تقدير موقف

مغامرة السابع من أكتوبر.. دوافع السنوار ورهاناته


  • 16 نوفمبر 2024

شارك الموضوع

فوجئ العالم أجمع، صباح يوم السبت، السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بأول وأكبر هجوم عسكري يقوم به طرف عربي على الأراضي التي ادعت إسرائيل ملكيتها منذ حرب عام 1948، قُتل فيه (1200) من العسكريين والمدنيين[1]، واحتُجز (240) رهينة[2]. أدى هذا الهجوم إلى شن إسرائيل حملة عسكرية انتقامية على غزة في اليوم التالي تحت اسم “السيوف الحديدية”[3]، وما زالت مستمرة حتى الآن، نتج عنها تسوية جميع مباني قطاع غزة بالأرض، وإعادة احتلاله بالكامل، والسيطرة على جميع معابره مع مصر، وقتل أكثر من (41.500) حتى الأول من أكتوبر (تشرين الأول) بحسب وزارة الصحة الفلسطينية[4]، نحو (70%) منهم من النساء والأطفال وفق تقارير الأمم المتحدة[5]، بجانب اغتيال عدد كبير من قادة حركة حماس وعائلاتهم، وصولًا إلى زعيمها يحيى السنوار، يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، أي بعد مضي عام من هذا الهجوم الذي أطلقت عليه الحركة اسم “طوفان الأقصى”.

ظروف النشأة.. المرجعية.. والأهداف

نشأت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في العاشر من سبتمبر (أيلول) 1987، من رحم جماعة الإخوان المسلمين في مصر فكرًا وتنظيمًا وأيديولوجيةً وتكتيكًا، وكان هدفها المُعلن “تحرير أراضي فلسطين كاملةً من نهر الأردن حتى البحر المتوسط”، ورفض أي “حلول سلمية لا تؤدي إلى نهاية الكيان الصهيوني” حسب وصفها، وإدانة أي طرف فلسطيني يوافق على “قرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم (181)، الصادر بتاريخ 29 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1947، لتقسيم فلسطين، وقرار مجلس الأمن رقم (242)”، المبني على أساس عودة إسرائيل إلى حدود ما قبل الخامس من يونيو (حزيران) 1967، ومبررها في ذلك، أن “فلسطين وأراضيها وقف إسلامي ووطن تاريخي للفلسطينيين بعاصمتها القدس، ولا يجوز التنازل عن أي جزءٍ منها”[6].

بعيدًا عن نظريات المؤامرة، التي تنبع في العادة من حالة عجز عن فهم مجريات الأحداث السياسية المعقدة، التي تدعي إحداها أن “حماس منتج إسرائيلي أسسته ودعمته أجهزتها الأمنية لضرب وحدة الصف الفلسطيني من داخله”، تبدو هذه النظرية غير واقعية، ولا دليل ماديًّا واحدًا عليها. قد يكون من المفيد، التفرقة بين “التآمر” الذي يحدث في العادة بين مجموعة محدودة جدًّا من الأفراد تجاه فرد أو أفراد آخرين، و”المخططات” التي لا يمكن لأي دولة، لا سيما في حالة صراع، أو تواجه تحديات كبرى، أن تعيش من دونها.

وفقًا لهذا المبدأ، نشأت حماس نشأة طبيعية داخل البيئة الفلسطينية، التي كانت جميع العوامل الداخلية والإقليمية، والعالمية كذلك، مهيأة لخروجها إلى النور. في ذلك الوقت، حدثت الانتكاسة الكبرى التي تعرضت لها منظمة التحرير الفلسطينية، بعدما أجبرها الاحتلال الإسرائيلي على مغادرة لبنان عام 1982، وهجرة قيادتها إلى تونس؛ ومن ثم فقدان المقاومة الفلسطينية لآخر بقعة أرض محيطة بإسرائيل يمكن أن تنطلق مقاومتها منها، وتخيل إسرائيل أنها قد تخلصت أخيرًا من عبء القضية الفلسطينية. يضاف إلى ما سبق، سياق إقليمي خرجت فيه مصر من معادلة الصراع العسكري مع إسرائيل، وشيوع الأفكار الإسلاموية بعد انتصار الثورة “الإسلامية” في إيران، وتلقي ما سُموا “مجاهدين” في أفغانستان للدعم غير المحدود عربيًّا وإسلاميًّا وأمريكيًّا وتمجيد “بطولاتهم”، وإن كان الدافع خلف هذا كله مواجهة الشيوعية، لكنه خلق مزاج شعبي عربي وفلسطيني يرى أن شعار “الإسلام هو الحل” ربما يكون الأكثر موافقة لظروف المرحلة، والقادر على تحقيق ما عجزت عنه النظم السياسية التقليدية واليسارية القومية.

استغلت حماس انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى لعام 1987، لتعلن ظهورها لتأكيد وجود فصيل “مقاوم” داخل الأراضي الفلسطينية. وربما غضت إسرائيل الطرف عنها في بدء الأمر معتقدة أنه يمكن التحكم بها، ودرء خطرها لو تعاظم، في إطار مخطط تريد التأكيد من خلاله، وعلى نحو متكرر، أن “منظمة التحرير الفلسطينية لا تمثل -كما تدعي- الشعب الفلسطيني بكامله” لتستدل بظهور حماس وغيرها من التنظيمات على ذلك.

الدوافع الداخلية

معرفة طبيعة العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية، وفصيلها الأكبر فتح وحركة حماس قد يكون مدخلًا جيدًا لفهم دوافع السنوار الداخلية، التي وقفت خلف اتخاذه قرار ما سُمِّيَت عملية “طوفان الأقصى”. في كتاب “المئذنة الحمراء- السيرة الذاتية لإبراهيم غوشة”، الناطق الرسمي باسم حماس خلال الفترة من 1991 إلى 1999، ذكر أن “موقف الحركة من منظمة التحرير الفلسطينية وقادتها ومؤسساتها ظل غامضًا منذ قيام الحركة عام 1987 حتى اتفاق أوسلو 1993”.

وفي سرده للأحداث بالفترة من 1990 إلى 1991، تحت عنوان “حماس والعلاقة مع فتح والمنظمة”، يُشير إلى “تلقي دعوة في بداية عام 1990 من الشيخ عبد الحميد السايح، رئيس المجلس الوطني الفلسطيني -آنذاك- “يدعو فيها حماس لأول مرة إلى حضور اجتماع في فندق القدس بعمان لدراسة معايير اختيار المجلس الوطني”، ثم يُكمل أن أعضاء المجلس التنفيذي للإخوان المسلمين ]التي كانت لا تزال حماس في الأردن حينذاك جزءًا منها[ التقوا لدراسة الدعوة.

ويضيف قائلًا إن “بعض أعضاء المجلس كانوا متشجعين للمشاركة”، لكنه هو شخصيًّا وحماس رفضوا الاعتراف بالمنظمة على أساس “عدم تشكلها عبر انتخابات حرة ونزيهة، إلى جانب اعترافها بالقرار رقم (242) الذي يتنازل عن 78% من فلسطين، وهو ما حدث في اجتماع المجلس الوطني التاسع عشر الذي عُقد في الجزائر يوم 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 1985”. ثم تقدمت الحركة بمذكرة إلى المجلس الوطني الفلسطيني ورئيسه عبد الحميد السائح تؤكد “أن حماس ليست ضد الدخول في المجلس الوطني الفلسطيني، أو الدخول في منظمة التحرير، ولكن يجب أن يكون هذا المجلس منتخبًا من الشعب الفلسطيني حيث وجد”. كما شددت حماس على أن “صلاحيات هذا المجلس لا بد أن تنظر في جميع القرارات والاتفاقيات التي عُقدت أو تبناها المجلس الوطني أو منظمة التحرير، ويكون رأي الأغلبية هو المقرر”، وفيما إذا تقرر “أن يرفض المجلس بعض القرارات، ومنها القرار رقم (242) الذي اعترف بالكيان الصهيوني، فهذا من حقه”.

أما فيما يخص الانتخابات، فقد طالبت حماس حال تعذر تنظيمها “أن نمثل في المجلس بنسبة لا تقل عن 40% من أعضاء هذا المجلس، وفقًا لشعبيتنا في الشارع الفلسطيني في الداخل والخارج، وهذه النسبة لم تأتِ من فراغ بدون دراسة؛ لأن جميع الانتخابات التي تمت في النقابات والجامعات الفلسطينية في الداخل والجمعيات الطلابية كانت تؤشر إلى أن حماس تحصد ما لا يقل عن 40% في ذلك الوقت”.

في المقابل، وبحسب شهادة غوشة، فإنه سلم المذكرة بنفسه إلى الشيخ السايح، وإن الأخير قال له إنه لن يتمكن من إعطائه كلمة قبل العودة إلى عرفات، الذي رفض مطالب حماس، وعرض بدلًا منها “18 مقعدًا لحماس؛ أي 4% من أعضاء المجلس”، وهو ما رفضته الحركة.

عندما خرج السنوار من الأسر عام 2011 في صفقة تبادل، وتولى منصب رئيس المكتب السياسي لحماس في قطاع غزة من 13 فبراير (شباط) 2017، كانت الحركة في أشد الأوضاع صعوبة منذ نشأتها، حيث كانت علاقتها متوترة جدًّا مع الحكومة المصرية، التي تمثل أراضيها منفذها الوحيد على العالم الخارجي، بعدما انحازت قيادتها المقيمة في الدوحة وإسطنبول لجماعة الإخوان، وخسرت علاقتها مع ما يسمى “محور المقاومة” بعدما دعمت السياسة التركية- القطرية المشتركة في سوريا، وتورطت في التهييج الطائفي ضد إيران وحزب الله؛ ومن ثم فقدت حماس عمقها الجغرافي، وسندها العسكري، ولم يبقَ لها سوى الدفعات المالية التي تقدمها الحكومة القطرية بالاتفاق مع الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، ليظل القطاع في حالة كمون يحفظ أمن إسرائيل، ولكن دون أي تنمية، أو رفع للحصار.

الدوافع الخارجية

شكلت ما تسمى “الاتفاقيات الإبراهيمية” عام 2020 -فيما يبدو- أكبر عامل محفز للسنوار ومن خلفه الجناح العسكري لحماس لبدء التخطيط لهذه العملية، بعدما خرقت بعض الدول العربية “الفيتو” الفلسطيني التاريخي الذي أكد العرب مرارًا وتكرارًا التزامهم به، وتمت مأسسته عبر مقررات قمة بيروت عام 2002 من خلال مبادرة السلام العربية التي قررت بالإجماع أن “أي علاقات تطبيع مع إسرائيل لا يمكن أن تحدث إلا بعد الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الخامس من يونيو (حزيران) 1967”.

شكلت هذه الاتفاقيات صدمة للشارع الفلسطيني، وعارضتها السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، وبدا أنها تأكيد لنظريات اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي ادعى أن “العلاقة مع العرب يمكن أن تتم دون الحاجة إلى حل القضية الفلسطينية”، كما أن هذه الاتفاقيات وُقِّعَت مع بلدان لم تخض قط أي شكل من أشكال الحروب أو الصراعات مع إسرائيل، ولا يمكن تبريرها مثلما هي الحال لمصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، الذين كانت أراضيهم محتلة، وفي حالة حرب مع إسرائيل، وكانت الاتفاقيات تبدو ضرورية لإنهاء الاحتلال أو السعي إلى إنهائه.

في المقابل، ما يُسمى “محور المقاومة”، بدا أنه في حالة من الرضا على ما وصل إليه من خلال تمكنه من تثبيت أركان النظام السوري، والانشغال في حروب وصراعات على السلطة والثروة في لبنان واليمن والعراق، وتطور المسار التفاوضي مع الولايات المتحدة، الذي قد يُفضي إلى توقيع اتفاق نووي جديد.

أخيرًا، بدا أن المفاوضات السعودية- الأمريكية قد وصلت إلى مرحلة متقدمة، وستحقق من خلالها السعودية المعادلة الصعبة التي لم تنجح فيها بلدان ما تسمى “الاتفاقيات الإبراهيمية” من خلال التوقيع على اتفاقية دفاع مشترك مُلزمة مع الولايات المتحدة، وحق السعودية في تخصيب اليورانيوم، وحصولها على الأسلحة الحديثة التي كانت حكرًا على إسرائيل وحلفائها المقربين في الناتو، وتصنيع جزء من مكوناتها على أراضيها، وذلك دون نسيان القضية الفلسطينية، حيث رهنت السعودية إقامة علاقات مع إسرائيل بخطوات جادة منها، وتحسين أوضاع الفلسطينيين المعيشية، والتوصل إلى مسار موثوق ومحدد المدة ومُلزم يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وبالإضافة إلى موقفه الحاد الرافض لما تسمى “الاتفاقيات الإبراهيمية”، بدا أن “أبو مازن” مرحب بهذه الخطوات السعودية، ومستعد لتأييدها مع حصوله على وعود بعملية دعم شاملة لسكان الضفة، وتقوية السلطة، والضغط على إسرائيل من خلال الولايات المتحدة لتخفيف قبضتها الأمنية.

بدا للسنوار وسط كل هذه التطورات أن حماس ستصبح معزولة، ولا وجود لها في حسابات كلا المحورين الافتراضيين في المنطقة: “الاعتدال” و”المقاومة”، وأوضاع سكان القطاع تزداد سوءًا، في حين يبدو سكان الضفة في حال أحسن مقارنة بوضعهم وسط ارتفاع لبعض الأصوات الفلسطينية التي ترى أن شعارات المقاومة لم تحقق أهدافها؛ ومن ثم ربما يكون على موعد مع انقلاب شعبي على حكم حركة حماس في غزة.

الرهانات

داخليًّا: وفق مبدأ “القياس” في الفقه الإسلامي، الذي يعني في أحد تعريفاته “حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم”، مقابل جلعاد شاليط، وهو مجرد جندي لم يتجاوز عمره 25 عامًا، أُفرِجَ عن (1027) أسيرًا فلسطينيًّا، واعتمادًا على القياس بهذه التجربة، لو أُسِرَ -على سبيل المثال- (15) ضابطًا وعسكريًّا من خلال عملية في ما يسمى “غلاف غزة”، يمكن التوصل إلى صفقة يتم بموجبها تبييض جميع السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين؛ ومن ثم تمحو حماس كل ما لحق بها من اتهامات روجت لها السلطة وخصومها بأنها عرضت القطاع للدمار والحصار والتجويع منذ انقلابها العسكري عام 2007، وتحقق ما عجزت عن تحقيقه جميع الحركات والقيادات الفلسطينية الأخرى، فتنال شرعية داخلية مع شعبية كاسحة تمكنها من فرض هيمنتها على منظمة التحرير الفلسطينية، وامتلاك الحق في تمثيل الصوت الفلسطيني داخليًّا وخارجيًّا.

إقليميًّا: التأكيد من خلال هذه العملية أن القضية الفلسطينية ما زالت حية، وأنه لا مجال لسلام وعلاقات تطبيع مع إسرائيل دون المرور من البوابة الفلسطينية، ومن يملك مفتاح هذه البوابة حماس؛ ومن ثم “فإن على أي نظام عربي يريد إقامة علاقات مع إسرائيل أن يعود إلينا أولًا، ومنا يحصل على المباركة لهذه الخطوة، لا عن طريق سلطة رام الله”.

دوليًّا: إنهاء عزلة حركة حماس، وفرض نفسها طرفًا أصيلًا وأساسيًّا في أي مفاوضات مع القوى الغربية بشأن أمن إسرائيل، أو التسوية السياسية معها، ورفعها من على قوائم الجماعات الإرهابية لكونها صاحبة التمثيل الأكبر في منظمة التحرير الفلسطينية، المعترف بها دوليًّا ومن إسرائيل “ممثلًا شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطيني”.

ذاتيًّا: إذا تحققت هذه الأهداف التي بدت للسنوار (ممكنة) نظريًّا؛ سيصبح الشخصية الأولى في تاريخ النضال الفلسطيني، وسيتخطى بذلك شخصية ياسر عرفات وغيره من الزعامات الوطنية الفلسطينية.

وفق مبدأ القياس، يبدو أن السنوار وضع رهاناته، ولم يكن يتخيل أن إسرائيل يمكنها أن تضحي بأسراها، لا سيما لو كانوا ضباطًا في الجيش الإسرائيلي، وأعدادهم تتخطى أصابع اليدين. كما راهن على أن الأمور لو تفاقمت فلا بد أن تتدخل إيران ومحورها، وأنه بهذه العملية يدفعها دفعًا إلى اتخاذ هذه الخطوة، ولن تقوى إسرائيل (وفق معتقدات الماضي على خوض حرب طويلة على أكثر من جبهة).

ظهرت نظرية بعد ما تسمى عملية “طوفان الأقصى”، تدعي أن طهران وراء هذا القرار. تبدو هذه النظرية دعائية في إطار حرب المحاور أكثر منها منطقية؛ فالولايات المتحدة أكدت منذ الأيام الأولى عدم وجود أي دليل على أن إيران خلف هذا القرار. كل ما سُرِّب من معلومات يؤكد أن السنوار عرض على الأمين العام السابق لحزب الله والقيادة الإيرانية القيام بعمل عسكري متزامن ضد إسرائيل دون ذكر تفاصيل، وأنه تلقى ردًا يفيد بأن “الوقت غير مناسب لتحرك كهذا”، وربما ما زاد من إحباط السنوار، عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران بوساطة صينية. عمليًّا: آخر ما كانت ترغب فيه طهران في ذلك الوقت إفساد مسارها التفاوضي مع واشنطن، في ظل وضعها الاقتصادي الصعب، والضغوط الشعبية التي يتعرض لها النظام، وحاجته إلى التوصل إلى عقد صفقة. واقعيًّا: ثبت من خلال مسار الأحداث أن “مغامرة” السنوار خلقت ضررًا كبيرًا لإيران ومحورها أكثر من أي طرف آخر بعد الفلسطينيين في غزة.

الخاتمة

راهن السنوار على أن يكون “سيد اللعبة”، ووضع حركة حماس لأول مرة على رأس القيادة السياسية للشعب الفلسطيني، وأن تؤدي صفقة تبييض السجون المفترضة إلى الإفراج عن القيادي في حركة فتح مروان البرغوثي، والتنسيق مع التيارات المنشقة من حركة فتح، إلى جانب حركة الجهاد والفصائل القريبة من حماس، لتشكيل أكبر كتلة حاكمة في منظمة التحرير الفلسطينية.

حاول السنوار، من خلال عملية “طوفان الأقصى” تحقيق ما عجزت عن تحقيقه جميع قيادات حماس السابقة، عبر منحها شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني، من خلال عملية عسكرية خاطفة، يُؤسَر فيها عدد من الجنود الإسرائيليين، تؤدي إلى ضربات إسرائيلية؛ ومن ثم تدخل مصري كالمعتاد، وصولًا إلى هدنة تعقبها مفاوضات تبادل أسرى، ونيل شعبية داخلية يتفاوض بعدها مع حركة فتح من مركز قوة لتنال الحركة وحلفاؤها مقاعد داخل منظمة التحرير الفلسطينية تمنحها الأكثرية، أو الثلث المعطل على أقل تقدير، واستعادة مركزية القرار الفلسطيني للمنظمة؛ ومن ثم ترك السلطة لتولي شؤون القطاع وحاجات سكانه اليومية، ورفع هذا العبء من على كاهل الحركة التي سيكون لها الصوت المرجح في أي قرار فلسطيني مع إسرائيل والعالم الخارجي، إلى جانب منحها شرعية دولية، وإنهاء الحصار على قطاع غزة، وربما وراثة حركة فتح في المدى المنظور بعد رحيل أبو مازن، في ظل تفتت الحركة، وغياب قيادة فتحاوية قادرة على جمع أطرافها المختلفة تحت مظلتها، وهو ما يفسر موقف السلطة البارد تجاه ما حدث وما زال يحدث في غزة، في إطار التنافس بين الطرفين على السلطة.

رهان السنوار على الشارع العربي، وتحركه بعد هذه العملية، ويبدو أن رهانه كان مفرطًا في التفاؤل، وبعيدًا عن الواقع، وغير مدرك لحالة الإنهاك الذي تعرضت له الشعوب العربية نتيجة الصراعات والضغوطات الاقتصادية.

النظم العربية قامت بكل ما يمكنها فعله وفقًا لقدراتها، ومواقفها لم تكن مرتبطة بحب أو كراهية أو دعم للمقاومة، أو رفضها، كما يُصوَّر الأمر على نحو تبسيطي؛ بل بمصالح حيوية، وحسابات دقيقة، وظروف داخلية وإقليمية ودولية، والأهم أن قيام حماس بهذه الخطوة ونجاحها (إذا تحقق) يعني عودةً من جديد لتيار الإخوان المسلمين، وتأكيدًا لنظريات بعض الأطراف الغربية -بدا أنها قد تراجعت- ادعت من خلالها أن المفتاح للسلام والاستقرار في المنطقة مرهون بتولي هذا التيار للسلطة، ومع امتلاكه ورقة فلسطين ستكون هناك مصلحة دولية لاسترضائه، ربما على حساب مصالح الدول العربية الرئيسة.

خرجت العملية عن نطاق السيطرة، ولم يتمكن مقاتلو حماس من ضبط الأداء العسكري والشعبي، وحدثت حالة من الفوضى أدت إلى مقتل وأسر عدد من النساء والأطفال والعجائز المدنيين، وهو ما مكن إسرائيل من اجترار الدعم والتعاطف الدولي بلا أي قيود على ردود فعلها، وصولًا إلى جرائم الإبادة الجماعية الحالية التي أكدها قرار المحكمة الدولية. وإدراكًا منها لفداحة هذا الأمر، تبرأت قيادات حماس من هذه التصرفات، ونسبتها إلى جماهير “غير منضبطة”، ولا “تنتمي إلى الحركة”[7].

أخيرًا، لا يزال الوقت مبكرًا للحكم على نتائج عملية “طوفان الأقصى”، وما ستتمخض عنه من نتائج نهائية، وربما أفضل من يستطيع أن يحكم عليها هم قادة حماس أنفسهم، من خلال سؤالهم: “لو عاد بكم الزمن إلى الوراء قليلًا، هل كنتم ستتخذون قرار القيام بتلك العملية أم لا؟”!

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع