منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي، الذي يُعقد سنويًّا في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية منذ عام 1997، يُعدّ من أبرز المنتديات الاقتصادية العالمية. هذا المنتدى يعد منصة فعّالة لتبادل الآراء والخبرات بين صنّاع السياسة والمسؤولين وممثلي قطاع الأعمال من مختلف دول العالم، حيث يوفر فرصًا متعددة لتبادل وجهات النظر والمسارات المدروسة؛ لتحقيق الأهداف الاقتصادية والسياسية الرئيسة التي تحددها روسيا والأسواق العالمية. كما يُعد مكانًا لمناقشة القضايا الرئيسة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وغيرهما من المجالات، بالإضافة إلى إقامة كثير من الفعاليات، والمهرجانات، والمعارض المهمة.
في ظل اتساع رقعة الصراعات الجيوسياسية في العالم، وتكريس القطيعة بينها وبين دول الغرب، افتتحت روسيا منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي بحضور دولي واقتصادي شرقي لافت، وغياب غربي جلي. ومع دخول حربها على أوكرانيا عامها الثاني، وارتفاع حدة التوترات الصينية الأمريكية على خلفية تايوان، واشتعال منطقة الشرق الأوسط على وقع الحرب الإسرائيلية على غزة، تأمل روسيا من النسخة الحالية للمؤتمر الاقتصادي أن تبرز كلاعب دولي فاعل وقادر على التغيير، ولو أنها تعرضت لانتكاسة كبرى بغياب رؤوس الأموال الغربية عنها.
لم يكن اختيار السلطات الروسية لسانت بطرسبورغ موقعًا أساسيًّا لاستضافة هذا المنتدى من فراغ، حيث كان لهذا الاختيار ارتباط مباشر بتاريخ المدينة التي جعلها بطرس الأكبر عاصمة للدولة الروسية الحديثة، ونافذة له على الغرب، تمامًا كما كانت وظيفة المنتدى كجاذب أساسي لرؤوس الأموال الغربية والمشروعات.
مع مقاطعة الغرب للمنتدى، واستمرار العقوبات الغربية على موسكو، أملًا أن ينهار اقتصادها، التفتت روسيا شرقًا، وعززت تعاونها مع آسيا وإفريقيا ودول الشرق الأوسط. ولعل أهم إنجاز في هذا المجال كان التقارب السياسي الاقتصادي غير المسبوق مع الصين، وما نتج عنه من تعزيز للاقتصاد الروسي. لكن يلفت مراقبون إلى أنه على الرغم من هذه الالتفاتة، والاتفاقيات الاقتصادية التي وقعتها روسيا مؤخرا، ما زال من غير الواضح حجم الأموال التي قد تكون هذه البلدان على استعداد لاستثمارها في الاقتصاد الروسي، مع الأخذ في الحسبان تبعات هذه الخطوة المحتملة عليها.
يذكر أنه خلافًا للنسخ السابقة، لم تُعلَن أي صفقات ضخمة حتى الآن، وسط آمال روسية بأن تشكل هذه النسخة من المنتدى بداية جديدة للاقتصاد المحلي، وفرصة لاستبدال العلاقات مع الغرب التي دمرت عقودًا قادمة. كما تريد روسيا، وفقًا لتحليلات، من هذا المنتدى، أن تؤكد قدرتها على مواجهة العقوبات الغربية، وأن المشروعات الهادفة إلى عزلها لم تنجح.
تكتسي النسخة الحالية من منتدى سانت بطرسبورغ أهمية خاصة؛ لأنها تتناول أزمة الشرق الأوسط، ورؤية موسكو أنه لا يمكن تحقيق استقرار عالمي دون إيجاد حل أساسي لهذه الأزمة، انطلاقًا من المبادئ التي دعت إليها مؤخرًا.
بعيدًا عن الجوانب الاقتصادية والسياسية، برزت عدة مفاجآت داخل المنتدى، ربما قد تنطوي على تفسيرات مهمة في مراحل لاحقة. بداية، لم يكن خافيًا حجم جناح “ألفا بنك” الصيني، الذي خيم عليه تنين ضخم مزين بأحرف صينية، وعبارات تؤكد أن “ألفا” هو “أفضل بنك للأعمال التجارية مع الصين”.
كما لفت الانتباه تجول وفد من “حركة طالبان” الأفغانية، التي لا تزال محظورة رسميًّا في روسيا، بين أجنحة المنتدى، على الرغم من التاريخ الدموي بينها وبين روسيا، المتمثل في الحرب التي شنتها في الثمانينيات على الجيش السوفيتي بدعم أمريكي. ومن الأمور اللافتة أيضًا حضور وزير الخارجية المجري بيتر سيارتو لافتتاح المنتدى، وتأكيده التعاون مع روسيا في مجال إمدادات الغاز، وأن بلاده لا تخطط لوقف ذلك التعاون رغم وجود ضغوط دولية كبيرة على بودابست للقيام بذلك.
وقال سيارتو، وزير خارجية الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي وفي الناتو، التي لطالما عارضت حلفاءها فيما يتعلق بالموقف من روسيا، إن حصول المجر على الغاز الذي تحتاج إليه هو “مسألة مادية”، لا علاقة لها بدوافع سياسية أو أيديولوجية. تتلقى المجر 4.5 مليار طن متري من الغاز سنويًّا من روسيا، بموجب اتفاق مدته 15 عامًا وُقِّعَ عام 2021. يُنقل الغاز عبر خط أنابيب ترك ستريم، الذي يسمح لموسكو بالوصول إلى جنوب أوروبا دون المرور عبر أوكرانيا.
اختُتمت فعاليات النسخة الـ27 لمنتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي 2024، يوم السبت 8 يونيو (حزيران)، في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية، وشهدت مشاركة مملكة البحرين، و133 دولة، وشخصيات سياسية واقتصادية وإعلامية من جميع أنحاء العالم، ومسؤولين حكوميين رفيعي المستوى، وممثلي شركات عالمية من 130 دولة. كما شارك في المنتدى أكثر من 17 ألف شخص، في مقدمتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
مشاركة وزير الصناعة والتجارة ممثلًا لمملكة البحرين في هذا المنتدى جاءت بعد التطورات النوعية في العلاقات البحرينية الروسية، التي تعززت كثيرًا خلال الزيارة الرسمية لحمد بن عيسى آل خليفة، ملك البحرين، مؤخرًا، إلى روسيا الاتحادية، تلبية لدعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي نتج عنها كثير من الاتفاقيات المهمة في مجالات متعددة، ستسهم في زيادة الاستثمارات البحرينية الروسية.
من أبرز محاور النقاش التي تمّ تسليط الضوء عليها خلال أعمال المؤتمر: الانتقال إلى نموذج متعدّد الأقطاب للاقتصاد العالمي، حيث ناقش المشاركون ضرورة التحوّل من النظام الاقتصادي العالمي الأحادي القطبية إلى نموذج متعدد الأقطاب، بما يعكس ظهور قوى اقتصادية جديدة على الساحة الدولية، كالصين، والهند، وروسيا، وأكدوا أهمية هذا التحول لتحقيق التوازن والاستقرار في النظام الاقتصادي العالمي.
كما ناقش المنتدى الثقافة المالية بوصفها محركًا للتنمية الاقتصادية، ودور تعزيز الثقافة المالية للمواطنين بوصفها وسيلة لتحفيز النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، وأهمية برامج التثقيف المالي في تمكين الأفراد من اتخاذ قرارات مالية سليمة، وبناء اقتصادات أكثر استقرارًا. ركز المنتدى على التجارة الرقمية والخدمات المصرفية، حيث تطرّق إلى التطورات السريعة في مجالي التجارة الإلكترونية والخدمات المصرفية الرقمية، وسُبل تعزيز هذه القطاعات، وإزالة العقبات التنظيمية والتقنية لتحقيق أقصى استفادة منها.
من بين أهم القضايا التي تم التركيز عليها الأمن الغذائي العالمي، في ظل تزايد التحديات المرتبطة به، حيث خصّص المؤتمر جلسات مهمة لمناقشة سُبل التصدي لهذه القضية الحيوية، وتمّ التأكيد ضرورة تعزيز التعاون الدولي في مجال الإنتاج والتوزيع الغذائي.
شهد منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي لعام 2024 حضورًا بارزًا لعدد من قادة الدول، والشخصيات الاقتصادية العالمية، مما يعكس أهميته بوصفه منصة دولية لتبادل الآراء، وتعزيز التعاون الاقتصادي. في هذا السياق، عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقاءات مع رؤساء دول مثل بوليفيا (لويس ألبرتو آرس)، وزيمبابوي (إمرسون منانغاغوا)، وجمهورية صربيا (مليوراد دوديك). كما التقى بوتين بالرئيسة السابقة للبرازيل، ديلما روسيف، التي تشغل حاليًا منصب رئيسة بنك التنمية الجديد لدول البريكس.
خلال المنتدى، تم توقيع 982 اتفاقية، بمجموع 6.43 تريليون روبل (ما يعادل نحو 88 مليار دولار أمريكي). كان لمدينة سانت بطرسبورغ النصيب الأكبر من هذه الاتفاقيات، حيث وقعت 69 اتفاقية بقيمة 1.22 تريليون روبل. شملت الاتفاقيات مجموعة متنوعة من المشروعات والقرارات السياسية والاقتصادية المهمة، من بينها إنشاء بوابة استثمارية موحدة في روسيا، ومذكرة تفاهم بين البنك التجاري الدولي، وشركة السكك الحديدية الروسية، وشركة “ناش بروجيكت ستروي” لبناء طريق حول جنوب سانت بطرسبورغ. بالإضافة إلى ذلك، قرر البنك التجاري الدولي فك ارتباط الأوراق المالية بالدولار، ووقعت شركة “روسجولوجيا” عقدًا لتوريد معدات تعدين الألماس محليًّا.
تُعد هذه الاتفاقيات والمشروعات جزءًا من إستراتيجية روسيا لتعزيز تعاونها الاقتصادي مع دول آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية. من خلال المنتدى، تسعى روسيا إلى إظهار قدرتها على بناء علاقات اقتصادية متينة ومستدامة مع شركاء جدد، وتقديم نفسها بديلًا موثوقًا به للاستثمار والشراكات الاقتصادية.
عبر منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي، تعمل روسيا على تخفيف تأثير العقوبات من خلال عدة محاور:
التركيز على الاقتصاد المحلي: توقيع اتفاقيات تهدف إلى تطوير البنية التحتية والقطاعات الحيوية في روسيا، مثل إنشاء مصنع روبوتي للشاحنات في موسكو، وتطوير منصة الروبل الرقمي. هذه الخطوات تهدف إلى تعزيز القدرة الذاتية للاقتصاد الروسي، وتخفيف الاعتماد على الاستثمارات والتقنيات الغربية.
التنوع الاقتصادي: التركيز على قطاعات متنوعة، مثل التكنولوجيا الحيوية، والصناعات الثقيلة، وتطوير البنية التحتية، مما يعزز مناعة الاقتصاد الروسي ضد العقوبات. على سبيل المثال، اتفاقيات التعاون في مجالات التكنولوجيا الحيوية مع دول مثل الهند وكوبا تسهم في تنويع الاقتصاد، وتطوير صناعات جديدة.
سياسات بوتين في هذا السياق تُظهر التزامه بتقوية الاقتصاد الروسي من خلال تعزيز التعاون مع الدول النامية والناشئة، وتطوير الصناعات المحلية لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا والاستثمارات الغربية. من خلال هذه الإستراتيجية، تأمل روسيا بناء اقتصاد مرن ومتنوع قادر على الصمود في وجه العقوبات والتحديات الدولية.
منتدى سانت بطرسبورغ لهذا العام لم يكن مجرد منصة لعقد الصفقات، بل كان أيضًا مناسبة لإظهار التحدي والصمود الروسي في وجه الضغوط الدولية، وإعادة تأكيد مكانة روسيا بوصفها قوة اقتصادية عالمية ذات نفوذ متزايد في الساحة الدولية، إذ إن حضور قادة من دول مثل بوليفيا وزيمبابوي، وصربيا، يعكس الثقة المتزايدة في الشراكات الاقتصادية مع روسيا رغم التحديات العالمية. هذا الحضور يشير إلى تطور العلاقات الثنائية التي يمكن أن تؤدي إلى استثمارات جديدة، وتعزيز التجارة بين هذه الدول وروسيا.
التحليل الأوسع لهذه الفعاليات يظهر أن روسيا تسعى بجدية إلى إعادة تشكيل نظامها الاقتصادي بطرائق مبتكرة ومرنة. التوجه نحو إنشاء بوابة استثمارية موحدة في روسيا يعكس رغبة في تحسين بيئة الأعمال، وجذب الاستثمارات الخارجية، حتى في ظل العقوبات. بالإضافة إلى ذلك، فك ارتباط الأوراق المالية بالدولار يشير إلى خطوات استراتيجية لتقليل الاعتماد على العملة الأمريكية، وتطوير نظام مالي أكثر استقلالية.
على صعيد التعاون التكنولوجي، توقيع عقود لتوريد معدات تعدين الألماس محليًّا، وتطوير محركات للصواريخ الخفيفة، يعكس اهتمام روسيا بتعزيز قدراتها التكنولوجية والصناعية. هذا التوجه يمكن أن يسهم في خلق فرص عمل جديدة، وتطوير قطاع التكنولوجيا المتقدمة في البلاد.
منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي لعام 2024 لم يكن مجرد حدث اقتصادي عادي؛ بل كان منصة إستراتيجية بارزة أعادت رسم ملامح الدور الروسي في النظام الاقتصادي العالمي المتعدد الأقطاب. عبر توقيع عدد كبير من الاتفاقيات مع دول متنوعة، أظهر المنتدى قدرة روسيا على تعزيز علاقاتها الاقتصادية، وتوسيع نفوذها رغم التحديات والعقوبات الغربية. تنوع المشروعات والقطاعات التي شملتها الاتفاقيات يعكس إستراتيجية روسيا في تنويع اقتصادها، وتعزيز قدراتها التكنولوجية والصناعية، مما يعزز مناعتها الاقتصادية، ويدفع عجلة التنمية المستدامة إلى الأمام. بالإضافة إلى ذلك، استخدمت روسيا الدبلوماسية الاقتصادية أداةً فعالة لبناء تحالفات جديدة، وتوسيع نطاق نفوذها، مما يسهم في تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية على الساحة الدولية.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.