تعكس الجولات الثلاثة لمفاوضات عباس عراقتشي- ستيف ويتكوف الحقائق المتناقضة في العلاقات بين طهران وواشنطن، وهي حقائق تشير -في الوقت نفسه- إلى الحاجة إلى نوع من التفاهم وعمق عدم الثقة المتبادلة. كما تكشف محادثات عراقتشي- ويتكوف عن استهدافها إدارة التوتر، ومنع اندلاع أزمة مفتوحة، وليس إلى التوصل إلى اتفاق شامل.
دخلت إيران والولايات المتحدة في مفاوضات تصرّ طهران على أنها “غير مباشرة”، فيما لا تتوانى واشنطن -بين الحين والآخر- على ذكر “إجراء مفاوضات مباشرة” بعد رسالة من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الذي أسس لهذا المسار الدبلوماسي بإرساله خطابًا إلى القائد الأعلى في إيران علي خامنئي، في وقت سابق في شهر مارس (آذار) الماضي، قالت عنها مصادر إنها حددت شهرين مهلةً للتوصل إلى اتفاق بين الجانبين بشأن الملف النووي الإيراني.
وتعوّل طهران على هذه المباحثات لمنح اقتصادها حياة من جديد في ظل ما يعانيه من مشكلات تهدد البلاد برمّتها، فضلًا عن إزاحة هاجس العمل العسكري ضد منشآتها، وحالة “الأمننة” المفروضة على علاقاتها مع الدول المختلفة في العالم.
وتهدف إيران من خلال مباحثاتها في مسقط مع الجانب الأمريكي إلى استكمال عملية بناء الثقة التي بدأت في الاتفاق النووي 2015، إلى أن قلّصت طهران التزاماتها به بعد الانسحاب الأمريكي منه في مايو (أيار) 2018، ورفع العقوبات على نحو مؤثر يمكن التحقق منه، لكنها تؤكد -في الوقت نفسه- على عدم التطرق في أي مفاوضات إلى قدراتها العسكرية، ولا سيما الصواريخ، فضلًا عن الملفات الإقليمية الأخرى، جنبًا إلى جنب الرفض التام لتفكيك بنيتها التحتية لقدراتها النووية.
ويكشف تاريخ المفاوضات والتفاعل بين إيران ممثلة في الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة عن أنهما تندفعان في محادثاتهما بتأثير من محددين؛ الاضطرار الأمني، وضرورة التحرك استجابة للمصلحة العليا، فضلًا عن تفادي الصدام المباشر بسبب كلفته التي يدركها الطرفان، وتجلى ذلك في المحادثات الستّ التي أجرتها إيران والولايات المتحدة منذ انتصار الثورة حتى مفاوضات الاتفاق النووي، وفي جميعها، نجد المحدد الأمني بارزًا.
واصل عراقتشي توليه ملف المفاوضات مع أطراف “5+1” برجوعه ثانيةً إلى وزارة الخارجية وزيرًا لها، بعدما كان قاب قوسين أو أدنى من التوقيع على اتفاق في عام 2021 بصفته مساعدًا لوزير الخارجية وكبيرًا للمفاوضين الإيرانيين. وعمد المفاوض الإيراني، انطلاقًا من مبادئ التفاوض المختلفة، التي نظّر لها عراقتشي في كتابه “قوّة التفاوض”، الذي صدرت نسخته العربية عن “دار هاشم” مؤخرًا، إلى ترتيب الأوضاع في الداخل الإيراني تمهيدًا لبدء عملية تفاوضية من جديد، ربما بدأت ارهاصاتها من قبل حكومة مسعود بزشكيان وحتى في أثنائها إلى أن أُعلن البدء فيها.
في البداية، اعتمدت الحكومة خطاب “الوفاق الوطني” شعارًا لها لتهيئة المجال لتجسير الهوَّة والشروخ الموجودة داخل إيران بين المجتمع والنظام، وهو ما يراه عراقتشي عنصرًا مهمًّا من عناصر دعم المفاوضين على طاولة المفاوضات، إذ إن “المجتمع المتحد الذي يضم أشخاصًا منضبطين ومتعلمين، وتوجد به حالة من التلاحم الكبير يعد دائمًا من مصادر القوَّة”؛ لما له من آثار إيجابية في أثناء التفاوض.
يستغل عراقتشي أيضًا عنصر تراكم مخزونات اليورانيوم بدرجات تخصيب مختلفة تصل إلى 60% في بعضها، وحالة الغموض الموجودة تجاه البرنامج النووي الإيراني، كأحد عناصر القوّة للمفاوض الإيراني في أثناء جلوسه إلى طاولة المفاوضات. وحددت إيران النقاط الخلافية والقواسم المشتركة التي تجمعها بالطرف المفاوض الآخر(الولايات المتحدة)، فكلاهما يرغب في شفافية البرنامج النووي، وعدم التوجه نحو تصنيع القنبلة النووية، لكنهما يختلفان في كيفية الوصول إلى ذلك بدون تفكيك البرنامج نفسه، والحفاظ على السيادة الوطنية، والاستقلالية السياسية لطهران. وتؤكد طهران -مثلما نظّر عراقتشي- أن هدفها الثابت تخصيب اليورانيوم على أراضيها كهدف لا يغيّره مسار المفاوضات.
ونظرًا إلى أهمية التعبير ولغة الجسد في أثناء التفاوض، كانت شخصية عراقتشي هي ما رجّحت توليه وزارة الخارجية إلى جانب سمات أخرى بالطبع. في لغة الجسد، يميل عراقتشي إلى اتباع أسلوب “بوكر فيس” (poker face)، كما أن من سماته الشخصية القدرة على المساومة، وتمكّنه من لعبة “البازار” المشهور بها المفاوض والدبلوماسي الإيراني.
كما يلزم التفاوض إدارة عرض المعلومات، ووجود إستراتيجية إعلامية كما يرى عراقتشي، وهو ما يفسر ما نراه من الإعلام السريع، وبمعلومات غير متناقضة، من محاولات إيران تشكيل سردية تسود الإعلام؛ في محاولة لإدارة التفاوض بهدف التحكم في الرأي العام، وكذلك التأثير في أحداث التفاوض. وإدراكًا منه لقدرة الإعلام على خلق موجات ضغط على أطراف المفاوضات من خلال تسريب ممنهج للأخبار والمعلومات، وما إلى ذلك، يعمل عراقتشي بوصفه رئيسًا لوفد التفاوض، ومن خلال إستراتيجيته، على تحصين جبهته الداخلية أمام هذه الموجات بإطلاقه السردية الأولى والأقرب إلى الواقع.
انطلق الوزير عراقتشي في مقاله على صحيفة “واشنطن بوست”، بالإضافة إلى الكلمة التي كانت مُعدّة لأن يلقيها أمام مؤتمر “كارنيغي” للسياسات النووية، والتي ألغيت فيما بعد، ليرسم خطوطًا لإستراتيجية إيران التفاوضية في مسقط أمام الولايات المتحدة، محاولًا وضع الرأي العام أمام منطلقات طهران في تفاوضها غير المباشر مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي.
يكشف مقال عراقتشي عن أن إيران لم تعد تنظر إلى الدبلوماسية مع الولايات المتحدة على أنها إطار رمزي، أو مجرد استعراض سياسي، بل على أنها وسيلة عملية قائمة على التقييم الإستراتيجي لتوازن القوى والتحولات الدولية، وقد أصبحت هذه الرؤية جزءًا من الحسابات الرسمية الإيرانية في التعامل مع الأزمات الدولية، لا سيما في ظل تصاعد التوترات العالمية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية التي تمثل نموذجًا جديدًا للدبلوماسية المعقدة.
من اللافت في الخطاب الإيراني التركيز على مفهوم “التفاوض غير المباشر” بوصفه خيارًا إستراتيجيًّا، لا مجرد رد فعل على ظروف مؤقتة، فإيران، التي خاضت هذا النمط من المفاوضات في فيينا عام 2021، تعلم أن التفاوض غير المباشر يتيح لها التحكم في الإيقاع، وتحييد الضغوط الإعلامية، وضبط الرسائل السياسية، خاصة في ظل عدم الثقة المتراكمة مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
التقارير الإيرانية الأخيرة، ومنها تصريحات غريب آبادي وروانتشي أمام لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية، تشير إلى أن الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة في مسقط حققت تقدمًا ملموسًا على مستوى صياغة المبادئ العامة وجدول الأعمال، لكنها لم تدخل بعد في التفاصيل الفنية، وهو ما يعكس إدراكًا إيرانيًّا لأهمية “إدارة التوقعات” في هذه المرحلة الدقيقة، كما يؤطر “قوّة التفاوض”.
ويبرز العامل العُماني مجددًا بوصفه وسيطًا موثوقًا به، بعد نجاح مسقط في السابق في تهيئة الأجواء لجولات تفاوض حساسة، فالحياد الذي تتمتع به عُمان، وعلاقاتها الجيدة بالطرفين، يجعلاها قناة آمنة لتبادل الرسائل، خاصةً أن المفاوضات تتم داخل منزل وزير خارجيتها بدر البوسعيدي، وهو تفصيل رمزي يعكس الطابع الحميمي والمرن لهذا المسار التفاوضي.
فالموقف الإيراني -كما يطرحه عراقتشي- لا يمانع العودة إلى الاتفاق النووي، لكنه يشترط ضمانات صارمة لتنفيذ الالتزامات المتبادلة، وهو ما يُفسر تركيز إيران على رفع العقوبات المفروضة بموجب قوانين الكونغرس والأوامر التنفيذية، وليس فقط العقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي؛ مما يجعل نطاق التفاوض أكثر تعقيدًا واتساعًا.
وفي هذا السياق، تظهر إيران حرصها على تأكيد عدم سعيها إلى امتلاك سلاح نووي، استنادًا إلى المرجعيات الدينية والسياسية التي تحرّم هذا النوع من التسلّح. وقد دعّمت موقفها بتقارير أمريكية استخباراتية، منها تصريحات مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية بأن إيران لا تصنع حاليًا سلاحًا نوويًّا، ولم تعاود تفعيل برنامج التسلّح الذي أُوقف منذ عام 2003.
ومع ذلك، فإن استمرار الولايات المتحدة في فرض العقوبات والتصعيد العسكري في المنطقة يتعارض تمامًا مع فكرة الدبلوماسية الفعالة؛ حيث ترى إيران أن تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط لا يزيد فقط التوتر؛ بل يُضعف فرص التفاهم الحقيقي، ويؤكد -من وجهة نظرها- أن واشنطن لا تزال تراهن على أدوات الضغط بدلًا من الانخراط الجاد في حلول سياسية.
تصرّ إيران على أن أي حل قابل للاستدامة يجب أن يكون عادلًا ومتوازنًا، ويستند إلى احترام مبدأ السيادة المتبادلة. فبعد أكثر من سبع سنوات على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، لم تسجل أي جهة رسمية انتهاكًا إيرانيًّا فعليًّا للاتفاق؛ مما يجعل العودة إلى طاولة المفاوضات مرهونة برغبة أمريكية حقيقية لا تستند إلى شروط مسبقة.
كما أن طهران -بحسب كلمة عراقتشي- لا ترى نفسها دولة منغلقة اقتصاديًّا كما يُشاع في أوساط أمريكية؛ بل هي سوق واعدة، وفرص استثمارية تفوق تريليون دولار، وهو ما أثبتته مفاوضاتها السابقة مع شركة “بوينغ” لشراء 80 طائرة مباشرة بعد توقيع اتفاق 2015، قبل أن تتراجع واشنطن عن التزاماتها بفعل ضغوط داخلية، وجماعات ضغط متشددة.
يمثل البرنامج النووي السلمي بالنسبة لإيران جزءًا من خططها الإستراتيجية للتنمية المستدامة، لا سيما في ظل تزايد الطلب الداخلي على الطاقة، فقد بدأت طهران مسارها النووي منذ الخمسينيات ضمن برنامج “الذرة من أجل السلام”، وهي ترى أن استكمال هذا البرنامج ضرورة وطنية واقتصادية، وليس مجرد ورقة تفاوضية؛ لذلك فالفرصة الاستثمارية قد تكون متاحة للشركات الأمريكية، وهذا يشمل الشركات التي يُمكنها مساعدة طهران على توليد كهرباء نظيفة.
ويذكر عراقتشي في نص كلمته الملغاة أمام “كارنيغي” -في محاولة لإغراء الولايات المتحدة- أن إيران تملك حاليًا مفاعلًا واحدًا نشطًا فقط في محطة بوشهر للطاقة النووية. وتهدف إيران في خطة طويلة الأمد إلى بناء ما لا يقل عن 19 مفاعلًا إضافيًّا، وهذا يعني أن هناك عقودًا محتملة متاحة بمليارات الدولارات، وأن السوق الإيرانية وحدها كبيرة بما يكفي لإحياء الصناعة النووية الأمريكية “المتعثرة”.
وكشف عراقتشي في كلمته عن “الضمانات” التي ربما تراها طهران ضرورية لاستدامة الاتفاق؛ فهو يرى أن أي اتفاق قد يُتوصَّل إليه يجب أن يرتكز على حماية المصالح الاقتصادية الإيرانية، إلى جانب برنامج قوي للرصد والتحقق يضمن الطبيعة السلمية للبرنامج النووي الإيراني، ويراه وحده قادرًا على تحقيق الاستقرار والثقة على المدى الطويل.
تشير إيران إلى أن نظام التفتيش الذي وافقت عليه بموجب اتفاق 2015 هو الأكثر صرامة في تاريخ الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما يدحض الاتهامات الغربية بعدم الشفافية. لكن في المقابل، ترى أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق ألحق أضرارًا فادحة بالثقة المتبادلة، ولا يمكن بناء مسار تفاوضي جديد دون معالجة هذا الخلل.
ينطلق الحراك الإيراني الجديد من فرضية أن “الاتفاق السابق غير كافٍ”، وهو ما يعكس تحوّلًا داخليًّا في المزاج السياسي الإيراني، الذي بات يطالب بضمانات تنفيذية، وربما حتى تعديلات هيكلية تضمن حقوق إيران الاقتصادية، وتوسّعها التكنولوجي؛ لذلك، فإن أي اتفاق جديد يجب ألا يكون مجرد نسخة محدثة من اتفاق 2015.
تسعى إيران إلى إعادة تعريف علاقتها مع الولايات المتحدة من منظور متكافئ، لا يسمح بتكرار تجربة الإملاءات، فهي تدعو إلى مفاوضات تركز على الملف النووي، ورفع العقوبات، دون إدراج قضايا إقليمية أو أمنية يمكن أن تُستخدم لاحقًا ورقة ضغط ضدها، وترى أن هذا الإطار المحدد يضمن توازنًا أفضل، ويمنع الانحراف عن الأهداف الرئيسة.
الرسائل الإيرانية لا تقتصر على الجانب الأمريكي فقط؛ بل تُوجَّه أيضًا إلى الداخل الإيراني، حيث تؤكد القيادة السياسية وحدة الموقف الوطني، وضرورة عدم الانخداع بالتصريحات الأمريكية، في ظل إدراك أن أي تراجع أو انقسام داخلي يمكن أن يُستغل دوليًّا للإضرار بالموقف التفاوضي.
ومع أن الجولة الأولى من المفاوضات في مسقط كانت “إيجابية” -بحسب روانتشي- فإن المسؤولين الإيرانيين حذرون في إطلاق الأحكام، ويصرون على أن المرحلة الحالية لا تزال في طور “توضيح أسس التفاوض”، وهو ما يدل على أن إيران لن تنخرط في أي مفاوضات موسعة دون تأمين الشروط السياسية والفنية الأساسية.
تشير بيانات لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني إلى أن مسقط ستواصل أداء دور الوسيط في المفاوضات، مع اتفاق مبدئي على عقد جولة ثانية في عاصمة أوروبية لاحقًا. هذا التطور يعكس رغبة مشتركة في تدويل العملية التفاوضية ضمن أطر مقبولة دبلوماسيًّا؛ لتفادي أي استقطاب إقليمي، أو تسييس مفرط.
إلى جانب الرسائل الرسمية، هناك أيضًا رسائل ضمنية من عراقتشي بأن طهران تدرك جيدًا تكلفة الحروب، وأنها تسعى إلى تفادي سيناريو كارثي كالذي شهدته المنطقة في العراق وأفغانستان، لكنها -في الوقت نفسه- لن تقبل أن تكون ضحية لعبة القوة الأمريكية، وهي مستعدة للرد إذا فُرضت عليها المواجهة.
تعكس تصريحات عراقتشي استعدادًا واضحًا للتفاوض، بشرط أن يكون هناك مسار واضح ومحدد الأهداف، وهذا يضع الكرة فعليًّا في الملعب الأمريكي، الذي يجب أن يقرر ما إذا كان يريد اتفاقًا واقعيًّا، أم مجرد تكتيك لاحتواء الموقف الدولي دون معالجة جذوره الحقيقية.
من زاوية أخرى، تسعى إيران إلى حشد دعم دولي لرؤيتها، خاصة من القوى غير الغربية التي تشاركها القلق من انتقائية النظام الدولي في تطبيق القوانين، وهذا يعكس توجهًا إستراتيجيًّا نحو التعددية القطبية، كوسيلة لإعادة توازن النظام الدولي، وتقويض هيمنة القرار الغربي الأحادي.
وتعتمد إيران -بوضوح- على نهج تفاوضي براغماتي، يتجاوز الإطار التقليدي للاتفاقات الدبلوماسية، وهو ما يظهر جليًا في أسلوب عباس عراقتشي الذي يراهن كثيرًا على تشابك المصالح الاقتصادية مع الشركات الأمريكية كضمان أساسي لاستدامة أي اتفاق نووي جديد. تعكس هذه الإستراتيجية الإيرانية تجربة طهران المريرة مع انسحاب إدارة ترمب من اتفاق عام 2015، إذ ترى القيادة الإيرانية أن المصالح الاقتصادية المشتركة -إذا ترسخت- ستقلل احتمالات تقلب السياسات الأمريكية مستقبلًا، وستخلق واقعًا عمليًّا يجعل إعادة فرض العقوبات أكثر صعوبة وكلفة سياسية واقتصادية.
وفي ظل هذه الرؤية، تسعى إيران إلى صيغة أكثر صلابة واستمرارية لرفع العقوبات، بحيث تكون المنافع الاقتصادية واضحة وملموسة، وهو ما يمثل النقطة الأكثر حساسية وتعقيدًا في المفاوضات المقبلة. وتدرك طهران جيدًا أن الثقة السياسية وحدها لا تكفي لضمان استقرار الاتفاقات؛ بل تحتاج إلى ضمانات اقتصادية ومؤسسية ترفع تكلفة الانسحاب من الاتفاق لأي إدارة أمريكية مقبلة. هذا المسار يعكس إدراكًا إيرانيًّا عميقًا بأن العقوبات ليست مجرد أداة ضغط اقتصادي؛ بل أيضًا سياسية وأمنية، وأن استدامة الاتفاق مرتبطة -ارتباطًا وثيقًا- بمصالح شركات عملاقة يمكنها التأثير في صناع القرار بواشنطن.
على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال السياق الأمني والعسكري المتصاعد في المنطقة، خاصة مع ارتفاع أخطار المواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل، التي لم تعد مجرد احتمال نظري؛ بل باتت واقعًا ملموسًا تعكسه الضربات الإسرائيلية الأخيرة على الأراضي الإيرانية. هذا الوضع يفرض على إيران الحاجة الملحّة إلى اتفاق سريع -ولو مرحليًّا- لتخفيف الضغوط الأمنية والاقتصادية المتزايدة؛ ومن ثم منح طهران هامشًا أوسع للحركة الدبلوماسية والسياسية، وإبعاد شبح الحرب التي قد تكون نتائجها كارثية ليس فقط على إيران وإسرائيل، وإنما على المنطقة كلها.
في الختام، يبدو أن إيران مصممة على خوض هذه الجولة الجديدة من التفاوض بأسلوب أكثر واقعية، وأقل انفعالًا، مع تعزيز قدرتها على المناورة من خلال أدوات القوة الناعمة، والخطاب الحقوقي، لكنها -في الوقت نفسه- تضع حدودًا واضحة لأي انفتاح قد يُساء تفسيره، لتؤكد أن السلام خيار مبدئي، لكنه لن يكون بأي ثمن.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.