تصل مسيرة الطاقة النووية في تركيا إلى مفترق طرق مع تشغيل محطة أكويو للطاقة النووية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتمثل المشروعات النووية المخطط لها في سينوب على البحر الأسود، وفي منطقة تراقيا، بداية فصل جديد في رؤية تركيا الطويلة الأمد في مجال الطاقة. وفي هذه المرحلة الحرجة، تواجه تركيا قرارًا حاسمًا؛ إما الاستمرار في استخدام المفاعلات التقليدية الواسعة النطاق، وإما استكشاف بدائل أكثر مرونة وحداثة توفر إمكانات جديدة من حيث قابلية التوسع والتكلفة والنشر؛ ما يفتح الباب أمام الجدل بشأن مستقبل تركيا النووي، وهل ستعزز تركيا مشروعات الطاقة النووية الواسعة النطاق أم ستتجه نحو المفاعلات النووية الصغيرة وشراكة أعمق مع الولايات المتحدة؟
هذا السؤال لا يقتصر على التكنولوجيا العسكرية أو العقيدة الدفاعية، بل يمتد إلى جوانب متعددة: الأمن القومي التركي، وسياسة الطاقة، والدبلوماسية، واستقرار الاقتصاد الكلي، حيث إن استخدام روسيا أحيانًا خطابًا نوويًّا تكتيكيًّا في حرب أوكرانيا، وتخصيب إيران لليورانيوم بنسبة 60%، وتجارب كوريا الشمالية الصاروخية المتواصلة، والقدرة النووية الصامتة لإسرائيل، كلها عوامل تدفع إلى طرح هذا السؤال على نحو مباشر، لا سيما أن أنقرة تتعامل مع ثلاثية ضاغطة في المستقبل المنظور تتمثل في: أمن الإمدادات، واستقرار أسعار الكهرباء للصناعة، وتحقيق هدف الحياد الكربوني.
بلغ إجمالي الترسانة النووية العالمية نحو ١٢١٠٠ رأس حربي، وتمتلك روسيا نحو ٥٥٨٠ رأسًا نوويًّا، والولايات المتحدة ٥٠٤٤ رأسًا نوويًّا، ويتوزع الباقي بين الصين (أكثر من ٥٠٠ رأس)، وفرنسا (٢٩٠ رأسًا نوويًّا)، والمملكة المتحدة (٢٢٥ رأسًا نوويًّا)، وباكستان (١٧٠ رأسًا نوويًّا)، والهند (١٦٤ رأسًا نوويًّا)، وإسرائيل (٨٠-٩٠ رأسًا نوويًّا)، وكوريا الشمالية (٥٠ رأسًا نوويًّا)، فضلًا عن مجموعة من الدول التي لا تمتلك أسلحة نووية ولكنها تعتمد على المظلة النووية الأمريكية للردع، على غرار تركيا، وكوريا الجنوبية، واليابان، وألمانيا، وهولندا، وبلجيكا، وإيطاليا. فيما يتعلق بتركيا، فهذه المظلة تتمثل في نحو 50 قنبلة نووية تكتيكية أمريكية يعتقد أنها مخزنة في قاعدة إنجرليك الجوية، وهي حقيقة لم يؤكدها حلف شمال الأطلسي رسميًّا، ولكن تم الاعتراف بها على نطاق ضمني في المجتمع الدولي.
بجانب هذا، تستمر مسيرة تركيا النووية، حيث من المتوقع تشغيل أول وحدة من أصل أربع وحدات في محطة أكويو للطاقة النووية (4800 ميغاواط) في نهاية عام 2025. وقد وُضعت بالفعل خطط لمحطتي الطاقة النووية الثانية والثالثة في سينوب وتراقيا، وتهدف تركيا من خلالهما إلى الوصول إلى قدرة نووية تبلغ 7.2 غيغاواط بحلول عام 2035، و20 غيغاواط بحلول عام 2050، مع مساهمة المفاعلات النووية الصغيرة (SMR) بـ5 غيغاواط، سعيًا منها إلى تحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2053. ويجري العمل حاليًا على إنشاء مجمع تكنولوجي نووي، وتطوير تقنية المفاعلات النووية الصغيرة المحلية.
ومن هذا يتضح أن تركيا تسير بخطى متسارعة نحو إدماج الطاقة النووية ضمن مزيج الكهرباء لتحقيق ثلاثة أهداف متداخلة؛ أمن الإمدادات وتقليل الاعتماد على الغاز المستورد، واستقرار الأسعار على المدى الطويل، ودعم هدف الحياد الكربوني بحلول 2050، وقد تحول مشروع أكويو من رمز للإقلاع النووي إلى منصة اختبار لخيارات التمويل والتوطين والشراكات الدولية التي ستحدد شكل البرنامج النووي عقدين قادمين، وتُظهر التطورات الأخيرة انتقال تركيا من مرحلة إنشاء المحطة الأولى إلى هندسة محفظة مشروعات تشمل محطتين كبيرتين إضافيتين، وخطًا تشريعيًّا لاحتضان المفاعلات المعيارية الصغيرة. وفي هذا السياق، أعلنت أنقرة نيتها توقيع صفقات دولية لمحطتين نوويتين جديدتين قبل نهاية 2025 إذا توافرت عروض تنافسية تُلبي أهداف التوطين، وتُرجح التصريحات الرسمية أن يبدأ سينوب التوليد قبل 2035، وأن تلحق به محطة تراقيا بعد ذلك، وتدور المفاوضات مع روسيا وكوريا الجنوبية في سينوب، ومع الصين في تراقيا، إلى جانب انخراط أمريكي في مباحثات موازية لتقليل الاعتماد التركي على روسيا.
تسعى تركيا منذ مطلع الألفية الجديدة إلى بناء سياسة طاقوية أكثر استقلالية من خلال إدماج الطاقة النووية في مزيجها الطاقوي. ومع قرب اكتمال محطة أكويو النووية، يتسع الجدل بشأن المكاسب المحتملة والأخطار الكامنة في هذا المسار، وتتضح ملامح هذا فيما يلي:
أولًا- المكاسب التركية: يشكل إدخال الطاقة النووية خيارًا إستراتيجيًّا لتقليل الاعتماد التركي على الغاز الطبيعي المستورد، لا سيما من روسيا وإيران؛ بما يعزز الاستقلال النسبي في السياسات الطاقوية، كما ستمكّن الطاقة النووية أنقرة من إضافة مصدر طاقة ثابت ومستدام إلى جانب مصادر الطاقة المتجددة؛ ما يقلل تقلبات الإمدادات المرتبطة بالظروف المناخية أو الأزمات الدولية، ويسهم في تنويع المزيج الطاقوي للدولة.
فضلًا عن أن سياسة الطاقة التركية ستخفض الانبعاثات الكربونية، حيث يمثل الاستثمار في الطاقة النووية أحد البدائل لتحقيق التزامات تركيا في خفض الانبعاثات ضمن اتفاقية باريس للمناخ، ما يمنحها موقعًا أفضل في التحولات العالمية نحو الاقتصاد الأخضر، ومن المتوقع أن تسهم المشروعات النووية في رفع مستوى الكفاءات التركية من خلال التدريب ونقل التكنولوجيا؛ ما يدعم قطاعات صناعية وهندسية متقدمة، وهو ما سيؤدي إلى تعزيز المكانة الجيوسياسية لأنقرة، حيث إن امتلاك تركيا برنامجًا نوويًّا سلميًّا ناجحًا يمنحها أداة إضافية للضغط والمساومة في النظام الإقليمي، خاصةً في ظل سباق التسلح التكنولوجي في شرق المتوسط.
ثانيًا- الارتدادات العكسية: رغم مكاسبها، يبقى البرنامج النووي التركي رهينًا بالتعاون مع شركاء خارجيين، لا سيما روسيا، التي تمتلك دورًا مركزيًّا في بناء محطة أكويو وتشغيلها، ما يفتح المجال أمام ضغوط سياسية متبادلة، بجانب تكاليف اقتصادية مرتفعة، حيث تتطلب المحطات النووية استثمارات ضخمة، وتمويلًا طويل الأجل، ما قد يزيد أعباء المديونية التركية، ويحد قدرة الدولة على تمويل قطاعات أخرى، كالتعليم والصحة، بالإضافة إلى أخطار السلامة والبيئة، حيث يظل الرأي العام التركي متحفظًا تجاه الطاقة النووية خشية الحوادث أو التلوث الإشعاعي، فضلًا عن تحديات إدارة النفايات النووية التي تحتاج إلى حلول طويلة المدى.
وعلى عكس مشروعات الطاقة المتجددة، فإن مردود الطاقة النووية المالي والسياسي طويل الأمد؛ ما يجعلها أقل قدرة على تلبية الاحتياجات العاجلة لاقتصاد يعاني ضغوطًا متصاعدة؛ فاعتماد تركيا على الوقود النووي المستورد قد يضعها في مواجهة تقلبات السوق العالمية، أو عقوبات محتملة؛ ما قد يقوض أهدافها في الاستقلال الطاقوي؛ ومن ثم فإن تقييم حسابات الربح والخسارة يوضح أن مستقبل الطاقة النووية التركية لا يمكن النظر إليه من زاوية أحادية، فبينما توفر الطاقة النووية أداة إستراتيجية لتعزيز الأمن الطاقوي وتقليل الانبعاثات، فإنها في الوقت نفسه تُبقي أنقرة رهينة بعلاقاتها مع الموردين الخارجيين، وتضيف أعباء مالية كبيرة على اقتصاد تركيا الحساس.
إن قدرة تركيا على تحقيق التوازن بين الاستقلالية الطاقوية والاستدامة البيئية ستحدد ملامح مستقبلها النووي خلال العقود المقبلة، الذي يمكن أن يتلخص في أربعة سيناريوهات رئيسة:
السيناريو الأول: التوسع التدريجي في القدرات النووية: يقوم هذا السيناريو على نجاح أنقرة في استكمال تشغيل جميع وحدات محطة أكويو بحلول 2028، ثم الانتقال إلى بناء محطات جديدة مثل سينوب وإغنيادا. في هذه الحالة، ستتمكن تركيا من رفع نسبة مساهمة الطاقة النووية إلى نحو 15-20% من إجمالي إنتاج الكهرباء بحلول منتصف الثلاثينيات؛ ما سيعزز الاستقلالية النسبية، ويقلص فاتورة الواردات الطاقوية، غير أن هذا المسار يظل مرهونًا بقدرتها على تجاوز التحديات التقنية والتمويلية، وضمان بيئة تشريعية مستقرة.
السيناريو الثاني: الارتهان للشركاء الخارجيين: يتمثل هذا السيناريو في استمرار اعتماد تركيا على الشركاء الدوليين -لا سيما روسيا- في بناء المحطات النووية وتشغيلها وتزويدها بالوقود. ورغم ما يتيحه هذا الخيار من تسريع للبرامج النووية، فإنه يعمق مستوى التبعية، ويجعل الأمن الطاقوي التركي مرتبطًا بمعادلات سياسية خارجية؛ ومن ثم قد يُضعف هذا السيناريو قدرة أنقرة على تحقيق استقلالية كاملة في القرار الطاقوي، ويضعها أمام ضغوط جيوسياسية متزايدة.
السيناريو الثالث: التباطؤ أو إعادة التموضع: في إطار الضغوط الاقتصادية الداخلية والانتقادات البيئية، قد تجد تركيا نفسها مضطرة إلى تباطؤ برنامجها النووي، أو تأجيل بعض المشروعات. وفي هذه الحالة، قد تركز أنقرة على بدائل أخرى، مثل الطاقة المتجددة التي تحقق نموًّا سريعًا وتلقى قبولًا اجتماعيًّا أكبر. ويمثل هذا السيناريو خيارًا للحفاظ على توازن السياسات الطاقوية، لكنه سيؤجل المكاسب الإستراتيجية للطاقة النووية.
السيناريو الرابع: مزيج متوازن للطاقة: يتصور هذا السيناريو اعتماد تركيا على مقاربة المزيج الطاقوي، حيث تُشغَّل محطات نووية محدودة، إلى جانب التوسع الكبير في الطاقة المتجددة، مع استمرار الاعتماد الجزئي على الغاز الطبيعي. ويمثل هذا الخيار الأكثر واقعية، إذ يسمح بتنويع مصادر الطاقة، وتقليص الأخطار المرتبطة بالاعتماد المفرط على مصدر واحد، كما يمنح تركيا مرونة في مواجهة التحولات الدولية نحو خفض الانبعاثات الكربونية.
واستنادًا إلى ما سبق، تشير المعطيات الراهنة إلى أن مستقبل الطاقة النووية التركية سيظل محكومًا بمعادلة معقدة تجمع بين الطموحات الإستراتيجية والتحديات الاقتصادية والبيئية، فالسيناريو الأكثر ترجيحًا يتمثل في تبني مزيج طاقوي متوازن، بحيث تستفيد أنقرة من مكاسب الطاقة النووية دون أن تتحول إلى رهينة للارتباطات الجيوسياسية، أو الضغوط المجتمعية.
يتوقف مستقبل الطاقة النووية التركية على المدى المنظور على ثلاثة محاور متشابكة تتمثل في: نجاح التشغيل التجاري لمحطة أكويو، وعقد صفقات متوازنة لمحطتَي سينوب وتراقيا قبل نهاية 2025، مع شروط توطين وتمويل مواتية، وإطلاق إطار تنظيمي للمفاعلات المعيارية الصغيرة، ما يمكن تركيا من بلوغ 7.2 غيغاواط بحلول 2035، و20 غيغاواط بحلول 2050، بما يدعم أمن الإمدادات، وخفض الانبعاثات، ويعزز التموضع الصناعي لأنقرة، غير أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ستعارضان -على نحو قاطع- التوسع النووي المفتوح، وستؤثر العقوبات في التمويل والطاقة والدفاع، وستنظر روسيا إلى هذا الأمر بوصفه تهديدًا أمنيًّا مباشرًا، خاصة من جانب دولة عضو في حلف شمال الأطلسي، فيما يرجح أن تظل الصين محايدة رسميًّا، لكنها ستتجنب القطيعة بين الولايات المتحدة وتركيا. وفي الشرق الأوسط، قد تدفع تركيا النووية، إلى جانب إيران وربما السعودية، إسرائيل نحو اتخاذ تدابير استباقية ضد الدول الثلاث.
لن يحظى توجه تركيا إلى الطاقة النووية بالقبول إلا إذا اعتُبرت أنقرة موثوقًا بها من جانب واشنطن وبروكسل وموسكو وبكين والعواصم الإقليمية، فسياسة العتبة النووية لا تقتصر على الطموح فحسب؛ بل تشمل أيضًا هندسة القيادة، فإذا لم تحسن أنقرة إدارة هذا الطموح النووي، فإنها ستتأثر بالتكاليف قبل وقت طويل من بناء أول رأس حربي من خلال العقوبات، وهروب رؤوس الأموال، والعزلة الدبلوماسية، ومن هذا تتمثل المعضلة الرئيسة أمام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كيفية تعظيم المكاسب، وتقليص الأخطار من خلال تبني سياسة متوازنة لضمان عدم تحول البرنامج النووي إلى عبء طويل الأمد؛ ومن ثم فإن خيارات الربح والخسارة ستظل مرتبطة بمدى قدرة أنقرة على تحقيق التوازن بين طموحاتها الإستراتيجية وواقعها الاقتصادي والجيوسياسي.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.