مقالات المركز

مستقبل النفوذ الروسي في جنوب القوقاز على وقع نتائج حرب كاراباخ الأخيرة


  • 31 يناير 2024

شارك الموضوع

تعد جنوب القوقاز منطقة ذات أهمية إستراتيجية كبيرة لكثير من اللاعبين الدوليين، ومن بين هؤلاء اللاعبين تأتي روسيا بوزنها وتأثيرها. بعد الحرب الأخيرة في إقليم ناغورني كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، طرأت تحولات جديدة على المشهد السياسي والإستراتيجي في المنطقة، مما يستدعي إعادة تقييم دور روسيا ونفوذها وسياستها تجاه جنوب القوقاز.

من الناحية التاريخية، تُظهر كثير من الأمثلة كيف أن التغيرات في العلاقات الدولية يمكن أن تؤثر في توجهات السياسة الخارجية، والتحالفات الإقليمية. على سبيل المثال، في القرن العشرين، شهدت دول أوروبا الشرقية تحولات كبيرة في العلاقات بينها، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، مما أدى إلى ظهور تحالفات جديدة، وتبادل للنفوذ بين القوى الإقليمية والعالمية.

في ضوء هذه التحولات، يبرز دور القوى العظمى، مثل روسيا، في تحديد الديناميات الإقليمية، وتشكيل سياسات الدول الصغيرة المجاورة. ومن المهم فهم كيف أن التصريحات السياسية، والتحركات العسكرية، تعكس استراتيجيات النفوذ والتأثير في المنطقة.
في ظل التطورات السياسية والاقتصادية في جنوب القوقاز، تبرز أهمية فهم دور روسيا بوصفها قوة إقليمية وتأثيرها على الديناميات الإقليمية والعلاقات الدولية. إن تحليل هذا الدور يتطلب النظر إلى كثير من العوامل، بدءًا من التحولات التاريخية في المنطقة، وصولًا إلى النظريات السياسية الحديثة.

أحد الجوانب الرئيسة التي يجب مراعاتها هو النفوذ الاقتصادي والعسكري لروسيا في جنوب القوقاز. فعلى الرغم من التحولات السياسية والجيوسياسية في العقود الأخيرة، لا تزال روسيا تحتل موقعًا مهمًا في الإقليم، من خلال قواعدها العسكرية، والعلاقات الاقتصادية الوثيقة مع الدول المجاورة. يعكس هذا النفوذ الروسي تاريخًا طويلًا من العلاقات، والتبادلات الثقافية والاقتصادية في جنوب القوقاز.

من الجوانب الأخرى التي يجب مراعاتها، العوامل الجيوسياسية والإستراتيجية؛ إذ تعد جنوب القوقاز منطقة تنافس بين القوى الإقليمية والدولية، مما يعكس النزاعات القديمة والحديثة، والصراعات الجيوسياسية، ويؤدي دور الوسيط في هذه الديناميات دورًا حاسماً في تشكيل المستقبل السياسي والاقتصادي للمنطقة.

من الأمثلة التاريخية التي يمكن الاستفادة منها أيضًا، النزاعات القديمة والحديثة في جنوب القوقاز، ومنها حروب ناغورنو قره ‌باغ، والصراعات الإثنية والدينية الأخرى. كما يمكن استخدام النماذج السياسية الحديثة، مثل تحولات الديمقراطية، والهوية الوطنية، لفهم التحولات الراهنة في المنطقة، وتأثيرها في العلاقات الدولية.

مقاربات روسيا لعملية التفاوض: تجسدت مقاربة روسيا لعملية التفاوض بين أرمينيا وأذربيجان في استضافة موسكو للاجتماعات والمحادثات المهمة. تأتي هذه الخطوة كجزء من السعي الروسي إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة، والإسهام في إيجاد حلول دبلوماسية للصراع. تتطلع روسيا إلى أن تؤدي دورًا مهمًّا في التسوية النهائية، وترى في تنظيم المحادثات في موسكو فرصة لتعزيز دورها بوصفها وسيطًا فاعلًا وموثوقًا به.

لا ترغب روسيا في الانسحاب تمامًا من أرمينيا وجنوب القوقاز، بل تسعى إلى الحفاظ على وجودها الإستراتيجي، وتعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية في الإقليم.

الصراع في أوكرانيا وتأثيره في سياسات روسيا: تثير الأحداث في أوكرانيا تساؤلات عن مدى تأثيرها في سياسات روسيا في جنوب القوقاز. يرى بعض المراقبين أن الصراع في أوكرانيا قد يؤثر في إستراتيجيات روسيا في المنطقة، لكن التحليل يظهر أن روسيا تتبنى نهجًا واقعيًّا ومتزنًا يهدف إلى الحفاظ على مصالحها ونفوذها في جنوب القوقاز بشكل عام.

روسيا وأرمينيا

تواجه روسيا تحديات عدة في جنوب القوقاز، منها التنافس الدولي، والتوترات الإقليمية، والتغيرات الجيوسياسية. لكن مع ذلك، تظهر آفاق إيجابية للتعاون، والتوازن، وتحقيق الاستقرار في المنطقة من خلال التفاوض والحوار المستمر.

كما أن روسيا تواجه تحديات بالغة الحساسية في علاقتها مع أرمينيا، وذلك بسبب التقارب المتزايد بين الأخيرة والغرب، بالإضافة إلى توجهات سياسية تتنافى في بعض الأحيان مع مصالح روسيا الإستراتيجية في المنطقة. يعد هذا التقارب مصدر قلق لروسيا، حيث تروج سياسات أرمينيا الجديدة والتحولات الداخلية نحو الديمقراطية والاقتصاد السوقي؛ مما يعكس الأفكار والقيم الغربية بشكل أكبر.

من الجوانب التي تسببت في توتر العلاقات بين روسيا وأرمينيا رفض أرمينيا استضافة مناورات عسكرية لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، كانت روسيا ترغب في تنظيمها في الأراضي الأرمينية. هذا الرفض يعكس توجهات أرمينيا نحو الغرب وتقاربها من الدول الغربية، ومنظماتها العسكرية، وهو ما يثير قلق روسيا- كما ذكرنا- حيال استقلاليتها الإستراتيجية ونفوذها في المنطقة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تحالف أرمينيا مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في بعض القضايا السياسية الدولية، مثل التنمية الديمقراطية، وحقوق الإنسان، يزيد التوتر بينها وبين روسيا، حيث ترى روسيا هذا التحالف على أنه تدخل في منطقتها التقليدية للنفوذ، ويشكل تهديدًا لاستقرارها وأمنها الوطني.

ومن المؤشرات الأخرى التي تشير إلى توتر العلاقات بين روسيا وأرمينيا توجه أرمينيا إلى إجراء تدريبات عسكرية مع الولايات المتحدة، ما يعكس انزياحًا ملحوظًا عن الانتماء الحصري لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تترأسها روسيا.

تبدو التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، واضحة المعالم في تحول علاقات أرمينيا مع روسيا، وهو ما ينطوي على تداعيات سياسية واقتصادية كبيرة في جنوب القوقاز. يُعَدُّ هذا السيناريو مثالًا حديثًا على مفاهيم العلاقات الدولية، مثل مفهوم النفوذ الإقليمي، ودور القوى العظمى في تشكيل السياسات الدولية.

اعتمدت أرمينيا على دعم روسيا على مدى 30 عامًا، حيث تلقت الدعم العسكري والسياسي والمالي. ومع تغير مواقف روسيا وتوجهها الجديد نحو تعزيز العلاقات مع أذربيجان، وتركيا، وإيران، بدأت أرمينيا تدرك أنها لم تعد صالحة للاستخدام كأداة فعّالة في سياسات موسكو.

روسيا وأذربيحان

التقارب الروسي الأذربيجاني يمثل علاقة إستراتيجية تعتمد على مجموعة من العوامل السياسية، والاقتصادية، والعسكرية التي ترتبط بتاريخ العلاقات بين البلدين، وتطورها الحديث. يعود جذور هذا التقارب إلى العلاقات التاريخية والثقافية بين الشعبين، التي تعكس التوازنات الجيوسياسية، والمصالح المشتركة في المنطقة.

بدأ التقارب بين روسيا وأذربيجان يأخذ شكلًا أكثر تطورًا بعد استقلال أذربيجان عن الاتحاد السوفيتي عام 1991. ومنذ ذلك الحين، تطورت العلاقات بين البلدين في مختلف المجالات، ومنها المجالات العسكرية، والاقتصادية، والثقافية.

تأسست العلاقات العسكرية بين روسيا وأذربيجان على قاعدة التعاون والتبادل العسكري، حيث تعاون البلدان في مجال تطوير القدرات العسكرية، وتبادل الخبرات والتكنولوجيا العسكرية. كما شهدت العلاقات الاقتصادية نموًا ملحوظًا، خاصة في قطاعات الطاقة، والنقل، والصناعات الثقيلة.

تُعَدُّ قطاعات الطاقة والنفط من أهم مجالات التعاون بين البلدين، حيث تستفيد روسيا من مشروعات الطاقة مع أذربيجان، في حين تستفيد أذربيجان من التكنولوجيا والاستثمارات الروسية في تطوير قطاعها الطاقوي.

كما تمتلك العلاقات الثقافية بين البلدين أهمية كبيرة في تعزيز التقارب الروسي الأذربيجاني، من خلال كثير من المبادلات الثقافية، والفنية، والتعليمية بين الشعبين.

على صعيد السياسة الخارجية، تُعَدُّ العلاقات الروسية الأذربيجانية جزءًا من إستراتيجية روسيا في المنطقة، حيث تهدف روسيا إلى تعزيز التوازنات الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية في منطقة القوقاز.

ويظهر التحالف العسكري بين روسيا وأذربيجان بوصفه جزءًا من إستراتيجية أذربيجان لتحقيق الأمن القومي، والدفاع عن سيادتها، في حين تسعى روسيا من خلال هذا التحالف إلى زيادة نفوذها في المنطقة.

التحولات الأخيرة في جنوب القوقاز تلقي الضوء على تطور العلاقات بين روسيا وأذربيجان، مع تأكيد وزير الخارجية الأذربيجاني السابق توفيق ذو الفقاروف أهمية المرحلة الجديدة التي تمر بها المنطقة.

كما أن التحالف العسكري بين أذربيجان وتركيا يتوقع أن يكون له تأثير حاسم في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، وخروج روسيا من أرمينيا قد يخدم مصالح الغرب، الذي يسعى إلى إزاحة نفوذ موسكو في المنطقة.

التحولات الأخيرة في جنوب القوقاز وتأثيرها في الدور التركي تشكل موضوعًا محوريًّا، وتأكيد عمل ممر زنغزور الإستراتيجي كجزء من أذربيجان، يجعل تركيا حليفًا قويًا للغرب، ويضيف بعدًا جديدًا للتحالفات الجيوسياسية في المنطقة.

كما أن تصاعد التوترات بين الصين والولايات المتحدة يبرز أهمية المنطقة للعالم، مما يعزز أهمية التحالفات في جنوب القوقاز.

روسيا وإقليم ناغورني كاراباخ

يشهد النزاع في منطقة القوقاز، وخاصةً في ناغورني كاراباخ، تطورات مثيرة تستحق الاهتمام. بدايةً، فإن الهجوم الأذربيجاني الأخير على المنطقة يُعد في نظر البعض عملية مكافحة للإرهاب المحلية، في حين يرى آخرون أنها جزء من سلسلة أحداث نتجت عن النزاع الذي اندلع عام 2020. هذه التطورات أضعفت موقف أرمينيا، ودفعتها إلى قبول تنازلات مؤلمة بموجب اتفاق سلام توسطت فيه روسيا.

الوساطة الروسية في النزاع في ناغورني كاراباخ كانت حاسمة في تهدئة التوترات ووقف التصعيد، وقد أدت دورًا مهمًّا في إحلال السلام، وتأمين اتفاق وقف إطلاق النار، وإليك بعض النقاط التي توضح أهمية هذه الوساطة:

التاريخ الطويل للعلاقات: تعود علاقات روسيا مع الدول في المنطقة، ومنها أرمينيا وأذربيجان، إلى فترة الاتحاد السوفيتي؛ ولذلك تتمتع روسيا بتاريخ وثيق وعلاقات متينة في المنطقة، مما يمنحها مصداقية، وقوة تأثير كبيرة.

القدرة على التوسط: نظرًا إلى دورها الإقليمي البارز، والعلاقات الجيدة مع كل من أرمينيا وأذربيجان، فإن روسيا تتمتع بالقدرة على التوسط بين الأطراف المتنازعة، وتشجيعها على التفاوض، وقبول حلول سلمية.

الوجود العسكري: تمتلك روسيا قوات حفظ سلام تعمل في المنطقة، وهذا يعطيها وسيلة للتأثير المباشر في الأحداث على الأرض، وتأمين وقف إطلاق النار، وإجلاء المدنيين في حالات الطوارئ.

الدور الدبلوماسي: بفضل مكانتها الدبلوماسية العالية، يمكن لروسيا أن تعقد محادثات عالية المستوى، وتقود جهودًا دبلوماسية لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.

المصالح الإستراتيجية: تُعد القوقاز منطقة إستراتيجية لروسيا؛ ولذلك فإن استقرارها وحل النزاعات فيها يخدم مصالحها الاقتصادية والأمنية.

النزاع في منطقة ناغورني كاراباخ يعد واحدًا من أكثر النزاعات تعقيدًا في القوقاز، وهو يمثل نقطة توتر رئيسة في العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان. تعود جذور النزاع إلى الفترة السوفيتية، حيث اشتعلت الصراعات بين الأرمن والأذربيجانيين بشأن السيطرة على هذه المنطقة الجبلية الإستراتيجية. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، اندلعت حروب متكررة بين الجانبين، وأدت إلى مقتل الآلاف، وتشريد عشرات الآلاف من السكان.

تدخلت روسيا باعتبارها قوة تأمينية وسياسية رئيسة في المنطقة، ونجحت في توسيع نفوذها، وتقديم الوساطة بين الأرمن والأذربيجانيين. في أعقاب وقف إطلاق النار عام 1994، تشكلت دولة ذات حكم ذاتي للأرمن في ناغورني كاراباخ، ولكن النزاع لم يُحل حلًا نهائيًّا.

على مر السنين، شهدت المنطقة تصعيدًا متكررًا للتوترات والصراعات المسلحة، وخاصة في عام 2020، حينما اندلعت مواجهات عنيفة بين الجيشين الأرميني والأذربيجاني، مما أسفر عن إعلان وقف إطلاق نار بوساطة روسيا.

تظل منطقة ناغورني كاراباخ مصدر قلق دائم للسلام والاستقرار في القوقاز، وتتطلب الحاجة إلى حل سياسي شامل ودائم يستند إلى الحوار والتفاهم بين الأطراف المعنية، وبمساعدة وتأييد من المجتمع الدولي.

الاستنتاجات

تأثير الحرب الأخيرة في كاراباخ في النفوذ الروسي:

 النتائج السياسية والعسكرية للحرب في إقليم ناغورني كاراباخ تُظهر تحولات في النفوذ الروسي في جنوب القوقاز؛ فبمشاركة روسيا في التسوية النهائية، وتوجيهها لإيران كممر تجاري بديل، يمكن رؤية تأثير محتمل لروسيا في التوازنات الإقليمية.

التحديات والتغيرات في العلاقات الإقليمية:

 يجب على روسيا التعامل مع تحديات جديدة في جنوب القوقاز، منها تغير مواقف البلدان المحيطة، وتحول الحسابات الإستراتيجية. من المحتمل أن يتطلب هذا تكييفًا وتغييرًا في السياسات الروسية تجاه المنطقة.

تأثير العلاقات الثنائية في النفوذ الروسي:

 يمكن رؤية أن العلاقات الثنائية بين روسيا والدول الجارة تؤدي دورًا كبيرًا في تشكيل مستقبل النفوذ الروسي. تطورات العلاقات بين روسيا وأرمينيا وأذربيجان، ودورها في الصراعات المحلية، قد تكون ذات تأثير كبير.

التحولات المحتملة في السياسة الروسية:

 من الممكن أن تشهد السياسة الروسية في المنطقة تحولات جديدة، سواء في تحركاتها الدبلوماسية أو العسكرية، وقد تكون هناك حاجة إلى إعادة النظر في الإستراتيجيات والتحالفات في ضوء التحولات الجديدة في العلاقات الإقليمية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع