تتجه الأنظار، اليوم الأربعاء 23 يوليو (تموز) 2025، إلى إسطنبول انتظارًا لانطلاق الجولة الثالثة من المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، غير أن المؤشرات لا تبشر باختراق قد ينتج عنها بسبب مواقف الطرفين، فالعاصمتان -أي موسكو وكييف- من واقع قراءتي الموضوعية للغة خطابهما، تتعاملان مع هذه الجولة بوصفها أداة ضمن صراع متعدد الأوجه، وليس منصة لحل سياسي فعلي، وأحتكم في هذا الاستنتاج الاستباقي للمقال إلى التصريحات الرسمية للكرملين، والموقف الأوكراني غير المعلن رسميًّا، لكن المفهوم ضمنًا لأي مراقب أمين ينظر بعين محايدة.
تصريحات بيسكوف، ومواقف مكتب زيلينسكي، تؤكد أن ما يطرح على الطاولة لا يتعدى كونه اشتباكًا دبلوماسيًّا محسوبًا، يدار بالتوازي مع المعارك الميدانية، وليس -بأي حال- بديلًا عنها.
في 21 يوليو (تموز) 2025، صرح دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين أن “الجانبين تبادلا وثيقتين تفاوضيتن في الجولة السابقة”، لكن مضمونهما “متضاد تمامًا”، ما يكشف -بوضوح- عن عمق التنافر في الرؤيتين السياسيتين للسلام أو الحل المفترض.
الوثيقة الروسية، التي قرأت بنودها بندًا بندًا، وبعناية شديدة، تنطلق -في رأيي- من تثبيت الواقع الذي فرضته العمليات العسكرية منذ لحظة انطلاقها فجر 24 فبراير (شباط) 2022، وتطالب بضمانات حياد أوكرانيا، أي لا انضمام إلى الناتو أبدًا، وعدم السماح -بحال- بوجود قواعد عسكرية غربية على أراضيها، فضلًا عن الاعتراف بالسيادة الروسية على الأقاليم الأربعة التي ضمتها من أوكرانيا، وإن بحكم الواقع فقط.
أما الوثيقة الأوكرانية فتعكس -في رأيي كذلك- رؤية صفرية؛ لأنها تطالب بوقف شامل لإطلاق النار، وانسحاب روسي كامل، وضمانات أمنية دولية ملزمة، وهذه مطالب تبدو خيالية إذا تعاملنا مع الواقع القائم على الأرض بموضوعية.
الفجوة بين الورقتين لا تتيح مجالًا فعليًّا للتقاطع؛ ما يجعل الجولة المرتقبة محصورة -من وجهة نظري- في ملفات فنية وإنسانية، كالمساعدات وتبادل الأسرى والقتلى، لكن دون أي تقدم في الملفات الجوهرية، وأعتقد أن موسكو لا تدخل هذه الجولة مدفوعة بحسابات سياسية جديدة؛ بل برؤية إستراتيجية ثابتة ترى في التفاوض أداة ضغط إضافية.
فالمفاوضات ليست انعكاسًا لتحول في موازين القوى؛ بل وسيلة لتعزيز موقفها السياسي في العواصم التي ما زالت تبدي ترددًا في التصعيد ضد روسيا، مثل أنقرة، وبعض العواصم الأوروبية، التي رغم تصريحاتها الإعلامية النارية، فإنها -كما يقال بالعامية المصرية- “تقدم رِجل وتؤخر رجل”، مثل باريس، وبرلين على نحو غير مباشر.
فضلًا عن ذلك، على المستوى الداخلي، تمنح هذه الجولة الكرملين فرصة ممتازة لإظهار مرونة شكلية تسهم في استيعاب أي ضغط إجتماعي أو اقتصادي داخلي، في وقت تخوض فيه روسيا حربًا طويلة الأمد، دون أفق زمني واضح؛ لذلك فإن الموافقة على التفاوض، والذهاب إلى إسطنبول، وأنت تعرف أنك لن تعود بنتائج جوهرية، لا يمثلان نية في التسوية، بل وسيلة لإدارة مكاسب الحرب وتثبيتها تحت غطاء دبلوماسي.
أما فيما يتعلق بكييف، فتعكس العودة إلى طاولة الحوار مع موسكو -في رأيي- مأزقًا مزدوجًا؛ فمن ناحية، تراجع الدعم الغربي مع تغير الأولويات الأمريكية بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض، وكلنا نقرأ ونسمع ونشاهد ذلك يوميًّا بلا مبالغة. ومن ناحية أخرى، تتصاعد الضغوط الداخلية على زيلينسكي وفريقه بسبب الاستنزاف العسكري، والأهم البشري، وفي هذا السياق لا تملك أوكرانيا ترف تجاهل المبادرة الروسية بالحوار، لكن زيلينسكي غير مستعد -في الوقت نفسه- لأي تنازل سيادي، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات في بعض الدول التي تدعمه.
تسعي كييف إلى استخدام طاولة إسطنبول كورقة علاقات عامة لا أكثر، تثبت من خلالها للمجتمع الدولي أنها لا ترفض الحوار، لكنها تصر على شروط “عادلة”. وهذا النوع من التفاوض الرمزي -كما تعلمنا الأدبيات السياسية وأدبيات العلاقات الدولية- يهدف إلى كسب الوقت أكثر مما يهدف إلى إنتاج حلول.
لذلك، ومن واقع قراءتي للمشهد، بل كذلك قراءة عدد من الخبراء الروس المستقلين، أرى أن الجولة الثالثة -شأنها شأن سابقاتها- تأتي في سياق ما يمكن تسميته إدارة النزاع، لا حله، فالدبلوماسية الروسية في هذه الحالة تحديدًا تبدو أداة تكتيكية للتمويه، هدفها ليس إنهاء الحرب؛ بل إطالة أمدها بشروط مريحة لبوتين والكرملين؛ بسبب تعنت الطرف الآخر، وعدم إبدائه أي مرونة؛ ولهذا أعتقد أن السبيل الوحيد لتقدم المفاوضات -في ضوء أن الآلة العسكرية لديهما تعمل وتُغذي جيدًا- هو حدوث انهيار في أحد الطرفين سياسيًّا، أو اقتصاديًّا، وهو أيضًا أمر غير مرجح في المدى القصير.
وبهذا، من المؤكد أن الجولة المرتقبة ستتم في ظل سقف توقعات منخفض جدًّا. وجدول الأعمال المعلن لا يتجاوز الأمور الإنسانية. والجانب التركي المستضيف لها لا يملك وزنًا سياسيًّا كافيًا لفرض أجندة أوسع. والأوروبيون يراقبون المشهد بحذر وكأنهم تائهون في ظل حالة من الإنهاك العام، وفقدان الأمل في أي اختراق قريب، مع أن كل شيء جائز.
لذلك أقول إن ما يجري ليس بداية لسلام مرغوب ومرتجى ومنتظر من ناس كثيرين في العالم؛ بل هو -وأقول ذلك بأسف- مجرد إعادة للمأزق بشكل ناعم لا أكثر.
كلا الطرفين يستخدم مفردة التفاوض ولغته في معركة أكبر تدور على الأرض، في الأسواق، وفي كواليس التحالفات؛ فلا بوتين مستعد لتقديم تنازلات حقيقية، ولا زيلينسكي قادر على تسويق أي حل وسط دون أن يخسر الدعم الخارجي، أو الشرعية الداخلية؛ لذلك ما زلنا بعيدين عن لحظة الحقيقة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.