مقالات المركز

نظرة تحليلية في مقابلة بوتين وتاكر كارلسون


  • 23 فبراير 2024

شارك الموضوع

منذ قبل بداية الحركات الاستعمارية، ظهر نوع آخر من ميادين الصراع، وهو أكثر الميادين خطورةً، وأشدها فتكًا، وهذا الميدان هو ميدان المناهج، وقد لجأت الدول الغربية في هذا الصراع إلى استخدام كل الأساليب لفرض منهجها، وطريقة تفكيرها، فتجاوزت حدود المناظرة، وإقامة الحجة، وإلزام الخصم، ورمت خلف ظهرها ما تقتضيه الدعوة والبيان من عرض للقواعد، والمناهج، والمعتقدات، فيقبلها الآخر أو ينكرها، تجاوزت كل هذا وغيره، ولجأت إلى الغصب والإكراه، إما بالقوة العسكرية، وإما بالآلة الإعلامية، وإما باختراق المناهج التعليمية، ولو أخذنا في شرح هذا لطال بنا الكلام واسترسلنا في البيان، لكن، كما جاء في المثل: “بالإشارة يفهم اللبيب”.

كثيرًا ما يوصف بوتين بأنه يجيد اللعبة الإستراتيجية، ولكنه على إجادته لها، وإتقانه لأساليبها، لا تعدّه أغلب التقارير الإعلامية والوثائقيات، خاصة الغربية، مفكرًا إستراتيجيًّا، حتى جاءت مقابلته مع كارل كارلسون، ليظهر فيها- على الأقل من وجهة نظري- بمظهر رجل المنهج، وحامل الفكر، وأُف من السياسة والساسة الذين لا يقومون في سياستهم على منهج، ولا ينطلقون في آرائهم من فكر له أسس من معتقدات عَقَدية ولغوية.

اعتبر كثيرون نصف الساعة الأولى من اللقاء مملًا، وأنه مجرد سرد لأحداث وروايات تاريخية مملة، ولا غناء فيها، ولكن هذا هو الفرق بين اللقاء الجاد والمقابلة الاستعراضية، ولهذا مع أول سؤال لتاكر، رد بوتين بسؤال آخر: “هل نحن في مقابلة جادة، أو مقابلة استعراضية؟”؛ فإذا كانت المقابلة جادة فلن تخلو من حمل الثقل تحمله في ثناياها، وتنطوي عليه في محاورها.

ودعني أقرب لك الأمر أكثر، وأضرب لك مثالًا بمقدمات الكتب، فهي على إهمال الناس لها، وإغفالهم إطالة النظر فيها، فإنها المفتاح لفهم ما تحمله تلكم الكتب، وهي التي تتضمن المنهج الذي اعتمده المؤلفون، من كتاب ومفكرين، في كتبهم وتصانيفهم.

 وإذا كان اللقاء جادًّا، ويحمل ما يحمل من ثقل فكري، فلا بد له من مقدمة يبين فيها ويكشف عن المنهج والطريقة التي يرد إليها كل مجمل في اللقاء، ويكشف بها كل خفي في الحوار؛ ولهذا، وبعد ذلك السؤال من بوتين إلى تاكر كارلسون، عن جدية اللقاء من عدمها، أخذ بوتين يتكلم في سرد الأحداث التاريخية، وكيف تكونت الدولة الروسية خلال هذه الأزمنة الطويلة منذ سنة 862 إلى يوم الناس هذا.

فهذا الذي ثقل على الناس في نصف الساعة الأولى من اللقاء، لم يكن سردًا تاريخيًّا مجردًا؛ وإنما هو المنهج والمفتاح، الذي يمكن الناس، ليس فقط من فهم كلام بوتين خلال اللقاء؛ بل فهم توجه الدولة الروسية ومؤسساتها الخفية، وكيفية عملها، والأسس التي تقوم عليها، والمنطلقات التي تنطلق منها وتنتهي إليها، أما ما جاء بعد تلك المقدمة من كلام عن أوكرانيا ودور الغرب في الصراع، والعلاقة مع الصين، فإنه يجب أن يفهم وفق المنهج الذي حدده بوتين في المقدمة.

بدأت الدولة تتشكل سنة 862 بالتاريخ الميلادي، ثم بعد أكثر من مئة عام كان هناك “تاريخ مهم (سنة 988)، وهو عمادة روسيا، حيث تبنى الأمير فلاديمير، ابن حفيد يوريك، الأرثوذكسية، وبدأت روسيا المركزية تتعزز حينذاك، لماذا؟ بسبب الحدود الموحدة، والاقتصاد المشترك، واللغة الموحدة”، فهنا يوضح بوتين المنهج الذي تسير عليه الدولة الروسية، والذي تطلب أكثر من مئة عام ليستوي على سوقه، وهو يقوم على الديانة الأرثوذكسية، واللغة الروسية، والاقتصاد المشترك، وهي أمور ثلاثة يقوم كل واحد منها على الآخر، ولا يمكن الفصل بينها بحال من الأحوال.

وهنا لا بد من العودة إلى أمر مهم يزيد الأمر وضوحًا، وذلك في برنامج “في رواية أخرى”، في الحلقات التي استُضيف فيها أوليغ كالوغين، الذي كان مسؤولًا عن قسم “الكي جي بي” في الولايات المتحدة الأمريكية، ورئيس قسم محاربة التجسس، فقد قال كالوغين وهو يصف الفارق بين مؤسسات الدولة في الحقبة السوفيتية والحقبة الحالية: “في العهد السوفيتي، كان الحزب الشيوعي على رأس المؤسسات في البلاد، تليه أجهزة الأمن، ثم مؤسسة الجيش. أما في روسيا الحالية، في عهد السيد بوتين، فالأمور تغيرت، في المرتبة الأولى يأتي جهاز الكي جي بي؛ لأنه يدير البلاد، ويأتي في المرتبة الثانية الجيش، وهو تحت سيطرة الكي جي بي الكلية، وأخيرًا تأتي الكنيسة الأرثوذكسية الروسية”، فتأمل.

ثم قال بوتين: “حكم الأمير والديانة الواحدة”. وفي برنامج “رأي عام” استضاف الإعلامي عمرو عبد الحميد، الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين، وكان يركز على نقطة مهمة، تتجلى في كون روسيا لا بد لها من أمير/ قيصر/ إمبراطور يحكمها، ويسيّر أمورها، ويضمن لها البقاء بالحفاظ على توازنها. والأساس الذي بنى عليه دوغين هذا الرأي هو التاريخ، حتى حين سأله الإعلامي عمرو عبد الحميد: ماذا بعد بوتين؟ كان الجواب: “فلو أعطينا مجتمعنا الحرية الكاملة في أن يقرر مصيره بنفسه، بدون هذه الشخصية الوطنية، فإنه سيختار شيئًا غير صحيح”، ثم قال: “لكن على الجانب الآخر، من غير المستبعد أن يظهر أحد السياسيين الأفضل من بوتين بكثير، لكننا لا نرى أي بدائل لبوتين عند مقارنته بالماضين، لكن ربما يظهر أحد العسكريين الوطنيين الذين لا علاقة لهم بيلتسن، وبالتسعينيات، وبفترة التفكك، وببيع المصالح الوطنية.. لماذا لا تلد روسيا بوتين سياسيًّا جديدًا؟”، فانظر؛ فهذا هو المنهج الذي تقوم عليه الدولة في روسيا، ويفهم وفقه أسلوب الحكم فيها، وهو الذي دار عليه كلام بوتين في نصف الساعة الأولى من لقائه مع كارلسون، وكل ما جاء بعد ذلك في هذا اللقاء يفهم وفق هذا المنهج.

حتى إن تاكر كارلسون حين استوعب- مع مرور الوقت- هذا المنهج الذي يدور حوله بوتين في حواره خاصة، وسياسة الدول ومؤسساتها عامة، بدأ يلعب على هذا الوتر لإلزام بوتين به، حيث واجهه بما جاء في الإنجيل: “من لطمك على خدك الأيمن، فحوّل له الآخر أيضًا”، وذلك ليقول لبوتين إنكم خالفتم معتقدكم بصفتكم قائدًا مسيحيًّا حين هاجمتم أوكرانيا، فجاءه الرد على النحو التالي: “إنها الروح الروسية”، وبوتين يقصد هنا ما تجذر في النفس الروسية من أمور الثقافة، التي تتأثر بأشياء كثيرة، مثل اللغة، والطبيعة، وغيرهما، فأكمل هنا أركان المنهج الذي يفهم من خلاله كلامه، وقرارات الدولة الروسية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع