في استبصار الحالة السورية براهنيتها القائمة الآن (ما بعد التحرير وسقوط النظام) منطلق استفهامي، يصنع خلفية تحريضية لمنهج البحث في قوانين المرحلة التاريخية التي حكمت البلاد، ووعي السوريين خلال أكثر من نصف قرن.
إحدى الوثائق التأسيسية التي شكلت ملامح المشهد التاريخي طوال تلك الحقبة القائمة على آلية “القمع والفرض” هي استمرارية المجتمع السوري، معتمدًا على مخزونه الذاتي المتراكم عبر تاريخه، حيث كان على هذا المخزون بعناصره القادرة والمتنوعة، تحمل “قمع” النظام البائد له، كما كان عليه مواجهة ما “فرضه” هذا النظام، واستهدفه.
ولما كان المخزون الذاتي للمجتمع يتشكل عبر حركته التاريخية، حيث تتكون الذات من العناصر المميزة للمجتمع في طبيعته وثقافته (عمرانه)، فإن أولى خصائص هذا المخزون هي قدرته على الحضور في اللحظات التاريخية التي تشهد تعسفًا على الذات (الكيان)، حيث يحميها من خلال استحضار خصائصها المميزة لها، التي تشكل الضامن الحقيقي لعدم تغييبها، وفنائها.
ولعل السبب الذي يجعل لهذا المخزون القدرة الدائمة على القيام بدور حاسم لحماية الذات هو تجدده عبر الحركة التاريخية لهذا الكيان نفسه، فما تُسمى “ثورات”، أو “انقلابات”، إن هي إلا المصادر الحيوية التي تجدد مخزون الكيان، وتقوي مميزاته وقدرته على الاستمرار، والنهوض.
من جهة أخرى، إن طبيعة العناصر المشكلة لمخزون الذات تؤثر -تأثيرًا حاسمًا- في تحديد عمر هذا الكيان، وقدرته، وحيويته، فلا يمكن لثورة جزئية في “المفهوم والمجال”، أن تمارس التأثير نفسه، الذي تقوم به “الثورة الشاملة”، التي توفر للذات عناصر وميزات، مؤهلة على الفعل عبر الزمن؛ لأن الثورة الشاملة جديرة بخلق نظام جديد للمجتمع، يتميز بقدرته على تصميم “آليات خاصة” لمواجهة المشكلات التاريخية، التي وقف النظام القديم للمجتمع عاجزًا تجاهها.
وتسمى هذه الميزة في ماهيتها مستوى آخر من الفعل، يتمثل في حيويتها على حماية الذات وصيانتها؛ وذلك لمواجهة أي نظام خارجي مضاد، يستهدف قمع هذا الكيان، وتحديد مستوى وجوده وغايته، وفرض قانون سائد عليه من خارجه.
في مسيرة فعله، واستحضار ميزاته، وصل المخزون الاجتماعي السوري أوائل العشرية الفائتة (٢٠١١) -وهو عام الفعل العربي بامتياز- إلى أقصى دورات طاقته العظمى، لتظهر بذلك قدرة هذا المخزون على التحمل وصيانة كيانه وحمايته، وهو بذلك يسجل تميزًا عن كثير من المجتمعات التي ينضب مخزونها الذاتي في حقبة أقصر عمرًا، وأخف وطأة وظلامية.
من هنا، فإن مقاربة التقدم من خلال حركة “نهضوية” تاريخية مستقبلية تصبح مسألة بالغة الحيوية والأهمية للبقاء والاستمرار، فضلًا عن حيويتها لتحقيق المشاركة الفاعلة، والدور الإنساني المتقدم للمجتمع السوري، وكذلك لأي مجتمع. إنها مسألة مصير للوطن الواحد (سوريا)، والإقليم الحضاري برمته، وبخاصةٍ الوطن العربي بكامله.
ولإغلاق الباب مبكرًا في وجه أي اتهامات أو تشكيك، فإننا نقر ونعترف بأن إشكالية مشروع بنيوي سوري وطني مستقل هي بالغة التركيب والتعقيد، تتداخل فيها شتى العوامل والمتغيرات، لكن هذا الأمر لا يبطل قدرة المجتمع السوري على الاعتماد مجددًا على مخزونه الذاتي التاريخي؛ بهدف استحضار ميزاته الحقيقية، القادرة على فهم الواقع، ومعرفة محركات التغيير فيه، ولديها أيضًا الأهلية على تشغيل هذه المحركات، التي تكفل الانتقال من “دفن” النموذج المتخلف القديم، و”النهوض” لبناء النموذج المتقدم الجديد؛ إذ إن كلًا منهما ( التقدم والتخلف) حالة كلية متفاوتة الارتفاعات في مفرداتها، ولكنها في النهاية حالة شاملة، ولا يتوقع الخروج منها إلا بحالة كلية من النهوض وريادة الفعل، ريادة تعطيها سمات تاريخية حاسمة.
وإذا كانت النهضة في القرن الماضي ينظر إليها في العالم العربي على أنها تتطلب عملية “انقلابية” تقوم بها فئة متفردة، أو حزب واحد، أو سلطان ملهم، أو مجلس (قيادة الثورة)، ينصب نفسه وصيًا على الأمة، فإن تجارب الأمم والشعوب قد أثبتت عكس ذلك تمامًا؛ إذ لا تقوم نهضة إلا بالحوار والتشارك، والالتزام، والاعتراف بالآخر، ولا تتواصل النهضة باطّراد إلا بالديمقراطية، وحسن الحاكمية، والتسليم بأن السلطة والحكم “انتداب محدود الزمن” لصاحبه، ومحدود الأهداف، وليس ملكًا مطلقًا وفضاءً مفتوحًا لا تحده مسؤولية، أو مساءلة، أو خضوع للقانون، أو نهاية معلنة سلفًا، ويعود ذلك إلى أن مفهوم “دولة الشعب”، و”دولة الأمة”، و”دولة المواطنين”، لا يزال مفهومًا هشًّا وحديثًا جدًّا في الأقطار العربية، ولم يتحقق على مدى التاريخ العربي إلا في حدود ضيقة، ولفترات متقطعة وقصيرة، وفي بقاع متفرقة جدًّا.
فالمشروع النهضوي الموعود يقوم -بالضرورة- على العلم والمعرفة، ليس للنخبة فقط؛ وإنما -بالدرجة الأولى- لدى المجتمع ذاته، حيث يتجلى ذلك في تكوين ضمير يرى المستقبل، ويرفض الظلم والاستبداد الصريح والمقنع، ويرفض الاستفراد والفساد، وغياب القانون، كما يرفض استغلال الدين وتسييسه، واستضعاف المرأة وتهميشها، ضمير يمثل فيه المواطن دور الشريك، وليس مجرد فرد من الرعية المقيمة على أرض السلطان، ضمير إصلاحي يدرك يقينًا أن الإصلاح لا يتحقق إلا بالعقليات الإصلاحية، وأن النهوض لا يتأتى إلا من خلال العقول النهضوية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.