يرتبط فصل مهم من قصة الآثار المصرية في روسيا باسم فلاديمير سمينوفتش غولينيشيف Vladimir Seminovitch Golenischeff (1856- 1947).
كان غولينيشيف محظوظًا بالثروة الضخمة التي تركها له والده التاجر الكبير آنذاك، واستغل الفرصة النادرة بامتلاك ثروة بهذا الحجم، وتفرغ تفرغًا تامًا للدراسة والبحث. بعد تخرجه في قسم الدراسات الشرقية بجامعة سانت بطرسبورغ عام 1879، التحق للعمل بمتحف الأرميتاج (ثاني أكبر متاحف العالم بعد اللوفر في باريس)، وبدأ العمل مع القطع الأثرية المصرية التي يضمها المتحف، والتي كانت مكدسة في غير نظام.
خلال عمله في الأرميتاج، عثر غولينيشيف على لفائف كبيرة من ورق البردي التي لم تفتح من قبل، وكانت واحدة منها مصدرًا أصيلًا للمعلومات عن الحياة المصرية القديمة، التي صارت تعرف في الأرميتاج باسم “البردية رقم 1115″، وتعرف باسم “حكاية ملاح تحطمت سفينته”، وهي بردية يعود عمرها إلى نحو 4 آلاف سنة مضت (المملكة الوسطى في الدولة المصرية القديمة)، وكان غولينيشيف هو أول من ترجم البردية وحللها، وكتب تفسيرًا لها اتضح منه أنها تروي قصة ملاح مصري تحطمت سفينته في البحر وعلى متنها 150 ملاحًا (كم كان حجم السفينة؟ وهدفها؟ ووظيفتها؟!) خلال حملة بحرية مصرية في البحر المحيط.
في عام 1879، بدأ غولينيشيف أولى رحلاته إلى مصر، التي ستبلغ بمرور الزمن 60 رحلة.، اشترى خلالها وجمع أكثر من 6 آلاف قطعة أثرية من مصر !
سافر جالينيشيف كغيره من السائحين الأجانب إلى مصر مستقلًا يخت “ذهبية”، وهو مركب نيلي، تصميمه الهندسي يحاكي المراكب التي صممها المصريون القدماء، وكانت الأكثر استخدامًا خلال القرن التاسع عشر، والثلث الأول من القرن العشرين.
كانت “ذهبية” الوسيلة الأساسية للتنقل بين القاهرة (ميناء بولاق آنذاك) والأقصر، وكانت الرحلة تستغرق 40 يومًا (الصورة المرفقة ليخت “ذهبية” يقل وفدًا سياحيًّا أمريكيًّا في عام 1923) .
كان تجار الآثار في الأقصر ينتظرون الوافدين من السائحين وجامعي الآثار ليعرضوا عليهم بضاعتهم. ومن هناك اشترى غولينيشيف العدد الأكبر من مقتنياته الأثرية.
كان اختيار غولينيشيف متقنًا ومتنوعًا وخبيرًا، حتى إن القطع التي اشتراها من مصر عُدت “نموذجًا مصغرًا وكاملًا لحضارة مصر القديمة”.
لم يكن حلم غولينيشيف أن يكون جامع آثار؛ بل كان صاحب مشروع روسي قومي يسعي إلى وضع قدم لروسيا بين الدول الأوروبية التي تنقب عن الآثار في مصر لخدمة المؤسسات العلمية في روسيا المعنية بالتاريخ والآثار، فضلًا عن المنافسة في مجال الاستعمار العلمي.
على هذ النحو سعى غولينيشيف لبدء عمليات التنقيب الأثري عام 1889 في الفيوم، التي كانت أولى المناطق المصرية التي تدرب فيها غولينيشيف على دراسة النقوش الفرعونية على أعمدة جرانيتية اكتشفت عام 1889 في عاصمة الإقليم.
ورغم جهوده الحثيثة، لم يتمكن غولينيشيف إلا من زيارة عابرة لمنطقة الهوارة التي كان يعمل فيها الإنجليزي الشهير (مؤسس علم المصريات الحديث) فلندرز بيتري، الذي تشير المصادر الروسية إلى أنه اضطلع بالدور الأول في إزاحة المدرسة الروسية في علم الآثار من أن تجد لنفسها مكانًا مرموقًا في مصر، وأنه كان العقبة الأساس- محميًّا بسلطة الاحتلال الإنجليزي لمصر آنذاك- التي وقفت دون إقامة معهد روسي للآثار في القاهرة. جدير بالذكر أن المعهد الفرنسي للآثار الشرقية قد تأسس عام 1880 على يد جاستون ماسبيرو في سنوات قريبة من جهود غولينيشيف لتأسيس معهد روسي.
وقف الاحتكار الفرنسي/ الإنجليزي عقبة أمام غولينيشيف للتنقيب عن الآثار لصالح روسيا في مصر. عاود الرجل المحاولة متقدما بطلب إلى الفرنسي إيميل جريبو Émile Grébaut ، مدير مصلحة الآثار المصرية، الذي ضيق عليه خناق العمل، ولم يسمح له بسوى التنقيب في مناطق بعيدة عن كنز الآثار التقليدي (الجيزة والأقصر).
اختار غولينيشيف منطقة “تل المسخوطة” في شرق الدلتا بحثًا عن آثار فارسية خلال سعي الفرس إلى تطهير قناة شقها المصريون القدماء (في عهد الأسرة الـ26 المعروفة بالأسرة الصاوية) لربط نهر النيل بالبحر الأحمر (هي نفسها تلك القناة التي ستعيش في العصر العربي لتحمل اسم “خليج أمير المؤمنين” وتقتفي أثرها اليوم ترعة الإسماعيلية).
عين غولينيشيف 30 عاملًا مصريًّا للحفر، وأفضت جهوده (جهودهم!!) بالفعل إلى العثور على آثار تؤرخ لتلك الفترة وعليها نقوش باللغتين الهيروغليفية والفارسية القديمة.
كان الطريق الجديد لظهور عالم آثار نابغ قد بدأ يلمع في الأفق بعد اكتشافات تل المسخوطة، غير أن حادثة احتيال مالي مفاجئة ضربت غولينيشيف، وأفضت به إلى الإفلاس (يروى أن بطل قصة الاحتيال زوج شقيقته).
لم يكمل غولينيشيف مشروعه، بل لم يعد قادرًا حتى على أن يكفل لنفسه حياة كريمة، فاضطر إلى عرض مقتنياته الأثرية للبيع، وقدرت برقم فلكي آنذاك (نحو نصف مليون روبل).
رفض غولينيشيف العروض السخية التي قدمت له من الدول الأوربية، وظل متطلعًا لأن يجد من يشتريها في روسيا.
توسط أصدقاء له لدى حكومة روسيا القيصرية، فأصدر البرلمان الروسي قرارًا بتصديق الإمبراطور نيقولاي الثاني عام 1909 بشراء مقتنيات غولينيشيف مقابل دفع راتب سنوي طيلة حياته مقداره 24 ألف روبل. تحولت كل المقتنيات إلى متحف الفنون الجميلة في موسكو المسمى باسم الإمبراطور ألكسندر الثالث (يعرف اليوم باسم متحف بوشكين).
عاش غولينيشيف على الراتب الحكومي حياة كريمة قبل أن تهب عاصفة الثورة الشيوعية عام 1917، وتتبرأ الحكومة الجديدة من التزامات النظام القيصري السابق.
أوشك غولينيشيف مجددًا على الهاوية، فطفق يبحث عن فرصة عمل في الجامعات الأوروبية والأمريكية، وأحسنت جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة فيما بعد) صنعًا حين قدمت له عام 1923 عرضًا للعمل فيها، فقبله بترحاب، وأسس أول قسم للمصريات، وترأسه حتى عام 1929، وفي هذا القسم، وعلى يديه، تخرج الرعيل الأول من العلماء المصريين.
بقي غولينيشيف في مصر حتى عام 1947، وهو العام الذي توفي فيه خلال إجازة كان يقضيها في مدينة نيس في جنوب فرنسا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.