شكل عدة لاعبون رئيسون الساحة السياسية في بنغلاديش، أبرزهم حزب رابطة عوامي بقيادة الشيخة حسينة، والجماعة الإسلامية، والحزب الوطني البنغلاديشي، وهو حزب يمين الوسط بقيادة رئيسة الوزراء السابقة خالدة ضياء الحق. وحزب الجماعة الإسلامية هو حزب سياسي إسلامي كان حليفًا تاريخيًّا للحزب الوطني البنغلاديشي، وشكل ائتلافات ناجحة معه خلال الانتخابات الماضية. ولكن بسبب هيمنة حزب رابطة عوامي على مدى السنوات الكثيرة الماضية، وجد الحزب الوطني البنغلاديشي وحزب الجماعة الإسلامية أنفسهما مهمشين على نحو متزايد. وفي الأيام الأخيرة من حُكم الشيخة حسينة هذا العام، وفي أعقاب الاحتجاجات الطلابية حظرت حزب الجماعة الإسلامية، وألقت باللوم عليه في أعمال العنف.
بعد سقوط حسينة، رفعت الحكومة المؤقتة التي تشكلت حديثًا بقيادة الخبير الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل، محمد يونس، الحظر المفروض على الجماعة الإسلامية؛ وهو ما قد يسمح لها باستئناف أنشطتها السياسية. وفي الوقت نفسه، ومع أن الحزب الوطني البنغلاديشي ليس جزءًا رسميًّا من الحكومة المؤقتة، فقد دعا إلى إجراء انتخابات سريعة.
لقد أثرت هذه التطورات الجديدة على القوتين الرئيستين في المنطقة؛ الهند والصين، بطرائق مختلفة جدًّا؛ فقد طورت بكين شراكة وثيقة مع حسينة، ورفعت العلاقات الثنائية في ظل حكومتها إلى شراكة إستراتيجية شاملة في يوليو (تموز) من هذا العام. ولكن في أعقاب رحيلها، تحولت العلاقات بسرعة أيضًا؛ فبعد وقت قصير من سقوط حكومة حسينة، رحبت بكين بتشكيل الحكومة المؤقتة، وأرسلت دبلوماسييها لحضور حفل أداء يونس لليمين. من ناحية أخرى، وبسبب منح نيودلهي حسينة اللجوء بعد فرارها من الاحتجاجات في بنغلاديش، واجهت الهند مزيدًا من البرود في العلاقات مع الحكومة المؤقتة.
وفي مقابلة أجريت مع محمد يونس مؤخرًا، أثار مخاوف بشأن وجود حسينة في الهند، وقال إن رئيسة الوزراء السابقة يجب تسليمها إلى بنغلاديش لمحاكمتها قانونيًّا. كما اشتكى يونس أيضًا أن الهند ترى الجميع إسلاميين في بنغلاديش، وأن الحزب الوطني البنغلاديشي إسلامي، وأن كل شخص آخر إسلامي، وسيحول هذا البلد إلى أفغانستان، وأن بنغلاديش كانت في أيدٍ أمينة مع الشيخة حسينة فقط على رأس القيادة؛ ومن ثم فإن الوضع في نظر نيودلهي هو حالة من انعدام الثقة مع القادة الجدد لبنغلاديش، في حين تتنافس على النفوذ مع الصين.
على مدى العقد الماضي، قامت الصين باستثمارات كبيرة في بنغلاديش عبر مختلف القطاعات. بين عامي (2016- 2022) استثمرت الشركات الصينية ما مجموعه (26) مليار دولار أمريكي في دكا. وبحلول نهاية عام 2023، ارتفع رصيد الاستثمار الصيني في بنغلاديش إلى ما يقرب من 1.4 مليار دولار أمريكي، بالإضافة إلى ما يقارب (700) شركة ممولة من الصين توفر ما يصل إلى (550) ألف وظيفة في البلاد. ويمتد النفوذ الاقتصادي للصين إلى قطاعات متعددة، حيث يأتي أكثر من (70) في المئة من المواد الخام التي تستوردها بنغلاديش للملابس المصنوعة من الألياف الصناعية من الصين.
وبشكل عام، تستورد بنغلاديش سلعًا تزيد قيمتها على 21 مليار دولار أمريكي من الصين سنويًّا. بالإضافة إلى ذلك، تعد بنغلاديش أيضًا من أكبر المشترين للأسلحة الصينية. ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، شكلت الصين أكثر من (73) في المئة من واردات بنغلاديش العسكرية الأجنبية بين عامي (2010 و2022). كما يبلغ دين بنغلاديش للصين 6 مليارات دولار أمريكي؛ لذا سعت رئيسة الوزراء السابقة الشيخة حسينة إلى الحفاظ على علاقات ودية مع بكين، على الرغم من علاقاتها الوثيقة مع نيودلهي. لكن هذا الجهد تعرض للاختبار على مستويات متعددة. ومؤخرًا، في يوليو (تموز) من هذا العام، وفي مواجهة عبء الديون المستحقة للصين، سعت حسينة إلى الحصول على قرض إضافي بقيمة (5) مليارات دولار أمريكي من بكين. لكن حسينة أصيبت بخيبة أمل عندما رفضت بكين التعاون، وردت بقطع رحلتها إلى الصين في ذلك الوقت. ومع ذلك، لم يكن أمام بنغلاديش خيار سوى مواصلة بناء العلاقات الاقتصادية مع الصين.
الآن، وبعد رحيل حسينة عن السلطة، وفي أوائل سبتمبر (أيلول)، التقى السفير الصيني في بنغلاديش ياو وين بشفيق الرحمن، رئيس الحزب السياسي البنغلاديشي التابع للجماعة الإسلامية، في المكتب المركزي للحزب في دكا. ووصف ياو الجماعة الإسلامية بأنها حزب منظم جيدًا، ومنضبط. كانت زيارة ياو مهمة؛ لأنها كانت المرة الأولى التي يزور فيها دبلوماسي أجنبي مكتب الجماعة الإسلامية في بنغلاديش منذ عام 2010. وفي هذا السياق، كان الاجتماع إشارة إلى حرص بكين على التكيف مع الوضع السياسي المتطور بسرعة في بنغلاديش من خلال الحفاظ على خطوط الاتصال عبر الطيف السياسي بكامله. وسيسمح هذا النهج للصين بالتحول بسرعة عند الحاجة؛ مما يضمن حماية مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية، بغض النظر عمن سيأتي إلى السلطة مستقبلًا.
ويأتي هذا في ضوء سياسة الصين التي اهتمت بتنويع نفوذها من خلال التعامل مع اللاعبين السياسيين من مختلف الطيف الأيديولوجي في بنغلاديش. في عام 2016، التقى الرئيس الصيني شي جين بينج بخالدة ضياء، رئيسة الحزب الوطني البنغلاديشي. وخلال ذلك الاجتماع، أقر شي بأن الحزب الوطني البنغلاديشي حافظ بحزم على سياسة ودية تجاه الصين لسنوات. كما أعرب عن استعداد بكين لتعزيز الاتصالات والتبادلات بين جميع الأحزاب السياسية الرئيسة الأخرى في بنغلاديش. وبهذه الطريقة، بنت الصين نفوذًا إستراتيجيًّا عبر مختلف قطاعات المجتمع البنغلاديشي، ومنهم الأحزاب السياسية، والقادة العسكريون، ومجتمع الأعمال والطلاب؛ مما جعلها في وضع مناسب لمواجهة النفوذ الهندي في دكا.
وعلى النقيض من ذلك، أصبحت الهند معرضة -على نحو متزايد- لخطر الاستبعاد، وفقدان النفوذ في بنغلاديش؛ نتيجة ارتباطها بنظام الشيخة حسينة؛ فقد نظم الحزب الوطني البنغلاديشي وأحزاب المعارضة الأخرى حملة “طرد الهند خارج البلاد”، التي أدت إلى انخفاض الطلب على السلع الهندية. بالإضافة إلى أن الجماعة الإسلامية تروج لتحالف مع باكستان بديلًا عن الهند، وفي الوقت نفسه تعزز الصين علاقاتها مع الحزب الوطني البنغلاديشي والجماعة الإسلامية؛ ما قد يؤدي إلى تقويض مصالح الهند، لا سيما في ضوء سياسة الانتظار والمراقبة التي اختارتها نيودلهي، ولكن هذا النهج قد يحمل في ثناياه خطر التنازل عن النفوذ للصين وباكستان.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.