شهد بحر الصين الجنوبي خلال اليومين الماضيين ثلاث محطات لافتة؛ أولًا: أطلقت الولايات المتحدة والفلبين تدريبات عسكرية مشتركة في المنطقة. ثانيًا: اندلع جدل حاد بين ممثلي الصين والولايات المتحدة بشأن القضية نفسها في مجلس الأمن الدولي. ثالثًا: أثار مقطع فيديو نشرته السفارة الأمريكية في سنغافورة على وسائل التواصل الاجتماعي حول بحر الصين الجنوبي ردًا شديد اللهجة من وزارة الخارجية السنغافورية. هذه التطورات الثلاثة (مناورات عسكرية، واشتباك دبلوماسي، وزلّة إعلامية) تكشف عن مشهد إقليمي مأزوم وسط تنافس الطموحات الكبرى، وما يبرز منها هو استعجال أمريكي، وصلابة صينية، وجنوب شرق آسيوي يسعى جاهدًا إلى رسم مساره الخاص في عاصفة الصراع.
في الميدان العسكري، كل تحرّك هو تموج محسوب على سطح مضطرب. حين نفّذت الولايات المتحدة والفلبين مناوراتهما المشتركة، لم يكن الأمر مجرد عرض للقوة؛ بل كان إعلانًا صريحًا. قطعت السفن الحربية المياه المتنازع عليها، وحلّقت طائرات بوينغ بيه-8 بوسيدون (P-8 Poseidon) في الأجواء، والأبرز كان مشاركة زوارق خفر السواحل في العمليات. هذا العنصر الأخير ليس تفصيلة هامشية؛ بل يعكس تعمّد طمس الحدود بين إنفاذ القانون والحرب، في تكرار لتكتيكات “المنطقة الرمادية” التي تلجأ إليها الدول للسيطرة دون إشعال نزاع شامل. بالنسبة لواشنطن، هذه خطوة استفزازية إضافية تجاه بكين، وتعزيز للعلاقة الدفاعية مع مانيلا.
لكن هذا الاستعراض العسكري لا يخلو من مخاطر؛ فالصين، المتيقظة دومًا، لن تترك هذه التحركات دون رد، بل إن المناورات الأمريكية– الفلبينية أثارت احتمالات تصعيد متبادل قد يخرج عن السيطرة، مما يجعل بحر الصين الجنوبي أشبه ببرميل بارود، حيث كل خطوة تختبر حدود الصبر والانضباط الإستراتيجي.
أما في ميدان الدبلوماسية، فالمعركة تُخاض بالكلمات التي لا تقل حدّة عن السلاح. في مجلس الأمن، تصادم ممثلو الصين والولايات المتحدة بلغة نارية تخفّت خلف العبارات المصقولة. استخدمت المندوبة الأمريكية، دوروثي شيا، قرار التحكيم الصادر عام 2016 سلاحًا، ووصفت سلوك الصين بأنه “خطير وغير قانوني”، مؤكدة دعمها للفلبين. في المقابل، ردّ قنغ شوانغ، القائم بالأعمال في البعثة الصينية لدى الأمم المتحدة، بقوة، كاشفًا محاولة واشنطن تغليف استعراضها العسكري بشعارات “حرية الملاحة”. لم تكن هذه مناظرة دبلوماسية؛ بل معركة شرعية على الساحة الدولية: الولايات المتحدة تسعى إلى تقديم الصين كدولة خارجة عن القانون الدولي، في حين تفضح الصين ازدواجية الخطاب الأمريكي، ونيته التدخلية في شؤون الإقليم.
ثم تأتي جبهة الرأي العام، حيث تدور الحرب في الفضاء الرقمي. أطلقت السفارة الأمريكية في سنغافورة مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، يصوّر مطالب الصين الإقليمية كما لو أنها “جار يستولي على الحيز العام”. الهجوم كان ساخرًا، ويهدف إلى تشويه صورة الصين، لكنه ارتد بنتائج عكسية. الصين وصفت الفيديو بـ”التشويه المتعمد”، في حين وجّهت الخارجية السنغافورية صفعة دبلوماسية نادرة، رافضة استغلال خلافات خارجية لإثارة الرأي العام المحلي. هذا الخطأ يكشف مخاطر الرهان الأمريكي على الدعاية الرقمية؛ فبدلًا من تقويض صورة الصين، نفّرت واشنطن أحد أبرز حلفائها الإقليميين المتمسكين بالحياد. إنه تذكير صارخ بأن دول جنوب شرق آسيا ليست جمهورًا سلبيًّا؛ بل أطرافًا فاعلة تصون استقلالها.
تسعى الولايات المتحدة إلى تحويل بحر الصين الجنوبي إلى ورقة مساومة في حروبها الأوسع المتعلقة بالتجارة أو التكنولوجيا، لكنها بذلك تعيد تكرار أسلوب بات مستهلكًا، فالصين واجهت هذه التكتيكات من قبل. قد تغذّي نتائج الانتخابات النصفية الأخيرة في الفلبين طموحات صقورية في مانيلا وواشنطن، لكن بكين لن تتراجع، وأي تصعيد سيُقابل بجدار صلب، تذكير واضح بأن زمن امتثال آسيا لأوامر واشنطن قد ولّى.
لكن أشد الانتقادات للنهج الأمريكي لا تكمن في أخطائه؛ بل في نفاقه. فبينما تتهم الولايات المتحدة الصين بتجاهل حكم التحكيم الصادر عام 2016، فإنها نفسها لم توقّع قط على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وهي المرجعية القانونية التي تطالب الآخرين بالامتثال لها. إنه معيار مزدوج صارخ: القانون الدولي مقدّس حين يخدم مصالح واشنطن، ومُهمَل حين يعارضها. هذا التديّن الانتقائي يسخر من الادعاء الأخلاقي الأمريكي، ويحوّل الدعوات إلى “النظام والقانون” إلى مجرد ضجيج أجوف. ويتكرر هذا النمط خارج هذه المياه أيضًا -في اتفاقيات المناخ، أو في تنظيم التعدين في أعماق البحار- حيث تفضّل واشنطن المصلحة الذاتية على المسؤولية المشتركة، وتتهرّب من التزاماتها في حين تطالب الآخرين بالتقيد بها. سياساتها تتأرجح بلا اتساق: انخراط اليوم، انسحاب غدًا، وفوضى في عالم يبحث عن استقرار. لم تعد الولايات المتحدة القوة التي كانت؛ بل قوة مترنحة، هالتها تبهت بفعل التناقض والأنانية المكشوفة، والعالم يرى ذلك بوضوح.
من هنا، فإن بحر الصين الجنوبي لم يعد مجرد مياه متنازع عليها؛ بل مرآة تعكس مستقبل منطقة آسيا والمحيط الهادئ. تحركات الولايات المتحدة -من السفن إلى التصريحات إلى التغريدات- توحي بقوة عظمى تتشبث بتاج يتداعى، فإستراتيجية واشنطن، القائمة على الانقسام، والمغطاة بالنفاق، لا تفشل فقط؛ بل تقوّض النظام الذي تزعم حمايته.
أما فيما يتعلق بدول جنوب شرق آسيا المحاصرة في هذه الدوامة، فإن الخلاص لا يكمن في الانحياز إلى طرف؛ بل في التماسك. يجب أن يكون البحر عامل وصل لا فُرقة، شريان حياة لتحقيق المنافع المشتركة، لا مسرحًا لصراعات الكبار. ومع اشتداد رياح التغيير، سيكون الثبات والوحدة هما المرسى الحقيقي للمنطقة. أما العاصفة فستمضي، والمستقبل سيتشكل في سكون ما بعدها، ليكون اختبارًا ليس للقوة فقط؛ بل للمبادئ والغايات.
المصدر: صحيفة غلوبال تايمز (Global Times)
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.