي:
1-الشرعية الميدانية: تجلت أول مؤشرات الشرعية الإقليمية لحكم طالبان في سيطرتها الكاملة على الأراضي الأفغانية بعد انسحاب الولايات المتحدة، فهذا الواقع الميداني فرض نفسه على دول الجوار (باكستان، وإيران، الصين، وروسيا، ودول آسيا الوسطى)، حيث لم يعد ثمة بديل سياسي واضح يمكن التعامل معه، فالقبول الواقعي بسلطة طالبان على الأرض منحها حدًا أدنى من الشرعية العملية، رغم غياب الاعتراف القانوني والرسمي بها.
2-الشرعية الأمنية: تمثل أفغانستان مصدر تهديد أمني لدول الإقليم منذ عقود، سواء من خلال الإرهاب العابر للحدود، أو تجارة المخدرات، أو موجات اللاجئين؛ لذا ارتبطت شرعية طالبان بقدرتها على إدارة هذه التهديدات، فقد حاولت الحركة طمأنة جيرانها بعدم السماح باستخدام الأراضي الأفغانية لشن هجمات خارجية، كما أقامت آليات تعاون أمني محدود مع الصين وروسيا وإيران، ومع ذلك، واجهت كابل تحديات متزايدة مع إسلام آباد بسبب نشاط حركة “تحريك طالبان باكستان” المتزايد بعد سيطرة طالبان على أفغانستان، ما أضعف مؤشر الشرعية الأمنية. بهذا المعنى، كانت الشرعية الإقليمية لطالبان متقدمة في العلاقة مع بعض القوى (الصين وروسيا)، ومتراجعة مع أخرى (باكستان).
3-الشرعية الاقتصادية: شكل الاقتصاد أحد أبرز منافذ طالبان نحو الشرعية الإقليمية، فقد سعت إلى توقيع اتفاقيات مع الصين في مجال التعدين والطاقة، كما استفادت من المبادلات التجارية مع إيران، وانفتحت على مشروعات نقل مع دول آسيا الوسطى. هذه الشراكات لم تعنِ اعترافًا دبلوماسيًّا كاملًا، لكنها أسست لشرعية عملية قائمة على المصلحة المتبادلة، وبذلك أصبحت المصالح الاقتصادية أداة رئيسة لطالبان في اختراق العزلة، وبناء شبكة قبول إقليمي نسبي.
4-الشرعية الدينية: اعتمدت طالبان على خطابها الإسلامي في تعزيز مكانتها لدى بعض القوى المجتمعية والدينية في المنطقة، لكنها لم تحقق الشرعية الأيديولوجية على مستوى الدول، فمعظم الحكومات الإقليمية -ومنها الإسلامية- نظرت إلى نموذج “الإمارة الإسلامية” بحذر؛ خوفًا من تأثيره في أوضاعها الداخلية. ومع ذلك، وفر هذا البعد لطالبان تأييدًا معنويًّا من جماعات دينية واجتماعية في باكستان وإيران وآسيا الوسطى؛ ما منحها شرعية شعبية عابرة للحدود، وإن كانت محدودة وغير مؤسسية.
5-الشرعية عبر التوازنات الإقليمية: أدارت طالبان علاقاتها مع القوى الإقليمية بمبدأ الحياد المشروط، محاولة تجنب الانخراط في المحاور والصراعات الكبرى (إيران- السعودية، والهند- باكستان، وروسيا- الغرب). هذا التوازن أكسبها شرعية نسبية، إذ استطاعت التعامل مع قوى متنافسة في آن واحد، غير أن التوترات المتزايدة مع باكستان كشفت أن هذا النهج يواجه تحديات صعبة، وأن الشرعية الإقليمية لطالبان مرهونة بمدى قدرتها على إدارة التوازنات، لا مجرد إعلان الحياد.
على مدار الأعوام الأربعة الماضية، واجهت طالبان معضلة الشرعية كأحد أخطر التحديات البنيوية في تجربتها، فقد افتقرت إلى شرعية داخلية تمثيلية، وعجزت عن الحصول على شرعية دولية قانونية، في حين اقتصرت شرعيتها الإقليمية على مستوى وظيفي محدود، أما سياساتها الخارجية، فقد عكست براغماتية واضحة مكنتها من الصمود نسبيًّا، لكنها لم ترتقِ إلى مستوى بناء شبكة تحالفات أو اعتراف مستدام، وهذا يعود إلى مجموعة من التحديات ترتبط بما يلي:
1-أزمة الشرعية الداخلية بوصفها عائقًا لبناء شرعية خارجية: من أبرز التحديات البنيوية لطالبان غياب شرعية سياسية داخلية قائمة على المشاركة أو التوافق الوطني، فقد اعتمدت الحركة على شرعية دينية بوصفها “إمارة إسلامية”، مع إقصاء المكونات العرقية والسياسية الأخرى من الحكم، خاصة الطاجيك والهزارة، وانعكس هذا خارجيًّا، حيث استخدمته الدول الإقليمية والدولية مبررًا لعدم الاعتراف الرسمي بها.
2-الانقسام بين الأيديولوجيا ومتطلبات الدولة: تعاني طالبان تناقضًا جوهريًّا بين خطابها الأيديولوجي الإسلامي الصارم ومتطلبات الدولة الحديثة القائمة على قواعد دبلوماسية واقتصادية. هذا التناقض جعل سياساتها الخارجية تقوم على معادلة مركبة: خطاب ديني موجه إلى قاعدتها الداخلية، وسياسات براغماتية موجهة إلى العالم الخارجي، غير أن هذا التوازن الهش أضعف مصداقيتها، فبينما اعتبرها جزء من أنصارها متحالفة مع أعداء الإسلام، نظرت القوى الدولية إليها على أنها حركة مسلحة غير شرعية، وغير قادرة على حكم البلاد.
3-غياب الاعتراف الدولي بوصفه مؤشرًا على أزمة الشرعية: لم تحصل طالبان على اعتراف رسمي كامل من أي دولة، باستثناء الخطوة الصينية الرمزية بقبول سفيرها، وهذا الغياب يعكس التحديات البنيوية التي تحول دون الاعتراف، على شاكلة سجلها الحقوقي، وموقفها من تعليم النساء، فضلًا عن ارتباطها بجماعات متطرفة أخرى، وبذلك بقيت طالبان في موقع “سلطة أمر واقع” لا تتمتع بشرعية قانونية؛ وهو ما قيد قدرتها على الاندماج في النظام الدولي.
4-الشرعية الإقليمية المحدودة: رغم نجاح طالبان في فتح قنوات مع روسيا، والصين، وإيران، وباكستان، ودول آسيا الوسطى، فإن هذه الشرعية بقيت وظيفية أكثر منها سياسية، حيث تعاونت الدول مع طالبان في مجالات الاقتصاد والأمن، لكنها تجنبت الاعتراف الرسمي بها. هذا القبول المشروط عكس إدراك القوى الإقليمية أن شرعية طالبان غير مستقرة، وأن أي اعتراف رسمي قد ينعكس سلبًا على أمنها الداخلي، أو علاقاتها مع الغرب.
5-تحديات الشرعية الاقتصادية: تعاني طالبان اقتصادًا منهكًا يعتمد على المساعدات الخارجية والتجارة غير المشروعة؛ ومن ثم فإن عدم قدرتها على توفير بنية اقتصادية مستقرة أضعف شرعيتها أمام المجتمع الدولي، وأجبرها على تبني سياسة خارجية براغماتية هدفها جذب الاستثمارات، خاصةً من الصين وروسيا، لكن هذه السياسة واجهت تحديات بسبب العقوبات الغربية، وتجميد الأصول الأفغانية؛ ما قوض قدرة طالبان على استخدام الاقتصاد كمدخل للشرعية.
6-التحديات الأمنية العابرة للحدود: مثل وجود جماعات مثل “داعش- خراسان” داخل أفغانستان تحديًا جوهريًّا لطالبان، إذ أضعف صورتها كقوة ضابطة للأمن، وأثار مخاوف دول الجوار، كما أدى نشاط “تحريك طالبان باكستان” إلى توتر العلاقات مع إسلام آباد. هذه التهديدات قلّلت شرعية طالبان الإقليمية، حيث اعتبرتها بعض الدول عاملًا لزعزعة الاستقرار الإقليمي، بدلًا من أن تكون شريكًا أمنيًّا موثوقًا به.
تكشف تجربة حكم طالبان لأفغانستان منذ عام 2021 حتى الآن عن معادلة صعبة لبناء “دولة أيديولوجية” ضمن نظام دولي علماني قائم على قواعد اعتراف وشرعية محددة؛ فمبادئ طالبان، وإن عكست حرصًا على السيادة والاستقلالية، بقيت محدودة الفاعلية أمام الضغوط الدولية، والعقوبات الاقتصادية، وملف حقوق الإنسان. فضلًا عن هذا، تُظهر تجربة طالبان أن الشرعية الإقليمية ليست مجرد اعتراف رسمي؛ بل عملية مركبة تتداخل فيها عوامل القوة الميدانية، والمصالح الاقتصادية، والقدرة على إدارة التهديدات، فبينما نجحت طالبان نسبيًّا في اختراق العزلة عن طريق شراكات إقليمية، لم تتمكن من تأسيس سياسة خارجية متوازنة ومستدامة تضمن لها مكانة راسخة في النظام الدولي؛ ما يعني أن الانتقال من شرعية الأمر الواقع إلى شرعية قانونية ودبلوماسية سيظل رهينًا بتغيير جذري في سلوكها الداخلي والخارجي على حدٍ سواء.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.