بعدما رد زيلينسكي، السبت 6 سبتمبر (أيلول) 2025، على دعوة بوتين له للقدوم إلى موسكو للحديث، وأنه يضمن سلامته، بدعوة مقابلة لبوتين ليذهب إلى كييف، تتصدر لعبة الدعوات المتبادلة بين رئيسي روسيا وأوكرانيا واجهة المشهد السياسي المحيط بالصراع الأوكراني، أو الحرب الأوروبية الأكبر والأطول منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
تحولت لعبة الدعوات المتبادلة -في جوهر الأمر- إلى معركة رمزية بشأن من يملك تعريف منصة التفاوض، قبل الدخول حتى في مضمون التسوية المحتملة، إن تمت.
وإذا نظرنا من زاوية تحليلية أقرب إلى الرؤية الروسية، دون تجافٍ عن الموضوعية، التي أحاول قدر جهدي التزامها، وبحكم معرفتي أكثر بالموقف الروسي، يمكن القول إن السؤال الصحيح ليس: أين يلتقيان؟ بل: هل تتوافر من الأساس الآن شروط لقاء منتج أصلًا؟
إن إصرار بوتين على أن تكون العاصمة الروسية موسكو هي مسرح اللقاء ليس مجرد تفصيلة في نظره؛ بل رسالة سياسية، يريد من خلالها أن يقول إن روسيا في هذه العملية برمتها لا تنظر إلى نفسها، ولا تتعامل مع ذاتها كـ”متهم”.
كما أن قول بوتين، خلال تصريحاته في الجلسة العامة لمنتدى الشرق الاقتصادي من فلاديفوستوك، إنه مستعد لضمان أمن زيلينسكي وسلامته الجسدية إن أتى إلى موسكو، لم يكن للسخرية، ولا للاستخفاف به -في رأيي- بل هو عرض تقديم ضمانات أمنية لزعيم دولة في حالة حرب، أراد به بوتين أن ينزع حجج الاعتبارات الأمنية، ويعيد النقاش بشأن هذه المسألة إلى مربع الإرادة السياسية، وكأنه يقول: إذا كان الهدف وقف القتال وفتح مسار تفاوضي، فالمكان لا ينبغي أن يختطف الجوهر. كما أن موسكو، وهي صاحبة التفوق في الميدان الآن، وإن كان تقدمها ليس كبيرًا، وليس سهلًا، وليس دون تكلفة مجهدة، ترى أن اشتراط كييف أرضًا محايدة للقاء ما هو إلا ترجمة لتأثير المظلة الغربية الأوروبية تحديدًا في الوقت الراهن، أكثر منه تعبيرًا عن حسابات أوكرانية خالصة.
في المقابل، وبنظرة واقعية، فإن رفض زيلينسكي الذهاب إلى موسكو مفهوم داخليًّا في ظل الحرب، لكنه يستخدم أيضًا لبناء سردية “الطرف الضحية” الذي لا يستطيع منح “شرعية المسرح” لخصمه؛ ومن ثم يستدعي هذا الرفض وسيطًا ثالثًا، تركيا، أو الفاتيكان، أو إحدى عواصم الخليج مثلًا.
لكن المعضلة تكمن -في رأيي- في أن موسكو تعتبر الأوروبيين منحازين بنيويًّا، وذلك من واقع مواقفهم وتصريحاتهم منذ اندلاع الأزمة، بل قبل ذلك؛ ولهذا تتحفظ بصرامة على تحويل “الضمانات الأمنية” إلى قوة أجنبية على الأرض، وهو ما يدفع به ماكرون وستارمر، مع دويلات البلطيق وبولندا طبعًا، أكثر من الباقين، وهذا -بلا شك- يفتح باب تدويل لا يمكن أن يقبل به بوتين، ولا موسكو، ولا أي عاقل في روسيا بعد كل ما جرى في النهر من مياه.
لكن إذا افترضنا جدلًا أن تسير الأمور في مسار ضرورة عقد اللقاء، وبضغط من ترمب، فالسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه: مَن الوسطاء الواقعيون في هذه الحالة؟ وما معايير الاختيار؟ والجواب عنه يمكن أن تقدمه لنا خبرة حرب أوكرانيا نفسها، فهي تخبرنا أن أنقرة والدوحة وأبو ظبي، وكذلك الرياض، قادرة على إنشاء “قناة عملياتية” منخفضة الضجيج (مقارنة بأوروبا طبعًا) تجمع براغماتية الاتصال بنضج واضح في إدراة ملفات حساسة خلال فترة الصراع الممتدة أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة الآن، وأقصد عمليات التبادل الإنساني للأسرى والأطفال، فضلًا عن ترتيبات الطاقة.
الفاتيكان مناسب لملفات إنسانية، لكنه محدود النفوذ الصلب، فضلًا عما قد يسببه من إزعاج -إذا وقع عليه الاختيار- للكنيسة الأرثوذكسية الروسية وأتباعها بسب الخلفية الدينية؛ ولذلك أستبعد أن يقبل به بوتين.
أما منصات وسط أوروبا، كبودابست مثلًا، فقد تكون حيادية تقنيًّا وفنيًّا، لكنها تبقى إشكالية في عين موسكو، وإن بدت مريحة لواشنطن وبروكسل.
عمليًّا، أي وسيط مقبول يجب أن يقدم ثلاثة عناصر: احترامًا معلنًا لسيادة روسيا، والتزامًا بوقف مساعي تدويل الأزمة عسكريًّا، وقابلية هندسة حزمة: خطوة مقابل خطوة.
إذن، ما الذي تريده موسكو فعلًا؟ يسعى بوتين -من وجهة نظري وواقع فهمي- إلى تثبيت المعادلة التالية: لا عودة تلقائية إلى ما قبل عام 2022.. ولا قبول بصيغة “قوات ضمان” أجنبية تصبح هدفًا مشروعًا للجيش الروسي، وتجر الجميع إلى اشتباك أوسع.
بالمقابل، لا يغلق الكرملين الباب أمام مسارات إنسانية- أمنية، مثل تبني هدنة محددة، وعدم استهداف البنى التحتية لفترة ما، وترتيبات رقابية بديلة عن وجود قتالي أجنبي، ثم نقاش سياسي تدريجي.
في رأيي، المنظور الروسي هنا واقعي جدًّا، بمعنى أنه يقول إن أي تنازلات ملموسة لن تُمنح في ظل ضغط عسكري، اقتصادي، متصاعد على روسيا، بلا مقابل سياسي واضح؛ لذلك إذا طلب مني تقديم تقدير موضوعي لإمكان انعقاد اللقاء الذي بات حديث الساعة في الاعلام العالمي، فإني ردي ببساطة، ووفق معطيات اللحظة الراهنة (التي قد تتغير بالطبع): إن احتمال لقاء مباشر بين بوتين وزيلينسكي خلال المدى القصير منخفض؛ لأربعة أسباب رئيسة:
1- تضارب السرديات والمواقف بشأن الشرعية والمكان.
2- تصلب موقف بوتين، وصلابة الموقف العسكري والسياسي، والمجتمعي الروسي من أي وجود عسكري غربي في أوكرانيا.
3- غياب استقلالية زيلينسكي الواضحة، وحاجة كييف المستمرة إلى غطاء حلفائها؛ ما يقلص استقلال قرارها التفاوضي بالتبعية.
4- استمرار توظيف ورقة المكان كأداة كسب إعلامي قبل الاتفاق حتى على الأجندة، أو جدول أعمال ذي معنى.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.