
انكشفت في أوكرانيا خلال الفترة بين 10 و19 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 سلسلة أحداث مثيرة قدمت لنا صورة سوريالية للوضع السياسي الداخلي البالغ الهشاشة في هذا البلد الذي تحول إلى أداة في يد الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، في مساعيه لاحتواء وتفتيت روسيا، التي لا تزال تُصنف في وثائقه المفاهيمية أحد الخصوم الجيوسياسيين الرئيسين.
في 10 و11 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري أعلنت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في أوكرانيا، المعروفة بـ(НАБУ)، عملية “ميداس” التي كشفت في إطارها عن مخطط فساد واسع في قطاع الطاقة، وبصفة خاصة في شركة “إنيرغواتوم”، بقيمة تقديرية تبلغ نحو 100 مليون دولار قدمت في شكل عمولات و”إكراميات” على عقود طاقة مُنحت بالأمر المباشر.
في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) خرج نائب وزير الخارجية الأوكراني سيرغي كيسليتسيا بتصريح رسمي مثير أعلن فيه رسميًا تعليق كييف لمحادثات السلام مع موسكو؛ لأن “جولات هذا العام لم تسفر عن نتائج تُذكر”، والاقتباس من كلامه المباشر، كما أكد أن كييف ترى عدم جدوى الاستمرار في مسار التفاوض الراهن.
لكن، بعد ستة أيام فقط من هذا التصريح الرسمي، وتحديدًا في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، أعلن الرئيس فلاديمير زيلينسكي من إسبانيا أنه سيتوجه في اليوم التالي إلى تركيا “لإحياء المفاوضات” الرامية إلى إنهاء الحرب، وأن كييف أعدت حلولًا ستعرضها على شركائها.
في الليلة الفاصلة بين 18 و19 نوفمبر (تشرين الثاني) وصل زيلينسكي بالفعل إلى تركيا برفقة مدير مكتبه أندريه يرماك، الضالع في فضيحة الفساد حسب تحقيقات هيئة مكافحة الفساد.
إن هذا التسلسل الزمني الذي قدمته أعلاه للأحداث، بتواريخه الدقيقة، لا يترك أي مجال للحديث عما يمكن وصفه بالتحول الإستراتيجي في موقف كييف من التسوية، دفع زيلينسكي إلى العودة لحديث السلام، بقدر ما يكشف -أي التسلسل الزمني- عن علاقة مباشرة بين انفجار فضيحة الفساد وهرولة الرئيس الأوكراني نحو لافتة السلام.
فعملية ميداس -بحسب بيان هيئة مكافحة الفساد- كشفت شبكة منظمة تضم مسؤولين حاليين وسابقين ورجل أعمال بارزًا تركزت حول شركة “إنيرغواتوم” التي تؤمّن أكثر من نصف كهرباء البلاد. يحصل أعضاء هذه الشبكة على عمولات تصل من 10 إلى 15% على العقود، فضلًا عن اشتراكهم في سلسلة شركات وسيطة لغسيل الأموال.
ملابسات القضية وتزامنها مع انقطاعات واسعة للكهرباء، وضربات روسية متكررة للبنية التحتية للطاقة، جعلتها تقدم في عدد من التحليلات الغربية بوصفها أكبر فضيحة فساد منذ تولي زيلينسكي الرئاسة، وأخطر تهديد لشرعية حكومته منذ عام 2019.
الاسم الأكثر تداولًا في الفضيحة هو تيمور ميندتش، شريك زيلينسكي السابق في مشروع “كفارتال 95″، وهي الفرقة المسرحية الساخرة التي كان يمثل فيها الرئيس الأوكراني حتى لحظة تسلمه سدة الرئاسة. وتشير تقارير متعددة إلى أن ميندتش تحديدًا أدى دورًا محوريًا في ترتيب جزء من شبكة العمولات المرتبطة بشركة “إنيرغواتوم” قبل أن يفر ويغادر أوكرانيا ويستقر في الخارج، غالبًا في إسرائيل حسب بعض التقارير.
ومع توسع التحقيقات لتشمل وزراء طاقة حاليين وسابقين، ومسؤولين في الحكومة، بدأ الحديث في الصحافة الأوكرانية والغربية عن أزمة ثقة تطول الدائرة القريبة جدًا من الرئيس زيلينسكي نفسه، وإن لم تُوجه اتهامات مباشرة ضده هو شخصيًا حتى الآن.
في 15 و16 نوفمبر (تشرين الثاني)، حاول زيلينسكي احتواء الصدمة أو الفضيحة من خلال إعلان “إعادة هيكلة شاملة” لقطاع الطاقة، وإطلاق وعود بإعادة تشكيل مجالس الإدارة والرقابة في الشركات الكبرى، مثل “إنيرغواتوم”، و”أوكراهيدروإنرغو”، و”نفتوغاز”.
لكن هذه الرسائل من جانب زيلينسكي جاءت متأخرة نسبيًا قياسًا بمدى انتشار الفضيحة في الإعلام المحلي والخارجي. الرأي العام الأوكراني كان يتلقى بداية من يوم 10 نوفمبر (تشرين الثاني) تفاصيل متتابعة عن شبكة فساد عملت وترعرعت خمسة عشر شهرًا على الأقل في قلب قطاع يفترض أن يكون في خط تماس مباشر مع المجهود الحربي لخدمته.
في هذه الأجواء تحديدًا جاءت تصريحات نائب وزير الخارجية الأوكراني كيسليتسيا، التي أشرت إليها أعلاه، لتعلن لنا رسالة سياسية نفهم منها أن كييف ترفع سقفها وتغلق باب التفاوض، وهي كانت هنا تضع الرهان على استمرار الدعم الغربي.
لكن بعد أقل من أسبوع حوّلت تفاصيل فضيحة ميداس الوضع داخل أوكرانيا إلى أزمة سياسية مكتملة الأركان. وتبع ذلك إعلان زيلينسكي من إسبانيا إحياء المفاوضات، وهنا نجد أنفسنا -نحن المراقبين- مضطرين إلى الإقرار بموضوعية أن عودة كييف وزيلينسكي إلى الحديث عن السلام لم تسبق الفضيحة، بل لحقت بها مباشرة.
داخل هذا الإطار، تبرز نقطة أخرى مهمة تتعلق بدور الولايات المتحدة، فمع اقتراب موعد زيارة تركيا تداولت وكالات أنباء دولية معلومات عن أن المبعوث الخاص ستيف ويتكوف سيشارك في محادثات أنقرة مع زيلينسكي وأردوغان، في سياق خطة أمريكية جديدة تفرض ضغوطًا على كييف للقبول بالتنازل عن الأراضي.
غير أن تقارير متضاربة ظهرت يومي 18 و19 نوفمبر (تشرين الثاني) بشأن مشاركة ويتكوف، حيث أكدت مصادر تركية وأوكرانية في البداية أنه سيصل إلى تركيا، ثم تراجعت بعد ذلك، في حين نقلت وسائل إعلام عن مسؤولين أمريكيين أن اللقاء أُلغي أو تأجل في ضوء فضيحة الفساد الأوكراني، وهو ما يمكن قراءته على أن صورة زيلينسكي تزعزعت بالفعل داخل الإدارة الأمريكية بعدما كان يحظى بتفويض أمريكي غير محدود.
في هذه الخلفية ظهر الأوروبيون في حالة ارتباك، فبينما واصلت مؤسسات الاتحاد الأوروبي خطابًا يصر على الاستمرار في دعم أوكرانيا، استثمرت عواصم مثل بودابست وبراتيسلافا الفضيحة واستغلتهل لمهاجمة طلبات التمويل الإضافي، واعتبرتها غير معقولة، أو منفصلة عن الواقع.
موسكو -في المقابل- حافظت على مسافة واضحة من كل هذه العملية، فتصريحات الكرملين يومي 18 و19 نوفمبر (تشرين الثاني) ركزت على نقطتين، الأولى هي عدم وجود اتصالات راهنة مع مبعوث ترمب ويتكوف، وذلك في تفنيد لتسريبات أكسيوس، والثانية هي غياب أي جديد جوهري في الحوار مع واشنطن بشأن التسوية.
وسائل الإعلام الروسية بالطبع استغلت فضيحة ميداس للدفع بسردية أن النظام الأوكراني هو نظام فاسد، ولا يمكن التعامل معه كشريك يمكن الاتفاق معه، وأن أي اتفاق سلام معه سيكون مهددًا من الداخل بقدر ما هو مهدد بعوامل خارجية.
على كل هذه الخلفية يمكننا تفكيك قطع الصورة الخاصة بدعوة زيلينسكي للعودة إلى حديث السلام بعد إعلان خارجيته تعليق المفاوضات. ومما لا شك فيه أنه لا تحول عميقًا في رؤية كييف لشروط الحل، لكن الفضيحة دفعت زيلينسكي وحكومته إلى البحث عن قصة مختلفة تقدمها للرأي العام الداخلي والخارجي لتشتيت الانتباه عن الفضيحة، فكان عنوان السلام جاهزًا للاستخدام.
فالخطاب السياسي الصادر من كييف خلال اليومين الماضيين، أي 18 و19 نوفمبر (تشرين الثاني) لا يشي بتغيير في الشروط غير الواقعية، مثل العودة إلى حدود ما قبل عام 2014، وضمانات أمنية غربية شاملة، واستمرار مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو، فضلًا عن عدم تقديم تنازلات في ملف الأراضي.
لذلك، يكشف المشهد الأوكراني الممتد من 10 إلى 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 أن الحديث عن استئناف مسار إسطنبول للتفاوض لا يمكن فصله عن فضيحة ميداس التي ضربت قلب النظام الأوكراني.
السلام هنا -في رأيي- ليس سوى مخرج يحاول زيلينسكي الهروب من خلاله من الفضيحة، لكنه ليس -بحال- خيارًا مبدئيًا له نابعًا مثلًا من قراءة موضوعية للتوازنات على أرض الواقع الميداني؛ وإنما هو مجرد غطاء ووسيلة لإدارة أزمة داخلية خانقة هي الأخطر منذ بداية الحرب، بل منذ دخول زيلينسكي مكتب الرئاسة عام 2019.
لذلك يبدو موقف موسكو -على الأقل حسب قراءتي له- ينظر إلى كل ما يحدث على أنه لحظة تعكس مؤشرًا على تقلص قدرة كييف وزيلينسكي على الاستمرار في خطاب “لا تفاوض دون ثمن”، وترى أن أي تسوية حقيقية -هذا إذا وصلت إليها الأطراف فعلًا- ستُفرض على نظام أضعفه الميدان، وأضعفته، أو قضت عليه، الفضيحة أيضًا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير