عندما علمت بنبأ وفاة الدكتور هنري كيسنجر، شعرت بحزن شديد، لكنني لم أشعر بالصدمة. قبل أكثر من 20 ساعة، سمعت أن حالته الصحية أصبحت حرجة.
في 11 أكتوبر (تشرين الأول)، دُعيت إلى زيارة الدكتور كيسنجر، في مكتبه بنيويورك، وكان لا يزال في حالة معنوية جيدة، وسريع التفكير، وكان حيويًّا جدًّا في المحادثة. بالإضافة إلى العلاقات الصينية الأمريكية، كان الموضوع الذي يشغله أكثر من غيره هو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الأخير، واستعرض بالتفصيل نصائحه السياسية، ومشاركته الشخصية في عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، عندما كان أرئيل شارون رئيسًا لوزراء إسرائيل.
ومع ذلك، كان ساعد كيسنجر الأيسر مغطى بالضمادات في أثناء حديثنا، وأخبرني مساعده أنه سقط مرتين في الأيام القليلة الماضية، وتعرضت ذراعه وظهره للإصابة؛ مما جعله غير قادر على الوقوف.
قبل المغادرة، ذكر كيسنجر لي أيضًا حادثة سقوطه مرتين. لقد طمأنته وأخبرته أنني كسرت ساقي أيضًا منذ وقت ليس ببعيد، لكنني تعافيت الآن، وسيكون بخير أيضًا. قال: “عمري 100 عام بالفعل، لكنك لا تزال شابًا”. أجبته: “عندما يكون عمري 100 سنة، وأنت 125 سنة، سآتي لرؤيتك مرة أخرى”. نظر إليَّ، وابتسم بسعادة، لكنني كنت أعلم في قلبي أن سقوط المعمر سيئ جدًّا.
وخلال هذه المحادثة الطويلة، تذكر- باعتزاز- اجتماعه مع الرئيس شي جين بينغ في بكين، يوم 20 يوليو (تموز) من هذا العام، وقال إن الرئيس شي اختار مقابلته في الفيلا رقم 5، في دار ضيافة الدولة دياويوتاي، حيث عقد رئيس مجلس الدولة آنذاك تشو إن لاي اجتماعًا معه قبل 52 عامًا ، عندما زار الأخير الصين للمرة الأولى. لقد تأثر بشدة بمستوى الاستقبال الذي وجده، والذي كان أعلى من مستوى الاستقبال الذي حظي به كبار المسؤولين الحكوميين الأمريكيين الذين زاروا الصين خلال الفترة نفسها.
وذكر كيسنجر أنه والبروفيسور جراهام أليسون من جامعة هارفارد، سينشران قريبًا مقالًا في مجلة فورين أفيرز الأمريكية؛ لتقديم اقتراحات سياسية للقمة الصينية الأمريكية في سان فرانسيسكو في نوفمبر (تشرين الثاني). نُشر هذا المقال في 13 أكتوبر (تشرين الأول) تحت عنوان “الطريق إلى الحد من أسلحة الذكاء الاصطناعي- يجب على أمريكا والصين العمل معًا لتجنب الكارثة”.
وفي السنوات الأخيرة، ركز على دراسة الذكاء الاصطناعي، وتطبيقه في مجال الأمن القومي، ونشر دراسات وكتابًا بشأنه. وخلال المحادثة، اقترح كيسنجر أن تجري الحكومتان الصينية والأمريكية والمؤسسات الخاصة حوارًا وأبحاثًا تعاونية بشأن قضايا الذكاء الاصطناعي لمنع الأخطار، وكان على استعداد للعمل منسقًا للجانب الأمريكي في الحوارات غير الحكومية. وبعد أكثر من شهر، قررت القمة الصينية الأمريكية في سان فرانسيسكو إنشاء آلية حوار حكومية دولية بشأن الذكاء الاصطناعي، وكان ينبغي لهذا التقدم أن يشمل العمل الجاد الذي قام به الخبراء الأمريكيون، مثل كيسنجر، وأليسون.
وبوصف كيسنجر أحد كبار الإستراتيجيين الدوليين، فإنه لم يكن يكتفي بالجلوس والتحدث حتى عندما كان يتقدم في السن. وبدلًا من ذلك، كان يسافر- بلا كلل- إلى بلدان مختلفة حول العالم، وكان على اتصال واسع النطاق مع أشخاص من جميع مناحي الحياة.
وسواء أكان الأمر يتعلق بالأزمة الأوكرانية أم بالقضية الفلسطينية، فقد أمكن سماع أفكاره ومبادراته، مع أن بعضها كان مثيرًا للجدل، وكانت زيارته الأخيرة للصين، عن عمر يناهز المئة عام، في يوليو (تموز) من العام الحالي، قرارًا شجاعًا ضد الضغوط التي تمارسها بعض الآراء العامة في الولايات المتحدة، وكان ذلك أيضًا تشجيعًا كبيرًا للشعبين في كلا البلدين الذين كانوا يعملون- بجد- لإخراج العلاقات الثنائية من الحضيض.
وفي مجال أبحاث السياسة الدولية، كان اسم الدكتور كيسنجر مرادفًا لعقيدة السياسة الخارجية المسماة “الواقعية”، لكنه تعرض لانتقادات من البعض بسبب “افتقاره إلى المبادئ الأخلاقية”، وانحرافه عن المثالية الأمريكية. وفي رأيي أنه كان مدافعًا قويًّا عن المصالح الوطنية الأمريكية، لكنه لم يضع المصالح الأمريكية في مواجهة المصالح الصينية، ولم ينظر إلى الحضارة الغربية والحضارة الصينية بوصفهما طرفين متعارضين.
يتمتع كلا كتابيه “حول الصين” و”النظام العالمي”، بأساس فلسفي غني، وعمق تاريخي. يتم التعبير عن قيمه الأخلاقية بشكل أكبر في معارضته للجوء إلى القوة، ومنع الحرب. وغني عن القول إن كيسنجر كانت له نكسات وأخطاء في ممارساته السياسية الشخصية، لكن رؤيته العميقة في الشؤون الدولية، وجهوده المتواصلة لتجنب الصراعات الدولية، وخاصة إسهامه التاريخي في تطوير العلاقات الصينية الأمريكية، جعلته يحقق العالمية؛ من خلال الاعتراف بالعملاق المعاصر. وفي أبريل (نيسان) 2022، نشر دراسته الأخيرة بعنوان “القيادة.. ست دراسات في الإستراتيجية العالمية”، التي قدم فيها أطروحة عن الحكم والقادة السياسيين من خلال ستة أفراد مثاليين من القرن العشرين. والآن يستطيع كيسنجر أن يقف معهم جنبًا إلى جنب.
كان تعليم كيسنجر عميقًا. إن حبه لأعضاء هيئة التدريس والطلاب في جامعة بكين يستحق أن نتذكره. وفي عام 2006، ذهب إلى جامعة بكين للحصول على الدكتوراة الفخرية، وألقى كلمة. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، عن عمر ناهز 96 عامًا، ذهب إلى جامعة بكين للمرة الأخيرة؛ لإجراء مناقشة مع الأساتذة والطلاب، وحضر مأدبة أقامها رئيس الجامعة. وخلال اللقاء في المأدبة، كان هناك ضحك وتصفيق متواصل، وكان هناك كثير من اللحظات المثيرة. كانت عيناه اللامعتان، وسلوكه الساحر في أثناء إجابته عن أسئلة الطلاب المرتجلة، هي أكثر اللحظات التي لامست روحي خلال تفاعلاتي الكثيرة معه. وعلى الرغم من وفاته، فإن الإنجازات الأكاديمية، والإرث الروحي الذي تركه، يكفيان لأجيال كثيرة منا- نحن العلماء- لمواصلة الدراسة والتأمل بعمق.
المصدر: صحيفة غلوبال تايمز (Global Times) الصينية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.