قام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة، واستقبله الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في البيت الأبيض خلال الفترة من 12 إلى 14 فبراير (شباط). جاءت هذه الزيارة بعد أقل من شهر من تنصيب ترمب لولايته الثانية في 20 يناير (كانون الثاني) 2025؛ مما يجعلها حدثًا سياسيًّا بارزًا في سياق العلاقات الدولية. تُعد الهند، بتعدادها السكاني الذي يتجاوز (1.4) مليار نسمة، واقتصادها البالغ (3.5) تريليون دولار أمريكي، لاعبًا رئيسًا في جنوب آسيا والعالم، في حين تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز تحالفاتها الإستراتيجية لمواجهة التحديات الجيوسياسية، خاصة مع الصين وروسيا.
تأتي زيارة مودي في سياق علاقات هندية- أمريكية شهدت تقاربًا ملحوظًا خلال العقد الأخير، خاصة منذ تولي مودي منصب رئيس الوزراء عام 2014. وسعى مودي منذ ولايته الأولى إلى تعزيز مكانة الهند كقوة عالمية، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي من تريليوني دولار عام 2014 إلى (3.5) تريليون دولار عام 2024، بمعدل نمو سنوي يقارب (7%)، وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي؛ لذا ترى الولايات المتحدة في الهند “زواج مصلحة” إستراتيجيًّا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
الزيارة ليست الأولى بين مودي وترمب، فقد التقيا مرتين خلال ولاية ترمب الأولى (2017- 2021)، واستضاف مودي ترمب في الهند عام 2020 بتجمع ضخم في ولاية غوجارات كلف 50 مليون دولار، وقد كانت العلاقة الشخصية بين الرئيسين عاملًا رئيسًا في تعزيز التعاون الدفاعي والتجاري، لكن السياق الآن مُختلف؛ إذ يسعى ترمب إلى فرض رسوم جمركية جديدة بقيمة 500 مليار دولار على الدول الحليفة والمنافسة؛ مما يضع الهند أمام تحدٍ تجاري مع عجز تجاري أمريكي يبلغ 50 مليار دولار لصالحها؛ لذا سعى مودي من خلال الزيارة إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة؛
أولًا- تخفيف الضغوط التجارية: فمع تهديدات ترمب الجمركية، تسعى الهند إلى تقليل العجز التجاري من خلال زيادة مشتريات الطاقة الأمريكية (100 مليون برميل نفط بـ10 مليارات دولار سنة 2025).
ثانيًا- تعزيز التعاون الدفاعي: فنيودلهي ترغب في الحصول على أسلحة أمريكية متقدمة لمواجهة التنافس العسكري مع باكستان (650,000 جندي بميزانية 10 مليارات دولار) والصين (مليونا جندي بميزانية 300 مليار دولار). وقد سبق أن وُقِّعت صفقة طائرات بدون طيار “MQ-9 Reaper” بقيمة 3 مليارات دولار لـ30 طائرة، واتفاق تعاون بين جنرال إلكتريك وهندوستان للطيران لإنتاج محركات نفاثة بتكلفة مليار دولار سنويًّا.
ثالثًا- دعم المجتمع الهندي: فإلقاء خطاب أمام الجالية الهندية في الولايات المُتحدة (5 ملايين نسمة) كلف (10) ملايين دولار، لكنه يعزز مكانة مودي كزعيم عالمي.
وبالفعل خفضت نيودلهي التعريفات الجمركية على ما لا يقل عن (30) سلعة مستوردة من الولايات المتحدة عشية الزيارة؛ لضمان إرسال إشارة واضحة بالالتزام تجاه ترامب. على سبيل المثال، خُفِّضت التعريفات الجمركية على بعض أنواع الخمور من (150٪) إلى (50٪) حين كان رئيس الوزراء مودي في واشنطن، على الرغم من احتجاجات صناعة الخمور الهندية ضد الإعفاءات الضريبية. وبالإضافة إلى ذلك، من المتوقع ألا تؤثر بعض التعريفات الجمركية المتبادلة التي فرضها ترمب تأثيرًا كبير على الهند؛ بسبب وجهات التصدير المختلفة لكلتا الدولتين.
وجاء البيان الختامي للقمة الذي أصدرته الدولتان في نهاية زيارة مودي عكس نية الدولتين إجراء تغييرات مذهلة في أطرهما القانونية المحلية لفتح آفاق جديدة في قطاعين محددين، هما التجارة الدفاعية، والتعاون النووي المدني. أعلن البيان المشترك لعام 2025 خططًا لإطار عمل متجدد لمدة (10) سنوات للتعاون الدفاعي. ولكن على وجه التحديد، برز البيان لاستعداد الولايات المتحدة لمراجعة لوائحها الدولية للاتجار بالأسلحة. قبل ذلك، توقفت جميع البيانات المشتركة قبل هذا الالتزام؛ مما أدى إلى تساؤلات عالقة عن العلاقة الدفاعية، على الرغم من كون الهند شريكًا دفاعيًّا رئيسًا مع ترخيص (STA-1) وزيادة التجارة الدفاعية في العقد الماضي. ونظرًا إلى تركيز ترمب على زيادة مبيعات الدفاع إلى الهند، وشراء الأخيرة الناجح لنظام التحكم في تكنولوجيا الصواريخ من الفئة 1 (MQ-9B) من الولايات المتحدة العام الماضي، فإن تخفيف القيود على مبيعات الأسلحة إلى الهند على نطاق أوسع يشكل تقدمًا منطقيًّا للسياسة الأمريكية.
من جانبها، تبذل الهند محاولة غير مسبوقة في إطارها القانوني المحلي لبدء التعاون النووي المدني أخيرًا مع الولايات المتحدة بعد (20) عامًا من موافقة الجانبين لأول مرة على القيام بذلك. أقر البيان الختامي بنية الهند تعديل قانون الطاقة الذرية وقانون المسؤولية المدنية عن الأضرار النووية، الذي أعلنته الحكومة الهندية لأول مرة كجزء من ميزانيتها لعام 2025. كان قانون المسؤولية في الهند غير متوافق مع المعايير الدولية، وكان العقبة الرئيسة أمام التشغيل الكامل لاتفاقية الطاقة النووية المدنية الهندية الأمريكية، وظلت المحاولات السابقة مثل تلك التي جرت بين “وستنجهاوس” وشركة الطاقة النووية الهندية المحدودة، والتي أبرزها البيان المشترك لمودي وبايدن لعام 2023، رهينة لهذه العقبة؛ ومن ثم فإن هذه الخطوة القانونية المهمة من الهند يمكن أن تحرر التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال الطاقة النووية.
من جانب آخر، تبدو العلاقات الهندية الأمريكية بدون هدف أو غرض إستراتيجي حقيقي للعلاقات الثنائية بالنظر إلى تركيز ترمب على الانعزالية والارتباك بشأن سياسته تجاه الصين. ويؤكد اقتراح ترمب خلال زيارة مودي للتوسط بين الهند والصين هذا، وهو تكرار لاقتراحه في عام 2020 على هذا، كما يثير غموض ترمب بشأن الصين تساؤلات عن نظرته إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إذ أدلى ببعض التصريحات التي ركزت على تقليص الوجود الأمني الأمريكي في المنطقة، ولكنه -من ناحية أخرى- حريص على تعزيز الرباعية (الهند وأستراليا واليابان والولايات المتحدة) بوصفها “شراكة أمنية”.
ولكن هناك قضية أكثر إلحاحًا للهند، وهي الفجوة في التوافق الإستراتيجي مع الولايات المتحدة فيما يتصل بالدفاع. وأفضل ما يجسد هذه القضية هو معضلة نيودلهي بشأن شراء طائرة مقاتلة من الجيل الخامس في ضوء الاقتراح الشفهي الذي قدمه ترمب ببيع طائرة “إف-35 لايتنينج” إلى الهند، فقد تعهدت الولايات المتحدة “بمراجعة سياستها بشأن بيع مقاتلات الجيل الخامس إلى الهند”. ولأن الطائرة الأمريكية إف-35، والطائرة الروسية سو-57 تقاسمتا المدرج لأول مرة في معرض أيرو إنديا قبل أيام قليلة فقط من زيارة مودي، فقد أدى هذا الاقتراح إلى تحريك المناقشة بشأن الطائرات المقاتلة في الهند إلى أبعد من ذلك. وتواجه القوات الجوية الهندية أزمة خطيرة بسبب استنزاف قوتها بسرعة، إذ يكاد يكون من المستحيل بناء سلاح مكون من 42 سربًا في العقدين المقبلين.
ويواجه سلاح الجو الهندي خطر تقلص قوته أمام الصين التي أدخلت بالفعل أعدادًا كبيرة من مقاتلات الجيل الخامس، وتستعد باكستان لشراء طائرات “J-35” الصينية. وتتفاقم معضلة الهند بسبب الجدول الزمني الطويل المقدر لطائراتها من الجيل الخامس المحلية (المقرر أن تظهر خلال عقد واحد فقط)؛ ومن ثم فإن صفقة مؤقتة بين حكومتين مع واشنطن للحصول على بضع طائرات من طراز F-35 في حالة جاهزة للطيران تشكل معنى إستراتيجيًّا للهند، وقد اختارت نيودلهي حتى حدوث هذا شراء (36) مقاتلة من طراز “رافال” من فرنسا عام 2016.
ومن منظور سياسي، ترتبط العلاقات العسكرية الأمريكية- الهندية بمخاوف نيودلهي بشأن فقدان استقلاليتها الإستراتيجية، التي يغذيها انعدام الثقة البيروقراطية الهندية التاريخية في الولايات المتحدة، والتي لا تزال قائمة بسبب حظر الأسلحة الذي فرضته في الماضي على نيودلهي خلال حروبها مع الصين وباكستان، وهي تشير إلى الحدود الحقيقية التي لا تزال الهند تفرضها على تحالفها مع واشنطن. ويصبح هذا التخوف أعظم عندما يتعلق الأمر باستعداد الهند الدفاعي، وهو ما يفسر التركيز المتزايد من جانب نيودلهي على التصنيع المحلي، والإصرار على نقل التكنولوجيا لتجنب الاعتماد على الخارج في أثناء الأزمات.
أثبتت زيارة مودي وترمب أن العلاقات الثنائية قادرة على مواجهة أي أزمة، سواء أكانت اقتصادية أم سياسية، وقد ثبت هذا -على نحو خاص- من خلال اختيار الهند عدم انتقاد الترحيل الأمريكي للمهاجرين الهنود غير الشرعيين، كما تجاهلت واشنطن أي ملف حقوقي هندي يتعلق بكشمير، أو التجاوزات الهندوسية الحقوقية في حق المسلمين أو السيخ. كما لم تعلق الولايات المتحدة على الأزمة الهندية- الكندية على خلفية اتهام الأخيرة لنيودلهي باغتيال أحد النشطاء السياسيين السيخ على أراضيها. في النهاية، تدرك الولايات المتحدة والهند اعتمادهما المشترك، كل منهما على الأخرى، ليس فقط في منطقة الهندي- الهادئ، ولكن في ظل ساحة عالمية مضطربة الآن.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.