في أحد مؤتمراته الصحفية الموسعة، سألت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن موقف بلاده من حركة حماس التي فازت بالانتخابات التشريعية الفلسطينية قبل أسابيع، فأجاب: “موقفنا يختلف عن الموقف الأمريكي والأوروبي، فوزارة الخارجية الروسية لم تدرج قط حماس منظمة إرهابية، لكن ذلك لا يعني أننا ندعم ما تقوم به الحركة، أو نوافق على كل ما تصدره من تصريحات في الآونة الأخيرة”.
كان ذلك في يناير (كانون الأول) 2006. أثارت عبارات بوتين ضجة كبيرة، سرعان ما تحولت -بعد عدة أيام- إلى قنبلة سياسية سُمع دويها في العالم بأسره، حين وجه زعيم الكرملين دعوة صريحة إلى قادة حماس لزيارة موسكو!
كان الغرب آنذاك يمارس ضغوطًا كبيرة لعزل الحركة، وقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية.
سارعت الحركة بتلبية دعوة بوتين، وحطت طائرة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس في مطار “شيرميتوڤو” في الرابع من مارس (آذار)، ليخرج من صالة كبار الزوار متبوعًا بكاميرات عشرات القنوات التليفزيونية، وعيون جمعٍ غفير من الصحفيين والإعلاميين الذين سجلوا لوسائل إعلامهم لحظة تاريخية نادرة!
في اليوم التالي فُتحت أبواب المبنى العتيق لوزارة الخارجية أمام مشعل وإخوانه، حيث استقبلهم الوزير المخضرم سيرغي لافروف بعبارة شددت على الموقف الروسي: “فوز حماس جاء عبر انتخابات شرعية يتعين احترام نتائجها”.
في اليوم نفسه كنت أجلس أمام خالد مشعل في حوار تليفزيوني “دعوتنا لزيارة موسكو خطوةٌ مهمة تكسر الحصار السياسي المفروض على حماس”.. قالها لي بسعادة غامرة. سألته: “هل تخشون أن تكرر موسكو معكم ما قامت به في العهد السوفيتي، حين أدّت دورًا في جر منظمة التحرير من خنادق المقاومة إلى غرف المفاوضات؟!”. أجاب بحسم: “حماس لا تُجر ولا تُستدرج؛ بل تتحرك بقرارها الذاتي، وبالأمانة التي تحملها نيابة عن الشعب الفلسطيني”.
صورة أرشيفية للقاء الاعلامي عمرو عبد الحميد مع خالد مشعل في موسكو عام 2006
أثارت الزيارة غضب إسرائيل والولايات المتحدة اللتين اعتبرتا أن موسكو تمنح حماس شرعية دولية، أما الاتحاد الأوروبي فأبدى تحفظًا على الزيارة، لكنه لم يقطع التنسيق مع روسيا ضمن إطار ما كان يسمى بالرباعية الدولية.
كان واضحًا أن سعي موسكو إلى استثمار الورقة الفلسطينية هو ما دفعها إلى تلك الخطوة؛ لتعزيز حضورها في الشرق الأوسط، واستعادة تأثيرها في تلك الساحة، بعدما أجبرتها على تركها تداعياتُ الحرب الباردة، فيما بدا أن أطرافًا عدة وجدت في علاقة موسكو وحماس فرصة لإنشاء قناة بديلة أو موازية للتواصل مع الحركة التي فرضت نفسها بقوة على المشهد.
قرابة عقدين انقضيا منذ ذلك الحين، شهدت خلالهما المنطقة أحداثًا دراماتيكية ومأساوية، أهمها ما يجري في قطاع غزة من حرب تشنها إسرائيل -ولا تزال- على سكان القطاع في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الذي نفذته حماس، وأدانته موسكو في حينه، لكنها لم تقبل برد الفعل الإسرائيلي، ورأت فيه -على لسان بوتين- صورة تشبه حصار ليننغراد الذي ضربه جيش هتلر على تلك المدينة قرابة عامين وأربعة أشهر، إبان الحرب العالمية الثانية!
لم يتغير الموقف الروسي من حماس، وظل خارج إطار التصنيفات الغربية؛ لذا لم تنقطع زيارات قادة الحركة إلى موسكو، وكان آخرها زيارة القيادي البارز موسى أبو مرزوق في فبراير (شباط) الماضي.
ورغم الحفاوة الرسمية بقادة حماس، فإن ذلك لا ينسحب على معظم الإعلام الروسي، الذي لا يخفي تعاطفه مع السردية الإسرائيلية، متجاهلًا موقف حكومة نتنياهو القريب إلى حد كبير من أوكرانيا في الصراع العسكري الدائر مع روسيا!
وكغيرها من عواصم العالم، صُدمت موسكو بالضربة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت قادة حركة حماس في الدوحة في التاسع من سبتمبر (أيلول)، واعتبرتها انتهاكًا صارخًا لسيادة دولة مستقلة، وللقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وما زاد تلك الصدمة تهديداتُ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي شدد خلالها على أن “يد إسرائيل ستطول قادة الحركة في أي مكان بالعالم”؛ ما يطرح سؤالًا عن البلد الذي يمكن أن يقبل هؤلاء القادة في حال تركهم الدوحة، وما إذا كانت روسيا تمثل بديلًا محتملًا لقطر!
في هذا الخصوص، ثمة ما يخدم مصلحة حماس، وهو قدرة موسكو على توفير مظلة أمنية يصعب على نتنياهو استهدافها، إذ يوقن جيدًا أن موسكو ليست طهران، أو دمشق، أو بيروت، أو الدوحة، وأن يده مهما بلغ طولها، لن تصل إلى أسوار الكرملين!
في المقابل، من المنطقي أن تفسر خطوة موسكو -في حال منحها ملاذًا آمنًا لقادة حماس- على أنها تحدٍ واضح لكل من تل أبيب وواشنطن، لكن فشل عملية الدوحة وما تبعه من إدانات دولية واسعة قد يدفع إدارة ترمب إلى الضغط على إسرائيل للقبول بلجوء قيادة الحركة إلى روسيا، وهو ما يمثل في الوقت ذاته خيارًا مريحًا لدولة قطر، ورفعًا للحرج عنها إذا اضطُّرت -تحت الضغوط الإسرائيلية والأمريكية- إلى منح خليل الحية وفريقه تذاكر سفر بلا عودة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.