تنتمي رواية “مياه الربيع” إلى مجموعة من الروايات المعبرة عن شاعرية إيفان تورغينيف وبلاغته الأدبية، وما يفيض في تصويره الروائي من نثر رفيع المستوى لوصف مظاهر الطبيعة، وطبائع البشر، وعلاقات الحب، حتى إن تولستوي امتدح مهارة تورغينيف في كتابتها بقوله: “إنها جواهر حقيقية، بعيدة المنال عن أي كاتب آخر”.
صدرَت هذه الرواية عام 1872 مع أواخر عمر تورغينيف، واستلهمها من حياته الشخصية بدرجة كبيرة. كما تتضمن في ثناياها كثيرًا من أفكاره الرئيسة التي لا يتوقف عن طرحها في معظم كتاباته، التي تدور عامةً حول الأرستقراطية الروسية، ولا سيما خارج الوطن، وتتكرر فيها فكرته عن الرجل الزائد على الحد العاجز عن التأثير والفعل، وتتوالى فيها تحفظات تورغينيف -رغم انتمائه إلى الأرستقراطيين- على ما ترفل فيه هذ الطبقة من استغراق تام في حياة ناعمة مرفهة لا تضيف شيئًا إلى الإنسانية، وكذلك مفهومه عن تضارب المشاعر الإنسانية، والاختلاف الجوهري بين الحب الطاهر والانجذاب الحسي، مع ذكره بلا مواربة لموقفه الواضح المناهض للقنانة واستعباد الفلاح، لكن الرواية تبتعد بالجملة عن إثارة الجدل السياسي، وهو ما أكده تورغينيف طوال الوقت.
رغم اعتراض الكثيرين على ما تتضمنه أعماله الأخرى من محتوى أيديولوجي يتفحص الأحوال الاجتماعية والسياسية بنظرة ثاقبة، فإن رؤية البعض الآخر تذهب لاعتبار أن أعمال تورغينيف تركز على معالجة قضايا عالمية ذات أبعاد إنسانية ونفسية تتجاوز إطارها الزماني والمكاني. رواية “مياه الربيع” خير دليل يدعم وجهة نظر أصحاب هذا التيار.
تبدأ أحداث الرواية مع ما يعانيه الخمسيني دميتري سانين من ضجر وخواء رغم ما تضجُ به حياته من المباهج والملذات والصحبة. يعثر بين أوراقه على وردة ذابلة وصليب من العقيق ليتذكر ما وقع في مقتبل شبابه عام 1940 في أثناء زيارته لمدينة فرانكفورت الألمانية؛ إذ يعرج بلا تخطيط على متجر حلوى لتفاجئه فتاة إيطالية حسناء تستنجد به لإفاقة أخيها الذي تعرَّضَ للإغماء، نعرف أن الفتاة تُدعَى جيما. ولإظهار الامتنان تجاه مساعدة سانين تطلب منه جيما الحضور لاحقًا لتناول كوب من الشوكولاتة، ليعود ويتعرف إلى أمها ليونورا وأخيها إميليو، وهم إيطاليون يديرون هذا المتجر الذي ورثوه عن الأب الراحل روزيللي المناصر للجمهوريين، ويعيش معهم بانتاليون، وهو مطرب أوبرالي سابق يساعدهم في إدارة المتجر حاليًّا.
ينجذب سانين انجذابًا واضحًا نحو جيما من أول لحظة حتى إنه ينسى الوقت، ويتأخر على موعد رحيله عن فرانكفورت، وبناءً على طلبهم يقرر أن يبقى بعض الوقت، ولكنه يصاب بخيبة أمل عند علمه بأن جيما مخطوبة لرجل ألماني متعجرف يدعي كلوبر، يقابله في اليوم التالي ليدعوه لقضاء نزهة برفقتهم إلى سودن.
ولكن تحدث هناك واقعة مؤسفة في المطعم، إذ تتعرض جيما لمضايقة لفظية من أحد الضباط الألمان السكارى، ورغم صمت كلوبر فإن سانين تأخذه الحماسة والغيرة، ويتحدى هذا الضابط ويعرض عليه المبارزة ردًّا على وقاحته، ويحتفظ بسرية الأمر، لكن جيما تعلم بذلك من أخيها. يثير هذا الموقف الشهم احترام بانتاليون الذي يشهد المبارزة وتسوية الموقف، وعلى جانب آخر تأكل الغيرة قلب كلوبر ويعترض على تدخل سانين.
مع العودة إلى فرانكفورت تُطلِعه ليونورا على اعتزام جيما فسخ خطبتها من كلوبر لامتعاضها من ميوعة موقفه، تلتمس ليونورا مساعدة سانين في إقناع جيما بالعدول عن موقفها؛ حفاظًا على سمعتها من جانب، ولخشيتها من فقد الإمكانات المادية التي يوفرها اقتران ابنتها برجل موسر مثل كلوبر من جانب آخر. في تلك المحاولة تَعِدُه جيما بإعادة النظر في قرارها، ويرتبك سانين ليعود إلى غرفته ويكتب إليها رسالةً يعترف فيها بحبه لها. يبعث الرسالة مع إميليو، وفي المساء تصل إليه رسالة من جيما تطلب مقابلته صباح اليوم التالي في الحديقة؛ ومن ثم يتبادلان الاعتراف بالحب، ويقرر سانين التقدم لطلب يدها. تمتعض الأم ليونورا من هذا التحول، ولا يتغير موقفها إلا مع تأكدها من يسر حال سانين، فيتبدل موقفها إلى حد عدم اعتراضها على تَحَوُّل ابنتها من الكاثوليكية إلى الأرثوذكسية، بل تُظهِر ترحيبها بذلك.
يجد سانين نفسه مضطرًا إلى بيع ضيعته للحصول على الأموال اللازمة للزواج، ويبدي تحفظه على فكرة بيع الأقنان، وبالمصادفة يقابل صديق الدراسة القديم بولوزوف، الذي أتى إلى فرانكفورت لشراء احتياجات زوجته الثرية ماريا نيكولايفنا، فيفكر سانين في بيع الضيعة لها بدلًا من الرجوع إلى روسيا. ولأن بولوزوف لا يتدخل في شئونها المالية؛ يذهب معه سانين إلى فيسبادن لاقتراح الأمر عليها.
تتصاعد الأحداث مع وصولهما، حيث يتعرف سانين إلى ماريا نيكولايفنا ذات الجمال الفتان المغري، التي تعلمُ تاليًّا بأمر خطبته ومسألة بيع الضيعة، وتعترف أيضًا بأصولها الريفية وحماستها لشراء الضيعة، ولكنها تطلب من سانين البقاء في ضيافتها حتى تتدبر الأمر. ورغم ما يبدو على سانين من تردد مبدئي فإنه يوافق ويتورط أكثر في انجذابه الحسي نحو ماريا نيكولايفنا التي تتراهن مع زوجها على قدرتها على إيقاع سانين في شباكها.
تبدأ ماريا في التودد إلى سانين، وتدعوه لحضور عرض مسرحي، وتُعَبِّرُ في أثناء ذلك عن حبها للحرية أكثر من أي شيء آخر، كما أن زواجها ببولوزوف يتمتع بالحرية التامة، وتدعوه إلى ركوب الخيل في اليوم التالي والتنعم بمناظر الطبيعة قبل رحيله إلى فرانكفورت، وفي أثناء تلك الدعوة توقع به في فخها في أحد الأكواخ.
يساور سانين الشعور بالندم، كما يعرف مسألة الرهان، ولكنه يتمادى في انسياقه، وبدلًا من العودة إلى فرانكفورت، يذهب برفقتهما إلى باريس، إذ قرر أن يتبع ماريا نيكولايفنا أينما ذهبَت.
تعود الأحداث من جديد إلى سانين في كهولته وهو يتأمل صليب جيما، ويتذكر أيما إذلال ذاقه على يد ماريا، وأيما ندم يعيشه لفقدان جيما، وكيف مضت به الحياة حتى بلغ ما بلغه من رتابة وسأم، إذ ظل وحيدًا لم يتزوج.
يتخذ قرار العودة إلى فرانكفورت بعد العثور على متعلقات جيما؛ طمعًا في البحث عن طيفها، واستقصاء أثرها. يعرف أنها تزوجَت وتعيش في نيويورك، وبعد الحصول على عنوانها يراسلها طلبًا للصفح منها، ورجاء الخير لها. تكتب له من نيويورك لتخبره بعفوها عنه، وأنها أم لخمسة أبناء، وأن ابنتها على وشك الزواج. يرسل سانين الصليب هديةً للابنة، ويخطط للذهاب إلى نيويورك.
كعادة تورغينيف في انتقاده للأرستوقراطية الروسية، لا يتوقف عن رسم شخصية الرجل الزائد على الحاجة، وفي “مياه الربيع” يرسمه رسمًا مختلفًا؛ فهنا نرى دميتري سانين شخصية متقلبة المشاعر، رغم كل ما يظهر عليه من الأناقة والغطرسة، لكن شخصيته الحقيقية ليست متسقة، ولا تقدر على اتخاذ أي قرار سليم. ينجذب إلى الحب الطاهر تارةً، ويندفع نحو الشهوانية تارةً أخرى، وفي كلتا الحالتين لا تلوح عليه أي بادرة للتفكير المتأني، سواء في إعجابه بجيما الحسناء الرقيقة المهذبة، أو انسياقه إلى المرأة اللعوب المغوية ماريا نيكولايفنا. في جميع المواقف لا يحكمه سوى الانفعال والتسرع، دون حساب للتبعات والعواقب. تتغير مسارات حياته دون تخطيط أو دراسة. يتصرف أحيانًا كمراهق ساذج يحركه اهتياج عارم أقوى منه، مثلما فعلَ في طلب مبارزة الضابط الألماني. يرضخ على الدوام لما تُمليه عليه رغباته الحاضرة في اللحظة الآنية، ولا تبدر منه أي محاولة لمعارضة طلبات الآخرين؛ فبالسهولة نفسها التي قَبِلَ بها عرض أسرة ماريا للبقاء معهم في فرانكفورت، قَبِلَ أيضًا عرض ماريا نيكولايفنا! لم تكن لديه النية لخيانة ماريا، ولكنه أذعنَ لتلاعب ماريا دون مقاومة تُذكَر.. لا يحسم أي موقف قط!
لا يبدو غريبًا أن يلاقي كل ذلك الهوان على يد امرأة لعوب اتخذته رهانًا لها، ولا يملك القارئ إلا أن يشعر بالرثاء نحوه في نهاية الرواية؛ تعاطفُا مع مأساته رغم أنه المتسبب الأول فيما حَلَّ عليه.
وهنا نلمح نقطة حيوية ومفتاحية: ما نحصده في أواخر العمر هو ما زرعناه في مقتبله، ضياع الحب الحقيقي يعقبه الندم والحسرة بلا طائل، حياة سانين الخاوية الفارغة التي ينهشها الوجع والرثاء للذات تقابلها حياة جيما المتحققة الحافلة بالهدوء والاستقرار. يطرح تورغينيف ذلك ببساطة شديدة رغم عمق المشاعر على الأصعدة كافة، وبدون لغة الوعظ والإرشاد المباشرة، إذ يترك القارئ ليتوصل إلى هذا الاستنتاج بنفسه.
على الجانب المقابل لا تتوقف دهشة القارئ من النماذج النسوية في أعمال تورغينيف؛ فمثل الفتيات الطيبات من قبيل ليزا في “عش النبلاء”، وكاتيا وفينتشكا في “الآباء والبنون”، تأتي جيما في “مياه الربيع” -ومعنى اسمها بالإيطالية “جوهرة”- نموذجًا آخر لتجسيد الطهر والنقاء والتعقل، في تناقض صارخ مع ما تنضح به ماريا نيكولايفنا من جموح وطيش واستهتار لتصوير شخصية المرأة الفاتنة اللعوب، التي تمضي إلى أبعد مدى في فهمها للحرية، وإرضاء الرغبات، وإشباع الملذات، مثل فارفارا بافلوفنا في “عش النبلاء”، وإن اختلفَت الأحداث والسياقات.
مع أن تورغينيف اعتزم في البداية أن يكتب “مياه الربيع” كقصة قصيرة، فإنه طَوَّلَها وحَوَّلَها إلى رواية، بدأ في كتابتها بين عامي 1870 و1871، ونُشِرَت في العام التالي.
كما يقرُّ تورغينيف أن مادة “مياه الربيع” مستمدة من بواكير شبابه، إذ يذكر صراحةً أن كل ما وردَ بها هو الحقيقة، وقد اختبرها بنفسه، وشعرَ بها، فهي تاريخه الشخصي في أثناء جولته بألمانيا في بداية أربعينيات القرن التاسع عشر.
ماريا نيكولايفنا هي تجسيد لأميرة كان يعرفها أوثق المعرفة؛ لأنها أثارَت الاهتمام في باريس كلها في زمانها، ولا تزال ذكراها حاضرة لا تُنسَى. عاش بانتاليون في بيتها وقد جمع بين وظيفتي الخادم وصديق العائلة. كما أن العائلة الإيطالية مستوحاة من الواقع. أجرَى تورغينيف بعض التعديلات على مجمل التفاصيل؛ لأنه لا يقدم صورة فوتوغرافية، مثل تحويله لشخصية الأميرة ذات الأصول الغجرية إلى سيدة روسية أرستقراطية من أصول ريفية، وجعلَ بانتاليون يعيش مع الأسرة الإيطالية. ومثله مثل سانين، فقد التقى فتاة حسناء مبهرة الجمال في أحد متاجر الحلوى في فرانكفورت لدى عودته من إيطاليا، وطلبَت منه الفتاة مساعدتها لنجدة أخيها الذي فقدَ الوعي، ولكنه على عكس سانين، لم يبقَ في فرانكفورت كثيرًا، وقاوم انجذابه نحو الفتاة، ورحلَ مسرعًا إلى الوطن.
الأمر الواضح في الرواية التي كتبها تورغينيف في أواخر عمره هو الشعور بالندم على ضياع حب الشباب، وتَبَدُّد آمال تحقيق السعادة الحقة. هل انتابَت تورغينيف حالة الأسف على ضياع عمره دون حب حقيقي واستقرار عائلي، رغم قصة عشقه العاصفة مع بولين فياردوت التي ظل مرتبطًا بها ويتابعها أينما حَلَّت حتى نهاية حياته؟ تبقى جميع الاحتمالات قائمة ولا يمكن نفيها، ولكن ما لا يغيب عن القارئ هو صدق الشعور الإنساني المتجسد بين سطورها، رغم التضارب، رغم الاندفاع، رغم الانسياق، رغم الميوعة، رغم البراءة، رغم النشوة، رغم الخداع، رغم الامتهان، رغم الندم!
تتشكل الحياة في الواقع من كل ذلك مجتمِعًا في بوتقة واحدة، وإن اختلفَت التفاصيل المكانية والزمانية على نحو يصعب إنكاره.
جاء عن الأديب الروسي ميخائيل سالتيكوف شيدرين قوله: “تمتَّعَ تورغينيف بثقافة رفيعة، وتتأصل أعماله ثابتةً في المثل الإنسانية العليا، كما أسدى إلى شعبه خدمة عظيمة وجليلة القيمة بترويج هذه المثل العليا في الحياة الروسية برسوخ متأنٍ. ومن هذه الناحية هو خليفة بوشكين، ولا يضارعه أحد آخر في الأدب الروسي، وإن كان يسوغ لبوشكين أن يقول عن نفسه إنه ألهم المشاعر الطيبة، فلدى تورغينيف الحق على قدم المساواة في قول الأمر عينه عن نفسه. لا يوجد في هذه المشاعر الطيبة أي شيء تقليدي، كما أنها لا ترتبط بأي بدع عابرة؛ بل هي مشاعر بسيطة وعالمية تقوم على الإيمان بانتصار النور والخير والجمال الأخلاقي”.
هذا الاقتباس نطالعه على غلاف طبعة نادرة مترجمَة إلى الإنجليزية أصدرَتها دار رادوغا السوفيتية، وتضم ثلاث نوفيلات عن الحب لتورغينيف، هي: آسيا، والحب الأول، ومياه الربيع، من ترجمة آيفي وتاتيانا ليتفينوف.
أما مقدمة هذا الإصدار التي كتبها أرتور تولستياكوف، فهي جديرة بقراءة متمهلة لما تتضمنه من مفاتيح جوهرية. يشير تولستياكوف إلى أن تورغينيف استحق الشهرة التي اكتسبها لما تحفل به كتابته النثرية من روح شعرية واهتمام بجمال الأسلوب، بل اعتبر تورغينيف أستاذًا للتحليل النفسي؛ لأن الاهتمام يتركز في كثير من أعماله على القضايا النفسية ذات الطبيعة الفردية والأخلاقية، كما نعاين في كتاباته وحدة متوازنة بين الجوهر الشعري والإشكاليات الاجتماعية.
يرى تولستياكوف أن تورغينيف يتناول علاقات الحب كإحدى قوى الحياة الأساسية وأهم ألغازها؛ الحب كشعور تراجيدي. وأمام هذه القوى يجد المرء نفسه عاجزًا عن المواجهة؛ لأن الحب يوجه ضربة قوية إليه، يثير العواطف، يفعم الحياة بالشعر، لتجيء الخاتمة المأساوية في نهاية المطاف.
وبموجب ذلك يترجم تورغينيف خبراته الشخصية في كتاباته الأدبية بما يملكه من حس شعري، ومن ثم تُشَكِّلُ هذه الخبرات أحد العوامل المُحَدِّدَة في كتاباته، ومن ضمن هذه العوامل قصة غرامه العجيبة مع بولين فياردوت، التي ظل يتبع خطاها حتى نهاية عمره.
ولا ريب أن هذه الروايات العاطفية هي الأقرب إلى قلب تورغينيف لسبب بسيط؛ هو أنها تسرد وقائع تركَت أثرها في حياته. قد لا يمكن اعتبارها أعظم أعماله، ولكنها جزء من روحه لما تفيض به من نثر مُعَبِّر رفيع المستوى يجعل منها تحفًا استثنائية في الأدب الروسي.
كما أنها تعكس أفضل ما لدى تورغينيف من موهبة أدبية، ويستعصي على أحد أن يقرأها دون أن يتأثر، ربما هي أول ما يبدأ به القراء لمطالعة عالم تورغينيف ليكتشفوا عالمًا فريدًا من الشعور الإنساني. ومع أن أحداثها وقعَت منذ أمد طويل، فإن القارئ المعاصر يراوده الإحساس بأنه يتشارك فيها لما تحشده من إنسانية صادقة رغم تناقضاتها؛ ولذا فهي لا تخفق في لمس الأوتار الحساسة في النفوس.
من جراء ذلك كتبَ جوستاف فلوبير إلى تورغينيف بعد مطالعته “مياه الربيع” معربًا عن مدى التأثر الذي أصابه إلى حد أنه ذرفَ الدمع؛ لأن هذا الأمر -بكل أسف- يحدث لنا أجمعين، ويجعلنا نطأطئ الرأس ويعترينا الخجل. امتدح فلوبير الوصف المبهج والبديع لمتجر الحلوى، والسير في الحديقة في الصباح الباكر، والنهاية الفاجعة وذلك التباين العميق بين شخصيتي جيما وماريا نيكولايفنا، ولا يجد كلمةً تصف ذلك التباين إلا بأنه ساحر؛ ففي رأيه أن تورغينيف يعرف الكثير عن الحياة، والأهم أنه يعرف كيفية توصيل ذلك.
مع أن القصة مستمدة من الواقعة الحقيقية التي حدثَت مع تورغينيف، والتي أشرنا إليها من قبل، فإنها قد تبدو لأول وهلة ساذجة كقصص حب المراهقة، لكن ذلك لا ينكر صدق شعورها، فهي تتعرض للقتل في مهدها. عند مقارنة الحالة النفسية التي نلاحظها على شخصية سانين يتضح لنا ما قصده تورغينيف، فما أبعد الفارق بين الخطاب الأول الذي تلقاه سانين من ليزا لتقابله في الحديقة في الصباح الباكر وما تبعَ ذلك من الإفصاح عن المشاعر الصادقة، والخطاب الأخير الذي رسمَ حياتها العائلية الهانئة السعيدة.
في سعي سانين نحو السعادة انجرفَ وضلَّ وضاعَت بوصلته الأخلاقية؛ إغواء الحرية التامة الذي أسكرته به ماريا نيكولايفنا التي دمَّرَت حياته، واستهلكَت عواطفه بأنانيتها ونزقها وتسلطها انتهى به إلى ذل مقيت وخواء رهيب وهو يرى أفضل أيام حياته تتسربُ من بين يديه بحثًا عن سراب، فقط بسبب ضعف شخصيته، وانعدام قدرته على الحسم، وفي حسرته يستدعي ذكرى جيما التي لم يُثَمِّن قيمتها الحقيقية إلا بعد فوات الأوان.
نفهم من هذه الرواية أن مستقبل المرء مرهون بلحظته الحاضرة، واختياراته الفعلية، وما ينجم عن لحظات الضعف الإنساني من تبعات فادحة، ربما يتعذر إصلاحها في وقت متأخر من العمر.
ومن هذا المنطلق يمكن لقارئ العصر الحديث أن يدرك المفهوم الإنساني الذي يطرحه تورغينيف متجاوزًا عصره، بل محنته وحيرته وأوجاعه، هذا المفهوم الذي يعقد آصرةً قويةً بين الاختيارات وعواقبها، وفي موضوعية متجردة عن الأهواء لا يغض البصر عن ذلك.
وفقًا للناقد الراديكالي ألكسندر دروجينين، يُعَدُّ تورغينيف فنانًا خالصًا لا تشوبه أي شائبة من التوجهات الأيديولوجية أو السياسية أو الاجتماعية؛ لأنه فنان حالم يجمع بين الواقعية والمثالية، وتتآلف الموضوعية والشاعرية في أعماله في وقت واحد.
أما هنري جيمس فيرى أن كتابات تورغينيف هي المفضلة لدى محبي الذائقة الرفيعة، فلا يوجد أفضل منها للارتقاء بالذائقة.
لعل العبارات الأخيرة في ختام الرواية هي خير برهان على ذلك، إذ نقرأ في الترجمة العربية للراحل سامي الدروبي:
“قالت جيما في ختام رسالتها إنه ليؤسفها حقًا أن حياة سانين لم تكن سعيدة، وإنها تتمنى له طمأنينة الروح قبل كل شيء، وأضافَت إلى ذلك أنه سيسعدها أن تراه، وإن كان الأمل في هذا اللقاء ضعيفًا. يستحيل على المرء أن يُعَبِّرَ عما شعرَ به سانين وهو يقرأ الرسالة؛ ذلك أن العواطف التي أحَسَّ بها أعمق وأقوى وأغمض من أن يفصح عنها الكلام. إن الموسيقى وحدها تستطيع أن تُعَبِّرَ عن العواطف. أسرعَ سانين يجيب رسالة جيما، وأرسل إلى ماريانا هديةً (من صديق مجهول) بمناسبة زفافها؛ هي الصليب الصغير الذي من العقيق بعد أن زينه بلآلئ ثمينة”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.