توطئة
إن فهم العلاقات الروسية المغربية يقتضي وضعها في سياقها التاريخي، شأنها في ذلك شأن كل حدث، وكل فعل، وكل موقف؛ وذلك أن أحداث التاريخ تتكرر فصولًا، وتعاد جذعًا، ولقد حاولت البحث عن الكتب التي أنشأها مؤلفوها في تاريخ العلاقات المغربية الروسية، غير أنني وجدت عائقين وقفا أمامي، وقطعا طريقي وقعدا بي دون أن أقضي وطري، فأما العائق الأول فهو ندرة الكتابات في هذا الأمر، وأما الثاني فهو أن تلك الندرة يصعب الحصول عليها، فرأيت أن أقتفي أثر تلك العلاقة المغربية الروسية عن طريق ما كثرت روايته في الصحف والمجلات، والنظر في الذي استفاض من الروايات والأحداث، واشتهر بين عامة الناس وخاصتهم عن هذه العلاقة.
كان أول اتصال بين الإمبراطورية الشريفة والإمبراطورية الروسية سنة 1777 للميلاد، وكان هذا الاتصال عن طريق ممثل روسيا في إيطاليا، الذي اضطلع بدور الوسيط بين الإمبراطورتين، وهي السنة نفسها التي اعترف فيها السلطان العلوي محمد بن عبد الله باستقلال أمريكا، ليرسل بعد اعترافه باستقلال أمريكا رسالة إلى الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية؛ من أجل إقامة العلاقات، وتنظيم التبادل التجاري بين البلدين، كما عبر لها عن رغبة المغرب في إقامة علاقات سلام وصداقة.
ولسنوات طويلة، بقيت العلاقات الروسية- المغربية تتم من خلال شخصيات معتمدة من دول أوروبا الغربية؛ وذلك لأن الاتصالات عبر البحر الأبيض المتوسط لم تكن ممكنة بسبب الصراع التقليدي بين روسيا وتركيا؛ ففي البدء كان وزير بلجيكا المفوض يرعى المصالح الروسية في المغرب، وبعد ذلك (في مارس/ آذار 1882)، أنيطت المهمة بممثل إسبانيا الدبلوماسي. وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 1897، تمت الموافقة على تأسيس قنصلية في المغرب، وتعيين قنصل عام بدرجة وزير مفوض.
واستمرت العلاقات الودية بين الإمبراطوريتين، وعبّر كل طرف للآخر عن مودته بطريقته وأسلوبه، خاصة في فترة ضعف المغرب أواخر القرن التاسع عشر، وتكالب القوى الاستعمارية عليه، وتهافتها على تقسيمه، وذلك من خلال الاستقبال الكبير الذي حظي به أول قنصل روسي “فاسيلي باخيراخت” في مراكش، والذي أصر على السفر من طنجة إلى مراكش رغم الظروف الداخلية المتأزمة ساعتها، وقد حرصت روسيا على بقاء المغرب مستقلًا، ودعمت هذا التوجه.
ثم كان ما كان، ودخل الوهن على الدولة الروسية، واعتراها ما اعتراها من ضعف، وذهاب القوة، وفقدان النفوذ، بعد حربها مع اليابان (1904- 1905)، وجاء مؤتمر الجزيرة الخضراء (1905) لتقسيم إفريقيا، ومن بينها المغرب، ولم يكن لروسيا أي تأثير باعتبار ما خلفته حربها مع اليابان، وقُسّم المغرب، وكان لفرنسا وإسبانيا النصيب الأوفر.
دخل المغرب تحت الاستعمار الفرنسي والإسباني سنة 1912، لتبدأ أواصر الارتباط تتقطع، حيث أصبحت العلاقة الدبلوماسية بين البلدين تسهر عليها وتسيرها فرنسا وإسبانيا، ثم حدث ما حدث من الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية، والحرب العالمية الثانية، وغابت العلاقات بين البلدين في لجج النسيان.
توالت الأيام، وانتهت الحرب العالمية الثانية، وحصل المغرب على استقلاله، وغرق العالم في مستنقعات الحرب الباردة، وربط المغرب بالاتحاد السوفيتي علاقات حذرة، كانت خاضعة لتدخل طرف ثالث، وزاد حذرها ميول السوفيت نحو تصدير الثورات، وتوجههم نحو إسقاط الملكيات، وإقامة الجمهوريات، وبقيت الزيارات على أعلى المستويات قليلة، وعلى استحياء، وزاد ذلك الحذر الذي غلب على العلاقات المغربية السوفيتية، موقف السوفيت من قضية الصحراء.
سقط الاتحاد السوفيتي، ودخل المغرب عهدًا جديدًا بوصول الملك محمد السادس إلى الحكم، وقام بأول زيارة له إلى موسكو في الفترة ما بين 14 إلى 18 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 2002، لتحتل موقعًا مهمًّا في تاريخ العلاقات الروسية- المغربية؛ إذ خلال مباحثاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تم التوقيع على بيان مشترك بشأن الشراكة الإستراتيجية بين روسيا الاتحادية والمملكة المغربية.
وبعد هذا توالت الزيارات على أعلى مستوى بين البلدين؛ ففي 22 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 2005، قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في أثناء جولته في شمال إفريقيا، بزيارة المغرب، واستقبله الملك محمد السادس، كما التقى برئيس الوزراء، ووزير الخارجية والتعاون.
وفي 7 سبتمبر (أيلول) عام 2006، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة رسمية إلى المغرب (مدينة الدار البيضاء)، أجرى خلالها مباحثات انفرادية، وبمشاركة الوفد المرافق، مع الملك محمد السادس. وفي نهاية المباحثات وُقِّعت مجموعة وثائق للتعاون في مجالات مختلفة.
مَن ينظر في تاريخ العلاقات المغربية الروسية، يجد أمرين مهمين؛ فأما أولهما فهو أنه عبر هذا الزمن الطويل لم يُظهر أي منهما للآخر نوعًا من العدوانية، وحتى في أشد الفترات، حافظ الطرفان على علائق الود. أما الأمر الثاني فيتجلى في وجود طرف ثالث يلغ ولوغه في هذه العلاقة، وهو نفسه السبب في حدوث تلك الفترات الأكثر شدة وتوترًا بين البلدين.
يرى كثير من المحللين والمهتمين والمتكلمين في العلاقات الروسية المغربية، أن نقطة التحول كانت بعد تولية الملك محمد السادس العرش، وزيارته لروسيا سنة 2002.
لكن رغم تلك الزيارة، وما تبعها من زيارات على أعلى مستوى، فإن العلاقات بين البلدين ظلت خاضعة لتأثير الطرف الثالث، يلغ فيها ويضغط؛ ولهذا لم نر أي تطور ملموس في هذه العلاقة، بل كادت تنقطع لولا زيارة الملك محمد السادس لروسيا سنة 2016.
إن نقطة التحول الأساسية في العلاقات بين البلدين، كانت حين تغيب المغرب عن التصويت على القرار الأممي الصدار عن الأمم المتحدة بخصوص الحرب في أوكرانيا.
وهذا الموقف تلقته روسيا بالقبول. وردًا للفعل، عينت روسيا السفير فلاديمير بايباكوف، الذي قدم نسخًا من أوراق اعتماده بصفته (سفيرًا مفوضًا فوق العادة) لفيدرالية روسيا لدى الملك محمد السادس.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.