
لم يُسقط انهيار نظام الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024 الدولة السورية بالكامل؛ لكنه أطلق مرحلة جديدة من الصراع الجيوسياسي على أنقاضها، فقد ورثت القيادة الجديدة دولة متآكلة، ومؤسسات مفككة، واقتصادًا منهارًا، وأصبح العجز الداخلي الوقود الذي يغذي سياستها الخارجية.
بدلًا من بناء شرعية داخلية تستند إلى الإرادة الشعبية، اختارت دمشق استيراد الشرعية من الخارج من خلال موازنة دقيقة بين القوى المتصارعة، مقدّمة نفسها صمام أمان لا غنى عنه لتجنّب السيناريوهات الكارثية: عودة تنظيم داعش، وتمدد إيران، أو اندلاع مواجهة إقليمية مع إسرائيل. بهذه الطريقة تحوّل الضعف السوري إلى أصل إستراتيجي يُستخدم لابتزاز الدعم والاعتراف والمساعدات من القوى الدولية.
أحمد الشرع، قائد هذه المرحلة، ليس زعيمًا عقَدَيًّا؛ وإنما سياسي براغماتي يتقن لعبة التوازنات، يدير تحالفات متناقضة من دون التزام أيديولوجي، مستثمرًا هشاشة الدولة كأداة للبقاء، وموظفًا خطاب الواقعية لتبرير خضوع محسوب يضمن استمرار حكمه.
تشكل روسيا محور هذه المعادلة الجديدة، فهي لا تزال القوة العسكرية الأكثر رسوخًا في سوريا، بفضل قاعدتي حميميم وطرطوس اللتين تمثلان الامتداد الإستراتيجي لموسكو في البحر المتوسط. وقد أدركت القيادة السورية الجديدة أن هذه الوقائع غير قابلة للتغيير، فتبنّت سياسة إعادة التفاوض لا التحرر.
في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 أعلن الشرع رسميًّا احترام جميع الاتفاقيات الموقّعة في عهد الأسد، في تنازل أمني واضح، لكنه مهّد لإعادة النظر في العقود الاقتصادية المبرمة مع الروس، التي يراها كثير من الخبراء مجحفة. روجعت عقود الفوسفات والطاقة وميناء طرطوس، ليس بهدف تغييرها؛ بل لتحسين شروط التبعية. كما حاولت دمشق أن تُظهر لموسكو أنها ليست رهينة مطلقة، فعقدت تفاهمات اقتصادية مع شركاء خليجيين، مثل الإمارات لتطوير المواني والبنية التحتية؛ ما منحها ورقة تفاوض جديدة. بهذه المعادلة تحافظ روسيا على نفوذها العسكري، في حين تحصل دمشق على هامش حركة اقتصادي يمنع تحولها إلى مستعمرة تابعة بالكامل.
العلاقة مع إيران تسير وفق منطق آخر: احتواء النفوذ لا كسره، فدمشق تدرك أنها عاجزة عن استئصال الشبكات السياسية والأمنية والاقتصادية التي بنتها طهران على مدى عقدين؛ لذا اختارت سلامًا باردًا يقوم على الطاعة الصامتة. في العلن، تتحدث الحكومة عن الاستقلال والحد من التدخل الإيراني، وفي الخفاء تُبقي على قنوات اتصال أمنية، وتقدّم تنازلات اقتصادية ورمزية تضمن بقاء التوازن دون انفجار. بهذا الأسلوب تستخدم دمشق النفوذ الإيراني كورقة ابتزاز أمام الغرب والخليج وإسرائيل، مدّعية أنها الجهة الوحيدة القادرة على ضبط تمدد طهران، ومنع الانزلاق إلى صراع إقليمي مفتوح.
تعوّل دمشق على محور تركيا وقطر كبديل يمنحها القدرة على المناورة، فتركيا تحوّلت إلى الضامن الأمني الفعلي للنظام من خلال الفصائل التابعة لها في الشمال، في حين وفّرت قطر الدعم المالي ومشروعات إعادة الإعمار الكبرى في الطاقة والبنية التحتية والمطارات. من أبرز هذه المشروعات الاتفاق على تطوير مطار دمشق الدولي بائتلاف تقوده الدوحة بقيمة أربعة مليارات دولار، ومشروعات توليد طاقة مع شركات قطرية وتركية بنحو سبعة مليارات. كما دخل خط الغاز كيليس- حلب الخدمة في أغسطس (آب) 2025؛ ما عزّز اندماج سوريا في ممرات الطاقة التي تسيطر عليها أنقرة.
تتيح هذه الشراكات لدمشق أن توازن بين القوى، فعندما تضغط موسكو اقتصاديًّا، تلوّح بالمال القطري، وحين تصعّد إيران نفوذها السياسي، تستند إلى الغطاء الأمني التركي. إنها ليست سيادة بقدر ما هي شبكة جديدة من الارتهانات المتبادلة.
تقدّم دمشق نفسها لواشنطن على أنها حليف محتمل ضد الإرهاب، ملتزمة بمحاربة فلول داعش ومنع سوريا من أن تتحول إلى ملاذ جهادي. أما أمام الرياض، فترفع شعار سوريا الجديدة المعتدلة، وتطرح نفسها شريكًا في تحقيق التوازن الإقليمي ضد النفوذ الإيراني. ومع إسرائيل تعتمد خطاب التهدئة، متعهدة بإبقاء الحدود الشمالية هادئة، واحترام خطوط فك الاشتباك لعام 1974، مقابل وقف الغارات الجوية، وصفقة خفض تصعيد بوساطة أمريكية. هذه السياسة لا تعكس استقلالًا بقدر ما تُظهر براغماتية مطلقة: النظام يدرك أنه ليس الخيار المفضّل، لكنه يراهن على أنه الخيار الأقل سوءًا مقارنة بالفوضى أو عودة الإسلاميين.
كشفت أحداث السويداء في يوليو 2025 جوهر الإستراتيجية السورية الجديدة، فبعد اشتباكات طائفية بين الدروز والقبائل البدوية، فشلت الدولة في السيطرة على الموقف، وارتكبت قواتها انتهاكات واسعة أدّت إلى تدخل إسرائيلي مباشر بذريعة حماية المدنيين. هذا الانكشاف لم يُضعف السلطة بقدر ما منحها حجة جديدة لتبرير وجودها، إذ استخدمت دمشق الفوضى لتقنع الغرب والأردن وإسرائيل بأن غيابها يعني انهيارًا شاملًا، ولتضغط على الزعامات المحلية لقبول عودة شكلية للدولة. في منطق ابتزاز السيادة، لا يُعد الفشل خطرًا؛ بل أصلًا سياسيًّا: كلما تفاقم الضعف، ارتفعت قيمة النظام بوصفه ضامنًا للاستقرار النسبي، وكلما عمّت الفوضى، ازداد ثمن بقائه.
الاستقرار النسبي في سوريا اليوم ليس نتيجة بناء مؤسساتي، أو مصالحة وطنية؛ بل حصيلة توازن هش بين ارتهانات متناقضة، فدمشق تسير على خيط دقيق بين القوى الكبرى، تحافظ على مستوى من التهديدات يكفي لجذب الدعم، دون أن تسمح بانفجار شامل، لكن هذا التوازن محفوف بالمخاطر؛ فأي اختلال في مثلث روسيا- تركيا- قطر، أو تصاعد في النفوذ الإيراني، أو تراجع في الانخراط الغربي، قد يكشف فراغ السلطة في دمشق، ويفتح الباب أمام انهيار جديد، أو ترسيخ استبداد أكثر عمقًا تحت غطاء دولي.
في النهاية، تبقى روسيا العمود الفقري لهذه المعادلة، تمسك بالمفاتيح الأمنية والعسكرية، في حين تموّل تركيا وقطر بقاء النظام، وتمنحه واشنطن والرياض الاعتراف الضمني. إنها هندسة بقاء على حافة الهاوية، تُبقي النظام حيًّا، لكنها تضع السيادة السورية في غرفة الإنعاش.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير