مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة

مَن يقف وراء هجوم موسكو؟


  • 23 أبريل 2024

شارك الموضوع

كانت روسيا ضحية عمل إرهابي ارتُكب في الـ22 من مارس (آذار) 2024، واستهدف مدنيين، وأدى إلى مقتل أكثر من (100) شخص في كروكوس، إحدى ضواحي موسكو. وتشير هذه العملية، التي نفذها أفراد يرتدون ملابس مموهة- بشكل لا لبس فيه- إلى تورط أجهزة استخبارات أجنبية؛ لذا لا بد من تحليل أهداف هذا الهجوم، والرسالة (أو الرسائل) التي يقصدها مرتكبو الهجوم، والموجهة إلى كل من الحكومة الروسية والرأي العام. ومن أجل التأكد من المستفيد من هذه الجريمة، يتعين على المرء أن يدرس ظروفها ضمن السياق الدولي الأوسع، والدور المؤثر المتزايد الذي تضطلع به روسيا على المسرح العالمي؛ لذا قدم الدكتور إيلي حاتم، الأستاذ في القانون الدولي، والمستشار لدى المحكمة الجنائية الدولية (لاهاي) ورقة بعنوان “من يقف وراء هجوم موسكو؟”، لنشرها في مركز الدراسات العربية الأوراسية، وقد ترجمتها وحدة الرصد والترجمة بالمركز ولخّصتها؛ لما فيها من الفائدة.

سياق العملية

جرت هذه العملية بعد خمسة أيام من إعادة انتخاب الرئيس فلاديمير بوتين لولاية ثالثة رئيسًا للدولة، وهو ما يساوي الفترات الثلاث التي قضتها المستشارة أنجيلا ميركل في منصبها في ألمانيا. وحصل فلاديمير بوتين على (87 %) من الأصوات في هذه الانتخابات، وهو رقم مماثل لما حققه الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، الذي حصل على أكثر من (81 %) من الأصوات عند إعادة انتخابه لأعلى منصب في فرنسا عام 2002. وتمت الانتخابات الروسية بسلاسة، على الرغم من المناوشات البسيطة التي حرض عليها عدد قليل من المعارضين، دون الإخلال بالنظام العام. أما المحاولات التي بذلها الغرب لإثارة زعزعة الاستقرار الداخلي، على غرار ما لوحظ في إيران، أو الدول العربية خلال “الربيع العربي”، فقد فشلت في اكتساب مزيد من الزخم. وبالمثل، فإن وفاة أليكسي نافالني لم تشعل الانتفاضة الشعبية المتوقعة.

ويخشى منتقدو روسيا من دور موسكو المحوري في استعادة التوازن الدولي، مع التمسك بمبادئ القانون الدولي العام، والحفاظ على الهويات الوطنية والثقافية والحضارية، والدفاع عن سيادة الدولة، والحفاظ على السلامة المؤسسية لمنع الصراعات المزعزعة للاستقرار، وإعلاء القيم الأخلاقية والاجتماعية. فضلًا عن ذلك، فإن النصر الساحق الذي حققه بوتين في الانتخابات يمنحه الحرية في التعاون بحزم مع شركاء في إيران، والصين، والهند، وباكستان، وأمريكا الجنوبية، وآسيا، والشرق الأدنى والأوسط، وإفريقيا، وجزء كبير من أوروبا. على هذه الخلفية، كانت العملية المذهلة التي جرت في 22 مارس (آذار) 2024 تهدف إلى التأثير في الرأي العام داخليًّا، وتقويض عزيمة الحكومة الروسية. وتزامن هذا الهجوم مع إصرار روسيا على إنهاء الصراع في أوكرانيا على نحو حاسم، وموقفها الواضح من القضية الإسرائيلية الفلسطينية.

محاولة ترهيب

يشكل تفاقم الصراع في أوكرانيا تهديدًا كبيرًا ليس فقط لروسيا وأوكرانيا؛ ولكن أيضًا لجميع الدول الأوروبية، فهو يمثل مناورة منسقة من جانب المصالح الأمريكية والأنجلوسكسونية، تهدف إلى تقويض أوروبا الشرقية والغربية. فهو في جوهره صراع حرضت عليه الولايات المتحدة ضد كل من روسيا وأوروبا، ويتكشف على الأراضي الأوكرانية. ولا يسعى هذا الصراع إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي فحسب؛ بل يسعى أيضًا إلى إحداث تداعيات بعيدة المدى على الاقتصاد والتجارة العالميين، وتبدو آثاره الاقتصادية والمالية السلبية واضحة داخل أوروبا، وفي المناطق الأخرى التي تتصارع مع التضخم ونقص الغذاء منذ اندلاع النزاع المسلح في فبراير (شباط) 2022.

وتكمن جذور هذا الصراع في الجهود الأمريكية في خلق تهديد واضح لروسيا من خلال تمويل السياسيين الأوكرانيين الفاسدين لارتكاب فظائع ضد السكان الناطقين بالروسية في أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، هناك هدف لتوجيه أوكرانيا نحو التحالف مع الولايات المتحدة من خلال اندماجها في الناتو، وقد أصبحت هذه المناورات منتشرة على نحو متزايد منذ عام 2010، بتيسير من منظمات مثل مؤسسات جورج سوروس، التي اضطلعت بدور فعال في تمويل الدعاية الأوكرانية المؤيدة للولايات المتحدة، والتي توصف غالبًا بأنها “موالية للغرب”. واليوم، أصبحت الروابط بين شبكة سوروس ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية معروفة على نطاق عريض. وتستخدم الأخيرة “القوة الناعمة”، وخاصة من خلال هذه الأسس، لتحقيق أهدافها في أوروبا الشرقية وخارجها. وتشمل الأمثلة “الربيع العربي”، ومنظمات مثل فيمين، وغيرها من المنظمات غير الحكومية، التي تسعى إلى تقويض القيم الاجتماعية والأخلاقية داخل المجتمعات الغربية، وخاصة مؤسسة الأسرة. في عام 2018، كشفت ويكيليكس اتصالات بين الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو وجورج سوروس؛ مما سلط الضوء على دور سوروس كقناة لواشنطن.

وعلى الرغم من توقيع اتفاق مينسك بين روسيا وأوكرانيا في سبتمبر (أيلول) 2014، فشلت الحكومة الأوكرانية، تحت تأثير المصالح الغربية، في الالتزام بوقف إطلاق النار، واستمرت الفظائع ضد الأوكرانيين الناطقين بالروسية. وبعد ذلك، تم التوقيع على اتفاق مينسك الثاني في 12 فبراير (شباط) 2015، لكن الأعمال العدائية استمرت. وفي مقابلة مع صحيفة “دي تسايت”، كشفت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أن هدف مينسك الثاني كان تمكين أوكرانيا من تعزيز قدراتها العسكرية. وكان حلف شمال الأطلسي يهدف إلى كسب الوقت لتسليح أوكرانيا على نحو أكبر، وضمان التدريب المناسب لقواتها. وقد أكد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند تأكيدات ميركل. أصبحت النيات العدوانية لحلف شمال الأطلسي واضحة، لا سيما مع عودة روسيا بوصفها قوة عالمية كبرى، وهو ما تجسد في تدخلها في سوريا منذ سبتمبر (أيلول) 2015. وكان هذا التدخل- بناء على طلب الحكومة السورية- يهدف إلى مكافحة زعزعة الاستقرار في أعقاب “الربيع العربي”، والحفاظ على استقلال سوريا وسيادتها، مع القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا.

تنظيم الدولة الإسلامية.. الجناح المسلح للأمريكيين والإسرائيليين

ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق في أعقاب غزو الولايات المتحدة للبلاد؛ بهدف زعزعة استقرار الشرق الأوسط، وإشعال الصراعات بين مجموعاته العرقية والطائفية والدينية المتنوعة، وخاصة بين السُنّة والشيعة. وبعد ترسيخ وجودهم في المنطقة، أذكوا التوترات بين الطوائف والأعراق من خلال تنصيب القادة الشيعة فقط في السلطة، وقمع المجتمع السني لتعزيز العداء بين هذه الفصائل. لقد زادوا تمزيق البلاد من خلال منح الحكم الذاتي للأكراد، والاحتجاز التعسفي للجنود السنة وضباط الجيش العراقي في غوانتانامو، مما أدى في نهاية المطاف إلى إغلاق منشأة الاعتقال الأمريكية هذه. وردًا على هذه الاستفزازات، التي حرض عليها الأمريكيون من كلا الجانبين- مثل تفاقم المنافسات السنية الشيعية، وتعزيز الاستياء تجاه الغرب الإمبريالي والمحتل الذي يفتقر إلى احترام القيم الأخلاقية والدينية- ظهرت حركة إسلامية متأثرة بأيديولوجية تنظيم القاعدة.

وعلى الرغم من سيطرتها الشاملة على المنطقة التي نشأت فيها هذه المجموعة وتدربت فيها، لم تتخذ القوات الأمريكية أي إجراء لمنع نموها، على الرغم من وصولها إلى التكنولوجيا المتطورة التي تمكنها من المراقبة التفصيلية، ومن ذلك بث صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو. وتورط أمريكيون في خلق هذه الجماعة وتسهيل ظهورها، وكشف ذلك الرئيس السابق دونالد ترمب، خلال حملته الرئاسية الأولية في 10 أغسطس (آب) 2016، عندما ادعى أن تنظيم “الدولة الإسلامية” هو نتاج إدارة سلفه باراك أوباما. وهذا الاستغلال للإسلام السياسي لتعزيز أهداف زعزعة الاستقرار الأمريكية، أكدته هيلاري كلينتون في كتابها “الاختيارات الصعبة”.

بالإضافة إلى ذلك، من المهم الإشارة إلى الروابط بين تنظيم “الدولة الإسلامية” وإسرائيل، وخاصة مع الموساد. على سبيل المثال، نشر أبو مسلم التركماني، نائب أبي بكر البغدادي، الذي نصب نفسه خليفة لتنظيم “الدولة الإسلامية”، رسالة على حساب التنظيم الرسمي على تويتر عام 2016، ذكر فيها أن “الله لم يأمرنا بقتال ضد إسرائيل أو اليهود” كما جاء في القرآن الكريم. وعلى نحو مماثل، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون- بثقة، خلال مؤتمر عُقد في تل أبيب في يناير (كانون الثاني) 2016- أنه “إذا كان عليَّ أن أختار بين إيران وداعش، فسأختار داعش”. وألمح يعلون أيضًا إلى وجود روابط بين حكومته وتنظيم داعش عام 2017؛ مما تسبب في إحراج الأوساط السياسية في إسرائيل عندما ادعى أن إسرائيل تلقت “اعتذارات رسمية من داعش لإطلاق بعض الصواريخ عن طريق الخطأ على إسرائيل”.

وفي العام نفسه، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مساعدات عسكرية إسرائيلية لجماعة داعش شبه العسكرية، بما في ذلك تشكيل وحدة عسكرية خاصة لمساعدة التنظيم بـ”الأسلحة والذخائر” و”الدفع إلى أعضائه”، تحت ستار تعزيز “حسن الجوار”. كما أعرب المتحدث باسم الجماعة المسلحة المعروفة باسم “مقاتلو الجولان” عن امتنانه لإسرائيل على دعمها، وكشف عن تعويضات مالية تلقتها من إسرائيل مقابل خدماتهم. بالإضافة إلى ذلك، حافظت إسرائيل على علاقات وثيقة مع جبهة النصرة، جماعة القاعدة في سوريا، كما كشف ذلك التقرير ربع السنوي الذي قدمه الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون إلى مجلس الأمن في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2014. ووثّق تقرير آخر للأمم المتحدة اجتماعات كثيرة بين ممثلين عسكريين إسرائيليين وقادة داعش بالقرب من الحدود السورية، لا سيما في منطقة القنيطرة والمرتفعات الوسطى للجولان، في الفترة ما بين 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 و1 مارس (آذار) 2017.

بالإضافة إلى ذلك، امتنعت إسرائيل عن مهاجمة داعش في سوريا، وبدلًا من ذلك، استهدفت الجيش السوري بحجة مواجهة الوجود العسكري الإيراني. وبشكل خاص في عام 2018، عندما كانت القوات شبه العسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية تخسر الأرض، خاصة في حلب، تدخل الجيش الإسرائيلي بقصف مكثف على حلب والمناطق المحيطة بها. وعلى الرغم من وجود عناصر إيرانية تهدف إلى مساعدة الجيش النظامي السوري والقوات الروسية في مكافحة داعش والنصرة، فإن إسرائيل تواصل حتى الآن هجماتها على مواقع الجيش السوري.

وفي خضم الصراع في غزة والضفة الغربية، استغلت إسرائيل الوضع الفوضوي في المنطقة لتصعيد الهجمات على الجيش السوري. فُسِّرت الغارة الجوية في حلب في 29 مارس (آذار) 2024، التي أسفرت عن مقتل 44 جنديًّا سوريًّا، في المقام الأول، على أنها رسالة إلى روسيا؛ مما يشير إلى توتر في العلاقات الروسية الإسرائيلية منذ بدء الصراع في أوكرانيا. وفي الواقع، اعتمدت إسرائيل على روسيا لتسهيل الاستبدال الكامل للقوات الإيرانية التي تدخلت في سوريا بناء على طلب الحكومة السورية للمساعدة على الحفاظ على مؤسساتها، قبل التدخل الروسي في عام 2015. ومع ذلك، منذ بداية الصراع في أوكرانيا، أدت العلاقات الوثيقة بين روسيا وإيران، إلى جانب تزويد إيران بطائرات بدون طيار من طراز “شاهد”، بوصفها حليفًا إستراتيجيًّا لموسكو، إلى توتر العلاقات الروسية الإسرائيلية.

صعود حركة اليمين المتطرف النازية الجديدة في الغرب

بالتوازي مع استخدام العوامل الدينية لتحقيق غايات سياسية، كما رأينا على نحو خاص في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، اتبعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إستراتيجية أخرى أكثر من عقد من الزمن؛ مما أدى إلى ظهور مجموعات عنيفة من النازيين الجدد ذات توجهات سياسية مختلفة، وكُثفت الأيديولوجية القومية، ولا سيما في أوروبا، كوسيلة لتفعيل نظرية برنارد لويس، وصامويل هنتنغتون عن “صراع الحضارات”. نُشرت هذه النظرية في البداية داخل دوائر مراكز الأبحاث الأمريكية، قبل ترجمتها إلى إجراءات عملية.

تعمل هذه الإستراتيجية جنبًا إلى جنب مع مفهوم الفوضى؛ بهدف إثارة الهوية والتوترات القومية عبر القارة الأوروبية التاريخية. وقد شهدت هذه المنطقة تدفقًا كبيرًا للمهاجرين نتيجة لزعزعة الاستقرار في كثير من بلدان الجنوب، التي تفاقمت بسبب التفاوتات الاقتصادية العالمية. يضاف إلى ذلك أجندة عالمية وضغوط، خاصة على دول أوروبا الغربية، لفتح الحدود، وإيواء السكان الفارين من الصراعات العسكرية، أو المجاعة، أو الظروف الاقتصادية الصعبة في أوطانهم.

ونتيجة لذلك، نشأت توترات اجتماعية وثقافية واضحة، وتفاقمت بسبب التحدي المتمثل في استيعاب هؤلاء السكان المهاجرين أو دمجهم في مجتمعاتهم، لا سيما في ضوء انتشار التطرف الإسلامي بين الفئات المهمشة وذوي التعليم الضعيف. وكانت الدعاية التي تطلقها الحركات الإسلامية، المدعومة غالبًا بتمويل خارجي، سببًا في تفتيت مجتمع أوروبا الغربية، وتغذية الهجمات الإرهابية التي تغطيها وسائل الإعلام الغربية على نطاق عريض، دون الكشف عن المحرضين الحقيقيين. وإلى جانب الانقسامات العرقية التقليدية، أسهم هذا في عودة القوميات المتزايدة، والخطاب الشعبوي، وصعود الزعماء الديماغوجيين الذين يستغلون هذه الظروف لتحقيق مكاسبهم الخاصة.

في عام 2018، شهدت أوكرانيا ظهور مرشح رئاسي غير تقليدي- ممثل كوميدي مدعوم بموارد كبيرة- استخدم الغوغائية لتأمين السلطة. وأثار ما كشف عنه صحفيون استقصائيون، ومنهم المتورطون في فضيحة “أوراق باندورا”، تساؤلات عن تورط المرشح في تعاملات تجارية سرية، وشركات خارجية، مما ألقى بظلال من الشك على نزاهة صعوده إلى السلطة. واصل الزعيم الأوكراني الجديد، فولوديمير زيلينسكي، مدفوعًا بالدعم الغربي، ومتوافقًا مع المصالح الجيوسياسية لعواصم مثل لندن وواشنطن، استفزاز روسيا المجاورة، حتى إنه كان يفكر في التكامل مع الناتو، وهي خطوة أدت إلى تفاقم التوترات في المنطقة. وعلى الرغم من محاولات بعض أنصار زيلينسكي الدفاع عنه من خلال تسليط الضوء على عقيدته اليهودية، فإن أفعاله تتماشى مع نمط أوسع من الاستغلال والتلاعب. إن التقارب بين مشاعر النازيين الجدد والحماسة القومية، الذي يتجلى في اصطفاف زيلينسكي مع مجموعات مثل كتيبة آزوف، يسلط الضوء على التفاعل المعقد بين سياسات الهوية وديناميكيات السلطة في المنطقة.

الحق في الدفاع عن النفس على نحو استباقي

إن تصعيد عدوان النازيين الجدد المستهجن ضد الأوكرانيين الناطقين بالروسية، متجاهلين اتفاقيات مينسك الثانية، إلى جانب استفزازات حلف شمال الأطلسي الهادفة إلى إقامة وجود على حدود أوكرانيا، أجبر روسيا على اتخاذ إجراءات دفاعية ضد هذا التهديد، وحماية أكثر من 30 مليون ناطق روسي معرضين لخطر الإبادة الجماعية. وكان هذا التهديد ملموسًا أكثر من امتلاك العراق الافتراضي لأسلحة الدمار الشامل، وهو ما أدى إلى غزو الولايات المتحدة في عام 2003، والذي أدى إلى الفوضى في العراق والشرق الأوسط الكبير. وبررت واشنطن هذا التدخل بحجة “الدفاع الوقائي عن النفس”، أو مساعدة الشعب العراقي في “إرساء الديمقراطية، والإطاحة بنظام صدام حسين”.

وتبين أن مخاوف روسيا بشأن دولة مدججة بالسلاح تشكل تهديدًا أمنيًّا على حدودها كانت مبررة. كشفت العملية العسكرية الروسية المستمرة لـ”إزالة النازية” في أوكرانيا منذ 24 فبراير (شباط) 2022، عن مدى تطور الجيش الأوكراني اليميني المتطرف، ومجموعات الميليشيات، المدعومة من القوى الغربية، وخاصة المملكة المتحدة والولايات المتحدة، عسكريًّا، ومن خلال خدمات الاستخبارات. ومن عجيب المفارقات أن النظام الأوكراني، المتحالف مع الولايات المتحدة وأجهزتها الاستخباراتية، تلقى مساعدة عسكرية من الجماعات “الإسلامية” الممولة من هذه الأخيرة، التي أسهمت في زعزعة استقرار الشيشان وسوريا. وكما هو مفصل سابقًا، فقد جربت الأجهزة الأمريكية سابقًا بناء أيديولوجية سياسية تعتمد على التعاليم الدينية المشوهة للإسلام، حيث وظفتها أولًا في أفغانستان، ثم في دول أوروبا الشرقية، ولا سيما يوغوسلافيا وآسيا الوسطى. جُنِّد هؤلاء “المجاهدون” لمحاربة الروس في أوكرانيا، وصُوّروا على أنهم العدو الذي يحول بينهم وبين أهدافهم  في سوريا وآسيا الوسطى، دون الأخذ في الحسبان أنهم يشتركون في النضال نفسه مع اليمينيين المتطرفين الأوكرانيين الذين يعارضون ظاهريًّا النفوذ الأجنبي على أراضيهم. وكشف التحقيق في عملية 22 مارس (آذار) 2024 عن الصلات بين تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات اليمينية المتطرفة في أوكرانيا.

وفي فبراير (شباط) 2022، وجدت روسيا نفسها مضطرة إلى القيام بعملية عسكرية ضد جارتها الأوكرانية، دون الانخراط في حرب صريحة. تشترك أوكرانيا وروسيا في تاريخ وثقافة مشتركة، كما أنهما، إلى جانب بيلاروس، ورثة الأمة الروسية التي تشكلت منذ أكثر من ألف عام من خلال اتحاد السلاف الشرقيين في ظل المسيحية الأرثوذكسية التي نشأت من كييف، والتي لا تزال تعد “أم المدن الروسية”، ومهد الأمة الروسية منذ تأسيس روس كييف عام 882. وهكذا تدخلت روسيا عسكريًّا على مضض في أوكرانيا. وعلى النقيض من الغزو الأمريكي للعراق، الذي ترك خلاله المدنيون التحف التاريخية التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين دون حماية، ونهب متحف بغداد من كنوزه، أجرى الجيش الروسي عملية محسوبة. لقد تجنبت كييف، وحافظت على بقايا الحضارة الروسية، واستهدفت- في المقام الأول- الوحدات العسكرية وشبه العسكرية التي تبث الرعب، وتهدد أمن الناطقين بالروسية. كما وُجِّهت الضربات إلى مستودعات الأسلحة التي تشكل تهديدًا للأمن القومي الروسي.

ومن المؤسف أن القوى الغربية ردت على التحرك الروسي بالتغاضي عن كثير من الضربات الإسرائيلية لمستودعات الجيش السوري والمناطق المدنية، على الرغم من عدم اتخاذ سوريا إجراءات عسكرية ضد إسرائيل. ولم تواجه إسرائيل أي عقوبات على الرغم من تجاهلها أكثر من 1500 قرار من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وارتكابها الفظائع المستمرة في غزة والضفة الغربية، كما اعترفت بذلك محكمة العدل الدولية. وفي المقابل، فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي أكثر من 14 ألف عقوبة على روسيا بسبب تدخلها في أوكرانيا.

تصاعد الاستفزازات

قد وصل التصعيد ضد روسيا إلى ذروته منذ فبراير (شباط) 2024 بعد تصريح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هدد فيه بنشر قوات عسكرية فرنسية للمشاركة في القتال في أوكرانيا، لكن تصريح رئيس الدولة الفرنسي هذا لم يؤخذ على محمل الجد في موسكو بسبب التناقضات في مواقفه التي تراجع عنها على الفور. وفي 24 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، اقترح ماكرون تشكيل “تحالف دولي” لمحاربة حماس خلال زيارة إلى تل أبيب. ومع ذلك، بعد يومين فقط، في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، في أثناء زيارته للقاهرة للقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تراجع عن اقتراحه. وصُوِّب تصريح الرئيس ماكرون بشأن إرسال قوات إلى أوكرانيا بسرعة من جانب الإليزيه قبل أن يوضحه وزير خارجيته، ستيفان سيجورني، بشكل أكبر؛ إذ أوضح أن رئيس الدولة كان يشير إلى تقديم المساعدة العسكرية للأوكرانيين، بدلاً من إرسال قوات بالضرورة إلى أوكرانيا للقتال على الأرض.

لكن هذا الإعلان فقد أهميته لأنه ناقضه الرئيس ماكرون نفسه، الذي اقترح مساعدة روسيا لمكافحة “الإرهاب الإسلامي”، في حين صور روسيا أيضًا، قبل أيام قليلة من هجوم 22 مارس (آذار) 2024، على أنها تهديد لفرنسا والاتحاد الأوروبي، وحث على بذل الجهود لمنعها من الانتصار في الحرب في أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، في 30 مارس (آذار) 2024، خلال زيارة رسمية للبرازيل، لم يستبعد الرئيس الفرنسي الحوار مع فلاديمير بوتين. ومع ذلك، فإن هذا الإعلان بشأن احتمال نشر قوات عسكرية في أوكرانيا أثار- في المقام الأول- ردود فعل من شركاء فرنسا في حلف شمال الأطلسي، وخاصة الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا.

وقد أذهلت هذه الإستراتيجية الروس، الذين اقتنعوا بغياب المشاعر العدائية بين فرنسا وروسيا، على الرغم من الدعاية ضدهم بتهمة العمل ضد المصالح الفرنسية في إفريقيا. فمجموعة فاغنر، التي كانت تعمل في القارة الإفريقية، هي منظمة خاصة تتكون من مرتزقة، ومن المحتمل أن يكون عملاء أمريكيون اخترقوها لتسهيل تدخلاتهم العسكرية في المواقع التي يوجد فيها جنود فرنسيون، لإبعاد فرنسا عن إفريقيا، وهو هدف أساسي للولايات المتحدة للحفاظ على المصالح الأنجلوسكسونية في إفريقيا. ومنذ الانقلاب في النيجر، ووفاة يفغيني بريغوزين، تضاءل وجود فاغنر في إفريقيا. ولا تحتفظ روسيا بقوات عسكرية نظامية في إفريقيا، حيث يقتصر وجودها على التمثيل الدبلوماسي الرسمي، على الرغم من التعاطف الذي يبديه الأفارقة مع روسيا. ومن المؤسف أن فرنسا ترى أن هناك خصمًا في الشرق، في حين أن خصمها الحقيقي يكمن في الغرب.

في مقابلة متلفزة في 15 مارس (آذار) 2024، ألمح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى هجمات إلكترونية، دون التأكد من مرتكبيها، لينقل أن أوروبا وفرنسا يجب ألا تسمحا لروسيا بالانتصار في أوكرانيا، وهو ما من شأنه أن يعرض “أمن حدودنا للخطر”. ومع ذلك، فإن هدف روسيا في أوكرانيا هو فقط حماية أمنها، والقضاء على أي تهديدات لها وللسكان الروس، وخاصة أولئك الذين يعيشون في أوكرانيا، والذين يرتبطون بعمق بثقافة أجدادهم. ولا تطمح روسيا إلى احتلال أو زعزعة استقرار دول الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن فرنسا؛ ومن ثم، كيف يمكن تأييد مبدأ الدفاع الأمني الوقائي من جانب الاتحاد الأوروبي ضد روسيا لترشيد نشر القوات العسكرية في أوكرانيا، دون الاعتراف بمبدأ الأمن الذي تتذرع به روسيا ضد بلد يشاركها حدودها، ويخاطر باستضافة قوات الناتو؛ مما يعرض للخطر أمنها واستقرارها، وكذلك أمن واستقرار السكان الناطقين بالروسية الذين يعانون صعوبات منذ عام 2013؟

نهاية الحرب في أوكرانيا

كانت إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً للدولة، بأغلبية مريحة جدًّا من الأصوات، سببًا في حصوله على الفرصة للتصدي بحسم لاستفزازات حلف شمال الأطلسي، وحل الوضع المزري في أوكرانيا لصالح البلدين وجيرانهما. جاء ذلك على خلفية التدخل الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة في المقام الأول، والذي يهدف إلى إضعاف القارة الأوروبية بكاملها من خلال صراع يتكشف خارج الأراضي الأمريكية. وفي أعقاب هذه الانتخابات، كان هدف المؤسسة العسكرية الروسية يتلخص في إجراء عملية إستراتيجية في أوديسا، حيث يشكل السكان الناطقون بالروسية أكثر من 30 % من السكان.

هناك تطور مهم آخر تزامن مع إعادة انتخاب فلاديمير بوتين، وهو موقف موسكو من الصراع في غزة. في البداية، تبنت موقفًا متوازنًا رسميًّا لاستيعاب الحساسيات المحتملة بين الجاليات اليهودية الروسية، أو الإسرائيليين الروس، أو حاملي الجنسية الروسية ثم غيرت موسكو موقفها تدريجيًّا فيما يتعلق بالصراع في فلسطين؛ إذ إن غالبية اليهود الروس والمواطنين الإسرائيليين الروس، ومعظمهم من الثقافة الأشكنازية، انتقدوا- على نحو متزايد- نظام بنيامين نتنياهو وسياساته، التي رأوها تسهم في الإبادة الجماعية للسكان المدنيين الفلسطينيين.

وقد أتاح هذا الموقف للدبلوماسية الروسية قدرًا أعظم من المرونة للتوافق مع مبادئ العدالة والإنصاف، واحترام القانون العام الدولي. لقد تمكنت روسيا من الظهور بوصفها زعيمة للعالم الحر، في مواجهة الشمولية التي مارستها الولايات المتحدة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. لقد اضطلعت الولايات المتحدة، التي كانت تعد ذات يوم زعيمة العالم الحر، بدور أقرب إلى “شرطي العالم”، حيث مارست قوة الهيمنة على العالم الأحادي القطب، بما في ذلك المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة. ومع ذلك، فإن الأمم المتحدة، التي يُقال إنها مكلفة بدعم القانون العام الدولي، سقطت تمامًا تحت سيطرة واشنطن منذ عهد الأمين العام السابق بطرس بطرس غالي. وقد أحبطت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت إعادة انتخابه بعد إدانته المذبحة الإسرائيلية في قانا بلبنان عام 1996.

وقد أدت هذه السيطرة المهيمنة من جانب واشنطن إلى فرض عقوبات غير عادلة على الخصوم دون أسباب مشروعة، وتدخلات عسكرية تفتقر إلى أساس قانوني، كما هي الحال في العراق، وضغوط غير مبررة على الشركاء، ومنهم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وتستغل واشنطن موقعها على رأس حلف شمال الأطلسي لتوجيه الاتحاد الأوروبي، وتنتهك الحريات العامة من خلال المراقبة التكنولوجية من جانب كيانات مثل (GAFAM)، والسيطرة على المعاملات المالية من خلال سويفت. وقد جعلت هذه الهيمنة الأفراد يشعرون وكأنهم يعيشون في ظل دكتاتورية دون دكتاتور علني. وكان الصراع المأساوي في أوكرانيا بمنزلة حافز لكسر هذا الوضع الراهن غير العادل؛ مما مهد الطريق لنشوء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

التوترات بين روسيا وإسرائيل

لقد أبدت الدبلوماسية الروسية صبرًا ملحوظًا تجاه إسرائيل والحركة الصهيونية على مدى أكثر من عامين. لقد نجت من الاستفزازات الإسرائيلية، بما في ذلك الضربات في سوريا التي تتعارض مع الاتفاقات مع الجيش الروسي المتمركز هناك لدعم الدولة السورية، وحماية مؤسساتها في أعقاب قمع الجماعات الإسلامية المدعومة من الخدمات الأمريكية الإسرائيلية (مثل جبهة النصرة- فرع القاعدة في سوريا، وتنظيم الدولة الإسلامية). وعلى الرغم من دعم إسرائيل لنظام فولوديمير زيلينسكي في أوكرانيا، فقد امتنعت روسيا في البداية عن اتخاذ أي إجراء، واكتفت بالتهديد بإغلاق الوكالة اليهودية في روسيا في يوليو (تموز) 2022.

وقد استخدم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لغة دبلوماسية بلباقة للحفاظ على العلاقات مع إسرائيل في الوقت الذي يسعى فيه إلى التوصل إلى حل سلمي للصراع. وتصاعدت التوترات بعد عملية حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، مما قدم لإسرائيل مبررًا لعملية عسكرية واسعة النطاق، غالبًا ما توصف بأنها تطهير عرقي، إلى جانب إستراتيجية ترحيل الفلسطينيين المستمرة التي بدأتها الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، وتواصلها إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948. ودفعت الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين الأرثوذكس إلى مناشدة بطريركية موسكو التدخل، والتي عبر عنها رئيس الأساقفة ثيودوسيوس حنا، أسقف الروم الأرثوذكس في القدس، وسفير السلطة الفلسطينية لدى روسيا، فايد مصطفى، لتعود روسيا مرة أخرى إلى دور المدافع عن المسيحيين في الشرق، على غرار فرنسا الكاثوليكية في الماضي.

وتدل دعوة وزير الخارجية الروسي لمختلف الفصائل الفلسطينية، ومنهم ممثلو حماس والجهاد الإسلامي، إلى اجتماع في موسكو في 29 فبراير (شباط) 2024، على تحول كبير في النهج الروسي تجاه الوضع في غزة والضفة الغربية. وعززت هذه المبادرة الحوار بين مختلف الفصائل الفلسطينية؛ مما أدى إلى إصدار إعلان مشترك يهدف إلى تحقيق الوحدة الوطنية الشاملة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. وقبل وقت قصير من الاجتماع، استقالت حكومة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، بقيادة فتح. وعقب اللقاء، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأخطار التي يواجهها الفلسطينيون، مؤكدا أن العملية العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية خطيرة، مثل تلك الموجودة في غزة. وعزا العنف غير المسبوق في غزة إلى ركود الوساطة فترة طويلة، ويرجع ذلك- إلى حد كبير- إلى محاولات الولايات المتحدة احتكار جهود الوساطة. كما كرر سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، موقف روسيا المؤيد للسلام، وإدانة الفظائع الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، في 22 مارس (آذار) 2024، قبل ساعات فقط من حادث إطلاق النار في موسكو. ويسلط هذا البيان الضوء على الدور الحاسم الذي تضطلع به روسيا في الشرق الأوسط، بدعم من الدول العربية، وخاصة دول الخليج.

المسار الإسلامي

في الواقع، فإن الاعترافات المتسقة لبعض المهاجمين الذين تم القبض عليهم بعد عملية 22 مارس (آذار) تثبت أن هذا المسعى كان قيد التنفيذ منذ أشهر. وكان العملاء، الذين جُنّدوا ودُرّبوا منذ أواخر يناير (كانون الثاني)، ينتظرون ببساطة الحصول على إذن بالمضي قدمًا في الهجوم. إن توقيت وتنفيذ الفعل لهما أهمية قصوى في تنفيذ هجمات ذات تأثير إعلامي كبير. وتُحسَب هذه المتغيرات بدقة من جانب المحرضين على هذه الأعمال؛ لتوصيل الرسائل إلى السلطات العامة، وتشكيل الرأي العام من خلال القنوات الإعلامية.

ومن المثير للاهتمام أنه حتى قبل أن يعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن هذا الحادث، كان المراقبون ووسائل الإعلام الغربية يتكهنون بتورط الشيشان المحتمل، مما يثير الصراع بين روسيا والانفصاليين الشيشان منذ أكثر من 20 عامًا. ومع ذلك، فإن الشيشان، التي سارعت إلى إدانة هذا العمل من خلال رئيسها رمضان قديروف، تقف كواحدة من أقوى مؤيدي روسيا في الصراع العسكري في أوكرانيا. ما مصلحة هذا البلد أو الانفصاليين التابعين له في تنفيذ هذا العمل في ظل الظروف السياسية المذكورة أعلاه؟

ولم يتنفس الغرب الصعداء إلا بعد أن أعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن هذه العملية، ثم شرعت وسائل الإعلام الغربية الرئيسة في حملة لتسليط الضوء على ادعاء هذه الجماعة، معتمدةً على البيان الأولي الصادر عن هذه المنظمة الغامضة، الذي أشار إلى عملية تستهدف “المسيحيين”. وبدلًا من أن تنسب وسائل الإعلام الغربية الرئيسة ومحللوها هذا الفعل إلى تنظيم الدولة الإسلامية، ربطته بالانتقام من التدخل العسكري الروسي في سوريا منذ عام 2015. وقد أدى هذا التدخل إلى تفكيك الجماعات الإسلامية، ومنها جبهة النصرة، والدولة الإسلامية في سوريا والعراق.

بالإضافة إلى ذلك، ذهبت الدعاية الغربية إلى أبعد من ذلك، حيث اعتمدت على هذا الادعاء البسيط الذي أطلقته الجماعة الإسلامية لاستحضار ذكريات الحربين في أفغانستان والشيشان، حتى إنها أشارت إلى علاقات روسيا مع إيران، أو وجود فاغنر في إفريقيا. ولم تُطرح أي أسئلة أو تحليل فيما يتعلق بالخيوط المحتملة الأخرى، ولا سيما العملية التي نظمتها أجهزة المخابرات أو الجهات الفاعلة الأخرى التي يمكن أن تستفيد من هذه الجريمة.

لقد جاء تبني العملية من منظمة تسمى “الدولة الإسلامية في خراسان”، لم يكن وجودها معروفًا في الغرب حتى يوم تقديم هذا الادعاء. وهذا الإعلان المنسوب إلى هذا الكيان ليس بالقليل. خراسان هي منطقة شاسعة تمتد على كثير من البلدان ذات الأغلبية المسلمة: إيران، وأفغانستان، وتركمانستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، ويكشف عن نية لزعزعة استقرار هذه المنطقة من خلال الجماعات الإسلامية، التي يشجعها ويمولها رعاة، على غرار تنظيم القاعدة وداعش. ومن الممكن أن يؤدي انبعاث الإسلاميين في آسيا الوسطى، وخاصة في منطقة خراسان، إلى تسهيل زعزعة استقرارها، وتشكيل تهديد لأمن روسيا. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن حركة طالبان والجهاديين الأفغان (“المجاهدون”) تلقوا تمويلًا ومساعدة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، التي استخدمت أسامة بن لادن لتنظيم وتدريب جماعة “جهادية” تحولت فيما بعد إلى “القاعدة”.

عملية دبرتها أجهزة المخابرات الغربية

من المحتمل جدًّا أن تكون الأجهزة الأمريكية قد استخدمت فرعها المسلح، جماعة “الدولة الإسلامية”، من خلال تمويل تنظيم “الدولة الإسلامية في خراسان”، بهدف زعزعة استقرار روسيا من خلال عودة النشاط الإسلامي في آسيا الوسطى؛ ومن ثم فإن موسكو ستضطر إلى الرد على هذا الهجوم على غرار رد الفعل الأمريكي عقب تفجير مركز التجارة العالمي، مما سيؤدي إلى فتح جبهة جديدة، وإضعاف الوضع في أوكرانيا. وبالإضافة إلى ذلك، من المحتمل أن يؤدي هذا إلى زعزعة الاستقرار الداخلي في روسيا، مع تصاعد محتمل في الأنشطة الإرهابية، وهو ما يذكرنا بالحوادث التي وقعت في أوروبا، وخاصة في فرنسا، على مدى العقد الماضي. وقد أثر انتشار هذه الأفعال في الرأي العام في مجتمعات أوروبا الغربية، حيث ينظرون إلى المسلمين باعتبارهم العدو الوحيد الذي يهدد استقرارهم، إذ يُخلَط بين الإسلام والإسلام السياسي، الذي تتلاعب أجهزة الاستخبارات بمآثره لتحقيق أهدافها.

ويدرس المسؤولون الروس هذا الاحتمال ويسعون إلى تحديد الجناة الحقيقيين لهجوم 22 مارس (آذار) 2024. وقد تناول الرئيس بوتين هذا الأمر في خطابه إلى الأمة في اليوم التالي للمأساة، معلنًا اعتقال أربعة مهاجمين عبروا الحدود الأوكرانية، بتوجيه من رعاتهم. وبينما امتنع الرئيس بوتين عن اتهام السلطات الأوكرانية اتهامًا مباشرًا، لم يتمكن من التغاضي عن الأدلة التي تشير إلى تسهيل العملية، مع فرار الجناة إلى أوكرانيا. وفي 26 مارس (آذار) 2024، كشف ألكسندر بورتنيكوف، رئيس جهاز المخابرات الروسي (FSB)، أن الأجهزة الأوكرانية والغربية سهلت الهجوم، وظل حذرًا بشأن الكشف عن المحرض الحقيقي.

ومن المثير للاهتمام أنه قبل أيام قليلة من الهجوم، طالبت الخدمات القنصلية الأمريكية والبريطانية رعاياها بتوخي الحذر في روسيا، وتجنب الأماكن العامة. بالإضافة إلى ذلك، حذر الأمريكيون الجانب الروسي من هجوم إرهابي وشيك يعد له متطرفون. وفعالية الأجهزة الأمريكية والبريطانية تثير الشكوك في بلد لديه أجهزة أمنية واستخباراتية مماثلة لوكالة المخابرات المركزية، والمخابرات البريطانية، خاصة بالنظر إلى وجود عملاء روس متعددي اللغات في روسيا والدول المجاورة؛ ومن ثم، فمن المعقول أن تكون هذه العملية قد تمت بتكليف من الأجهزة الأمريكية و/أو البريطانية لتحقيق الأهداف المعلنة المبينة في التطورات السابقة، وكُشِفَ عن التواطؤ بين الأخيرة والأجهزة الأوكرانية مرتين خلال التحقيقات في الهجمات على داريا جوجينا، ابنة الفيلسوف ألكسندر دوجين عام 2022، واستهداف جسر القرم عام 2023.

تورط الموساد

قد تقودنا الأدلة السياقية والواقعية الإضافية إلى سيناريو آخر معقول بالقدر نفسه: تورط الموساد الإسرائيلي. يتعاون الموساد على نطاق عريض مع الأجهزة الأوكرانية، وكذلك مع نظرائه الأمريكيين والبريطانيين؛ ومن ثم فمن المحتمل أنه تم إبلاغ الأفراد من قبل الموساد عن عملية إرهابية مخططة، وهذا من شأنه أن يفسر النصيحة التي تقدمها الخدمة القنصلية بالسفارة الأمريكية في موسكو للمواطنين الأمريكيين، لحثهم على تجنب التجمعات العامة. كما أنه من المعقول تمامًا أن تكون الأجهزة الأمريكية قد أشركت الموساد في تنسيق هذه العملية، مستفيدة من العلاقات المتوترة بين إسرائيل وموسكو.

بالإضافة إلى ذلك، اعترف أحد الجناة، شمس الدين فريدوني، عفويًّا في أثناء استجواب القوات الروسية له، بتجنيده من خلال وسائل التواصل الاجتماعي (تليغرام)، وكيف عُوِّضَ وغيره من المتآمرين عن العمل الإجرامي. يتوافق تكتيك التجنيد هذا مع ممارسات الموساد: استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لاستهداف الأفراد بناءً على ملفاتهم الشخصية، ونقاط ضعفهم، وميولهم الأيديولوجية، وظروفهم المالية، وما إلى ذلك.

وهناك عامل مثير للقلق آخر يثير تساؤلات عن تورط الموساد، وهو أن التحقيق كشف أن اثنين من المهاجمين الأحد عشر الذين قُبِض عليهم حتى الآن قاموا برحلة قصيرة وسرية إلى تركيا. وجاءت هذه الرحلة في ظروف تشبه- إلى حد كبير- تلك التي أحاطت بإصدار تأشيرة إلكترونية لمحمد فايزوف في مطار موسكو، حيث كان الأفراد ينتظرونه عند وصول طائرته. وفور علمها بهذا الكشف، بدأت السلطات التركية تحقيقًا في الأمر. وفي وقت لاحق، اعتقلت تركيا عملاء إضافيين للموساد. وقبل ذلك، كانت السلطات التركية قد اعتقلت بالفعل سبعة أشخاص يشتبه في انتمائهم إلى جهاز المخابرات الإسرائيلي هذا.

أوجه التشابه بين الهجمات في إيران وروسيا

تتطابق طريقة عمل هجوم 22 مارس (آذار) 2024 مع الهجوم الذي وقع في 3 يناير (كانون الثاني) من العام نفسه في مدينة كرمان الإيرانية، وأدى إلى العدد نفسه من القتلى والجرحى. وقد أعلنت على الفور مسؤوليتها عن هذا العمل المجموعة نفسها التي تبنت هجوم موسكو، “الدولة الإسلامية في خراسان”، في هذه المنطقة الجنوبية من إيران، حيث يعيش الشيعة الفارسيون مع السنة، وبعضهم يتحدثون العربية.

وكما هي الحال مع روسيا، تدخلت إيران في سوريا- بناء على طلب الحكومة السورية- للمساعدة في صراعها ضد زعزعة الاستقرار الناجم عن الحركات المدعومة من الخارج، وخاصة جبهة النصرة (فرع تنظيم القاعدة في سوريا)، وتنظيم الدولة الإسلامية. من المرجح أن إعلان تنظيم “الدولة الإسلامية” مسؤوليته عن هجوم 3 يناير (كانون الثاني) 2024 في إيران كان يهدف إلى زرع الفتنة بين الجمهور الإيراني، وإثارة التوترات العرقية بين العرب السنة والفرس ذوي الأغلبية الشيعية في جنوب إيران، لكن هذه الإستراتيجية كان مصيرها الفشل، خاصة أن التحقيق كشف أن العملية كانت من تدبير وكالة المخابرات المركزية والموساد. ردًا على ذلك، شنت إيران ضربات صاروخية في 15 يناير (كانون الثاني) 2024، استهدفت مواقع عناصر من هاتين الوكالتين في سوريا والعراق، لا سيما في أربيل في كردستان العراق، حيث يقع المقر الإقليمي للموساد الإسرائيلي، فضلًا عن معاقله التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، التي تستخدمها الأجهزة الأمريكية والإسرائيلية لتنفيذ أنشطة إرهابية. كما شنت القوات المسلحة الإيرانية ضربات ضد مواقع جماعة جيش العدل، وهي جماعة انفصالية إسلامية مثل تنظيم القاعدة، ترعاها الولايات المتحدة في باكستان. ودفع فشل إستراتيجية إيران لزعزعة الاستقرار الداخلي الإسرائيليين إلى اللجوء إلى ضربات إرهابية مباشرة، ومنها اغتيال شخصيات إيرانية، مثل تلك التي استهدفت المبنى القنصلي للسفارة الإيرانية في دمشق.

على أي حال، يظل تورط تنظيم “الدولة الإسلامية”، أو “الدولة الإسلامية في خراسان”، باعتباره العقل المدبر لهذا العمل، أمرًا مستبعدًا، على الرغم من إعلانه مسؤوليته رسميًّا، كما فعل في 3 يناير (كانون الثاني) 2024، في هجوم كرمان بإيران. تفتقر هذه المجموعة، التي يقع مقرها الرئيس في أفغانستان، إلى البصيرة الإستراتيجية، والتوقيت اللازم لتنفيذ هذه العملية بدقة، والتحايل على النظام الأمني الصارم في (Crocus City Hall) بموسكو. وبالإضافة إلى ذلك، ووفقًا لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، فإن الموارد المالية التي خُصصت لهذه العملية تتجاوز تلك المخصصة لتنظيم “الدولة الإسلامية في خراسان”. وبالإضافة إلى ذلك، تعد طرق الدفع وشراء تذاكر الطائرة لجميع المعتدين الذين قُبِض عليهم حتى الآن معقدة. وتتفوق هذه الأساليب المتطورة، التي تشمل مصادر الدفع في أوكرانيا، على القدرات الإدارية لتنظيم “الدولة الإسلامية في خراسان” في مثل هذه العمليات المالية، وخاصة باستخدام مدفوعات البيتكوين.

ما مصلحة تنظيم “الدولة الإسلامية” في السعي إلى الانتقام من التدخل الروسي في سوريا بعد مرور ما يقرب من عشر سنوات على ذلك التدخل؟ أو في هذا الصدد، بارتكاب هجوم كرمان في إيران  في 3 يناير (كانون الثاني) 2024، في حين يواجه عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وقسم كبير منهم من المسلمين السنة، إبادة جماعية دون أن يتلقوا أي مساعدة من إخوانهم المسلمين في الدين؟

سوف تخرج روسيا منتصرة

لقد أظهر السياسيون والجمهور الروس الواقعية والعمق والموضوعية في استجابتهم لأحداث 22 مارس (آذار) 2024. ويتناقض هذا- على نحو صارخ- مع الغربيين الذين يميلون، تحت تأثير وسائل الإعلام، إلى الاستجابة بالإثارة وردود الفعل البدائية على أعمال الإرهاب. ولكن من المؤسف أن الغربيين اعتمدوا- على نحو سلبي- على وسائل الإعلام الخاصة بهم، وكثيرًا ما استسلموا للدعاية الرسمية، وخطاب العالم الحر السابق، الذي أصبح الآن ملوثًا بشمولية التفكير الضيق الأفق.

وخلافًا للغربيين، الذين اعتادوا الثقة بوسائل الإعلام الحرة والموضوعية، فإن الروس تساورهم الشكوك بشأن نفوذ وسائل الإعلام منذ العصر السوفيتي. إنهم يحتفظون بهذا الشك ويبحثون بنشاط عن الحقيقة، ويحللون المواقف بموضوعية وذكاء لكشف الجوانب المخفية. ويساعدهم هذا النهج على مقاومة المعلومات المضللة، مما يسمح لهم بالتفكير في الأمور تفكيرًا شاملًا، خاصة عندما تؤثر في المصالح الأوسع للدولة؛ ومن ثم تجنبوا الوقوع في فخ الدعاية الغربية، التي تروج لها الولايات المتحدة في المقام الأول، والتي تسعى إلى السيطرة على الرأي العام، والتلاعب بالسلطة السياسية.

ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك الهجمات الإرهابية المتكررة في فرنسا منذ عام 2012، التي كانت تهدف إلى زرع شعور واسع النطاق بالخطر، أو بوجود عدو وهمي. إن تكتيك التحويل هذا يصرف الانتباه عن التهديدات الحقيقية والأعداء الحقيقيين للأمة. وكما قال دانييل ج. بورستين: “إن العدو الأكبر للمعرفة ليس الجهل؛ بل وهم المعرفة”. وهدف هجوم 22 مارس (آذار) 2024 إلى زعزعة استقرار البلاد داخليًّا بسبب سكانها المسلمين، وإنشاء جبهة جديدة تضع روسيا في مواجهة دول آسيا الوسطى لإضعاف عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وتقويض العلاقات مع الدول الإسلامية، ومنها الدول العربية، وعرقلة مشاركتها في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بعد الجهود الدبلوماسية التي بدأت منذ فبراير (شباط) 2024؛ ومن ثم فإن هناك قلقًا من أن تواجه روسيا سلسلة من الأعمال الإرهابية المنسوبة إلى منظمات أو أفراد من الديانة الإسلامية لإثارة الرأي العام وتشتيته؛ لذا تهدف السلطات الروسية إلى الكشف عن العقول المدبرة الحقيقية وراء الهجوم، وفرض عقوبات صارمة على مرتكبيه. وقد أدان الرئيس بوتين العملية الإرهابية، وشبهها بالفظائع النازية، وحذر من استخدام الأحداث المأساوية للتحريض على الكراهية الوطنية، أو كراهية الأجانب، أو كراهية الإسلام، وحث الروس على عدم الوقوع في الفخ الذي نصبه لهم أعداؤهم الحقيقيون الذين يسعون إلى زعزعة استقرار روسيا داخليًّا، وإضعافها خارجيًّا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع