تريث المرشحان للانتخابات الأمريكية، الجمهوري دونالد ترمب، والديمقراطية كامالا هاريس، كثيرًا قبل اختيار “نائب الرئيس” الذي سيرافقهما على البطاقة الانتخابية في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وبعد مداولات وحسابات معقدة، وقع اختيار ترمب على عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، جي دي فانس، في حين اختارت كامالا هاريس حاكم ولاية مينسوتا، تيم والز، وخالفت اختيارات ترمب وهاريس كل الحسابات والتقديرات التي سبقت اختيارهما فانس وتيم والز، فكل المعادلات الجمهورية كانت تنطلق من حاجة ترمب إلى نائبة، ويفضل أن تكون ملونة، أو سوداء؛ لجذب ملايين النساء والسود واللاتينيات اللائي تؤكد كل استطلاعات الرأي أن ترمب لن يحظى- في أفضل الأحوال- بسوى أصوات نحو 40% فقط من أصواتهن، والأمر نفسه فيما يتعلق بكامالا هاريس، التي كانت كل الحسابات تقول إنها تحتاج إلى شخصية تساعدها على جذب مزيد من الناخبين في الولايات المتأرجحة، وولايات “حزام الصدأ”، وتحافظ بها على زخم الديمقراطيين في “ولايات الحزام الأزرق”، لكن جاء اختيارها لتيم والز، حاكم ولاية مينسوتا، وهي ولاية محسومة سلفًا للديمقراطيين، وهو ما يطرح مجموعة من الأسئلة عن دور نائب الرئيس في الحياة السياسية الأمريكية، وإلى أي مدى يستطيع كل من تيم والز، وجي دي فانس، مساعدة دونالد ترمب وكامالا هاريس في الوصول إلى البيت الأبيض؟
التدقيق في صلاحيات نائب الرئيس وفرصه في النظام السياسي الأمريكي تكشف أن لنائب الرئيس سلطات ومهام محددة، لكن في أي وقت يمكن أن يحل نائب الرئيس محل الرئيس؛ ولهذا تحيط بمنصب “نائب الرئيس” مجموعة من المحددات، وهي:
أولًا: الانتخاب غير المباشر
عادة ما ينتخب مندوبو الحزب على المستوى الوطني نائب الرئيس بناء على الاختيار السابق له من جانب المرشح لمنصب الرئيس، فالرئيس ترمب هو الذي اختار جي دي فانس، مع أن كل الأضواء في الساعات الأخيرة قبل انعقاد المؤتمر العام للحزب الجمهوري كانت تتجه نحو مارك ربيو، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا. ووفق المادة الثانية، والتعديل 25 من الدستور الأمريكي، فإن “نائب الرئيس” هو الشخص الثاني في النظام السياسي الأمريكي بعد الرئيس مباشرة، وقبل رئيس مجلس النواب. ولنائب الرئيس صلاحيات محددة، منها أنه يترأس مجلس الشيوخ الذي يضم 100 عضو، ويرجح كفة طرف على حساب طرف آخر حال التعادل في التصويت على قضية أو قانون ما داخل المجلس، وهو ما يسمى “بكسر التعادل”، لكن أخطر مهمة لنائب الرئيس هو أنه يترأس مجلس الشيوخ في 6 يناير (كانون الثاني) لاعتماد نتيجة الانتخابات الرئاسية كل 4 سنوات، وهذا الأمر هو الذي أثار الخلاف بين ترمب ونائبه السابق مايك بنس بعد أن وافق بنس على نتائج انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، في حين كانت وجهة نظر ترمب أن الديمقراطيين سرقوا الانتخابات. ويترأس نائب الرئيس اجتماعات مجلس الأمن القومي، ومجلس الوزراء، ويعد الرئيس الديمقراطي الأسبق جيمي كارتر أكثر الرؤساء الذين منحوا صلاحيات كبيرة لنائب الرئيس، عندما جعل نائبه والتر مونديل مساهمًا رئيسًا في كل قرارات الإدارة والحكومة الأمريكية في ذلك الوقت، وعلى سبيل المثال، اضطلع مونديل بدور رئيس في تنسيق المفاوضات المصرية الإسرائيلية التي قادت في النهاية إلى اتفاقية كامب ديفيد، ثم اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979.
ثانيًا: إحلال متبادل
يمكن للرئيس الأمريكي أن يعين نائبًا له حال خلو منصب نائب الرئيس، ويحتاج الرئيس إلى موافقة غالبية مجلس الشيوخ فقط؛ وهنا يُثبَّت نائب الرئيس، على غرار المناصب العليا في الحكومة الأمريكية، وكان هذا واضحًا عندما عيّن الرئيس ريتشارد نيكسون، جيرالد فورد نائبًا له، وبعد تولي الرئيس فورد رئاسة الولايات المتحدة عيّن نيلسون روكفلر نائبًا له. وفي حالات وفاة الرئيس أو استقالته، يحل نائب الرئيس محل الرئيس الأمريكي، ومنذ استقلال الولايات أصبح 15 نائبًا رؤساء للولايات المتحدة، منهم 6 فازوا بالانتخابات الرئاسية، مثل جورج بوش الأب، الذي كان نائبًا للرئيس رونالد ريغان، والرئيس جو بايدن الذي كان نائبًا للرئيس باراك أوباما، وحل 8 نواب مباشرة محل الرئيس عقب وفاة الرئيس، في حين حل نائب الرئيس جيرالد فورد محل الرئيس ريتشارد نيكسون عندما استقال نيكسون في أعقاب فضيحة “ووتر جيت” في 9 أغسطس (آب) 1974.
ثالثًا: الكيمياء المشتركة
أبرز العوامل التي تقف وراء اختيار نائب الرئيس هي قدرة النائب على مساعدة المرشح الرئاسي على الوصول إلى قاعدة جديدة من الناخبين، فعلى سبيل المثال، أرادت هيلاري كلينتون أن تحصل على أصوات المحافظين والمتدينين المعتدلين عندما اختارت تيم كين عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فرجينيا ليساعدها على جذب أصوات المتدينين، ردًا على اختيار ترمب عام 2017 لمايك بنس القريب جدًّا من المتدينين. وتضطلع “الكيمياء المشتركة”، و”الولاء الشخصي”، بالدور الأكبر في اختيار نائب الرئيس، فرغم القائمة الطويلة التي كانت أمام دونالد ترمب لاختيار نائب له، فإنه اختار جي دي فانس لسببين؛ الأول: هو أن فانس يحمل الأفكار نفسها التي يحملها ترمب، ويريده ترمب أن يكون تلميذه الذي ينشر الترامبية في السنوات والعقود المقبلة، خاصة أن جي دي فانس صديق شخصي لابن ترمب دونالد جونيور. والسبب الثاني هو “قضية الولاء”، حيث يميل الرئيس الأمريكي إلى اختيار نائب يدين بالولاء الكامل له. وتتجسد هذه الكيمياء المشتركة في إصرار الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت على تعيين هنري ولاس نائبًا له عندما كان روزفلت مرشحًا للولاية الثالثة، وعمل الاثنان معًا على نحو رائع.
لم يعط جي دي فانس الزخم الذي انتظره الجميع عندما اختاره المرشح الجمهوري دونالد ترمب قبل ساعات من بدء المؤتمر العام للحزب الجمهوري الأمريكي في الشهر الماضي، وقد يعود هذا الأمر إلى التشابه الكبير بين أفكار ترامب ورؤيته وتوجهات دي فانس، الذي يتفق مع ترمب في ضرورة فرض الحواجز الجمركية على المنتجات الصينية، وطرد 20 مليون مهاجر غير شرعي، والعودة مرة أخرى إلى استكشاف الغاز والنفط، وتحول الولايات المتحدة إلى مصدر للطاقة، لكن ترمب سعى إلى الاستفادة من جي دي فانس في مزايا أخرى، وهي:
1- التاريخ الاجتماعي الفقير لعائلة جي دي فانس، حيث عاش دي فانس حياة فقيرة جدًّا، وعانى اجتماعيًّا حتى دخل الجيش الأمريكي، وخدم في العراق، وحصل على الأموال التي ساعدته على دخول جامعة ييل المرموقة. ويسعى ترمب من خلال هذا الاختيار إلى جذب الفئات المتوسطة في المجتمع الأمريكي لتغيير الصورة النمطية عن الجمهوريين بأنهم حزب الأغنياء، خاصة أن كامالا هاريس تتبنى برنامجًا خاصًا بالطبقة الوسطى، يقوم على تخفيضات ضريبية لمن يشتري بيتًا جديدًا.
2- مغازلة “ولايات الصدأ”، وهي الولايات التي تمتد من غرب نيويورك، وتضم ولايات مثل الميسيسبي، مرورًا بولايات الغرب الأوسط، مثل ميتشغان، ونبراسكا، وأوهايو، وعاش جي دي فانس فترة قصيرة من حياته في نبراسكا قبل أن يتنقل ويعيش في ولاية أوهايو، وهي ولاية فقيرة مقارنة بنيويورك وكاليفورنيا، وكتب عن سكانها الفقراء الذين فقدوا وظائفهم كتابه الشهير “هيلبيلي إليجي” عن معاناة سكان تلال أوهايو ونبرسكا.
3- مغازلة الملونين، فمع أن جي دي فانس أبيض، وحكى في كتابه قصة معاناة سكان الطبقة الوسطى من البيض الأمريكيين الذين يمثلون 59% من الشعب الأمريكي، فإن زواجه الناجح بأمريكية ذات أصول هندية (أوشا فانس) يشكل حجة قوية لدى المرشح الجمهوري بأنه ليس معاديًا من حيث المبدأ للمهاجرين؛ لكنه فقط ضد الهجرة غير الشرعية التي تأخذ وظائف الأمريكيين، وتنشر الجريمة والمخدرات في ربوع البلاد كما قال في المناظرة مع كامالا هاريس.
4- ” الشعبوية الاقتصادية”، و”الانعزالية الخارجية”، فمن يحلل تصريحات جي دي فانس ومواقفه، يتأكد له أنه يتفق تمامًا مع ترمب في قضايا الشعبوية الاقتصادية، خاصة ما يتعلق بالتضخم، والطبقة الوسطى، وإعادة الشركات والمصانع الأمريكية التي تعمل في الصين والمكسيك إلى الولايات المتحدة من أجل خلق مزيد من الوظائف. ويتفق جي دي فانس أيضًا مع ترمب في “الانعزالية الخارجية” التي تقوم على وقف إرسال المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى أوكرانيا، وإجبار دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) على دفع نحو 2% من الناتج القومي حتى تحميهم الولايات المتحدة.
الانسحاب المفاجئ للرئيس بايدن من السباق الانتخابي، ودخول كمالا هاريس بدلًا منه، لم يترك أمام هاريس كثيرًا من الوقت لاختيار نائب لها، ودارت التكهنات في البداية حول شخصيات ديمقراطية كبيرة، مثل جوش شابيرو، حاكم ولاية بنسلفانيا؛ لأنها من الولايات المتأرجحة، أو حاكمة ولاية ميتشجان ويتمر جريتشن، وغيرهما، لكن هاريس اختارت في النهاية حاكم ولاية مينسوتا تيم والز؛ لأسباب كثيرة، منها:
1- التوازن الجغرافي
كانت النظرة العميقة لكامالا هاريس تقول إنها لا تعرف الكثير عن أمريكا، وإنها اختبأت منذ تعيينها نائبة للرئيس. ولأنها نشأت في أقصى الغرب، في ولاية كالفورنيا، فإنها تحتاج إلى نائب يفهم “الولايات المتأرجحة”، وولايات “الصدأ”. ومع أن مينسوتا ولاية ديمقراطية، وضمن “الحزام الأزرق” فإنها قريبة جدًّا من ولايات “الصدأ” في الوسط والغرب الأوسط، وهو ما يوفر نوعًا من التوازن في التعامل مع مشكلات الولايات المتأرجحة واحتياجاتها.
2- الوسطية الأيديولوجية
اختارت هاريس حاكم مينسوتا حتى تقول إنها ليست “يسارية متطرفة” كما يتهمها الجمهوريون، وأرادت هاريس من خلال اختيار تيم والز- الذي كان ينجح في مجلس النواب عن بعض المقاطعات الجمهورية في ولاية مينسوتا- القول إنها في الوسط بين الجناح الليبرالي التقدمي القوي الذي يقوده بيرني ساندر، وإليزابيث وارن، والجناح الوسطى الذي يمكن أن يستقطب الجمهوريين المعتدلين من خلال تيم والز المعتدل.
3- المحاربون وقيادة الجيش
خدم تيم والز في الجيش الأمريكي 14 عامًا قبل أن يعمل مدرسًا. وتسعى هاريس من خلال هذا الاختيار إلى تأكيد قربها من الجيش الأمريكي، وأنها تفهم القضايا الأمنية والعسكرية، وأنها جديرة لتكون القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية، وهي بهذه الخطوة تسعى إلى الحصول على نسبة تأييد عالية لدى المحاربين القدماء الذين يؤيدون في غالبيتهم دونالد ترمب.
المؤكد أن كلًا من تيم والز، وجي دي فانس سيكون لهما أدوار حاسمة- خلال الأسابيع المقبلة- في وصول كامالا هاريس، أو دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ويمكن أن تقضي الأقدار أن يكون أحدهما رئيس الولايات المتحدة من يوم من الأيام.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.