بعد أيام قليلة من بدء العام الإيراني الجديد، وتحديدًا في الخامس والعشرين من مارس (آذار) الجاري، نشرت القنوات الرسمية الإيرانية فيديو يستعرض “مدينة الصواريخ“ التي تحتوي على مجموعة متنوعة من الصواريخ الباليستية في منشأة عسكرية تحت الأرض، تمتلك -وفقًا للمسؤولين الإيرانيين- جميع الأبعاد الدفاعية المطلوبة لتوليد قدرة عسكرية أكبر بعشر مرات من تلك التي نُشرت خلال عملية “الوعد الحقيقي” الثانية، إذ يوحي الفيديو -الذي تبلغ مدته 85 ثانية فقط- أن إيران قادرة على الصمود في وجه أي هجوم، والرد على تحركات أعدائها استنادًا إلى قوتها العسكرية النوعية، غير أن الفيديو، الذي صُمم لإظهار قدرات إيران الهجومية عن بُعد، يُسلط الضوء -في المقابل- على ثغرات إيران الأمنية، ومخاوفها من مستقبلها الغامض وسط سياق إقليمي ودولي دقيق.
بث التليفزيون الإيراني تقريرًا مصورًا عن قاعدة تحت الأرض تابعة للحرس الثوري بعنوان “مدينة الصواريخ”، إذ استعرض رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية الجنرال محمد باقري، وقائد القوة الجوية الفضائية في الحرس الثوري الإسلامي أمير علي حاجي زاده، مدينة صاروخية جديدة للجمهورية الإسلامية تتضمن أحدث الصواريخ الباليستية الإيرانية، من بينها صاروخ “عماد”، الذي يصل مداه إلى 2000 كيلومتر، و”سجيل” بمدى يتراوح بين 1500 و2500 كيلومتر، و”قدر هـ” بمدى 1700 كيلومتر، و”خيبر شكان”، بمدى 1450 كيلومترًا، و”حاج قاسم”، بمدى 1400 كيلومتر، بالإضافة إلى صواريخ كروز الهجومية البرية من طراز “باوة”. وبحسب التقرير فإن هذه القاعدة استخدمت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لشن هجوم على إسرائيل بنحو 200 صاروخ، بما في ذلك صواريخ تفوق سرعة الصوت.
غير أن ثمة نقطة ضعف جلية في المدينة الجديدة ترتبط بتخزين الذخائر داخل أنفاق طويلة متصلة، وكهوف كبيرة، بدون أبواب مقاومة للانفجارات، أو على الأقل محدودة، أو حواجز منفصلة؛ فقد يؤدي ذلك إلى عواقب وخيمة إذا تعرضت المنشأة لهجوم، وقد يؤدي غياب هذه التدابير الوقائية إلى سلسلة ضخمة من الانفجارات الثانوية، على النقيض من كهوف الأسلحة الإيرانية الأخرى تحت الأرض، وخاصة تلك التي تُطلق الصواريخ عبر فتحات في السطح.
ويعد الفيديو أحدث عرض تقدمه إيران لمنشآتها تحت الأرض، إذ سبق هذا فيديو في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، يستعرض -لأول مرة- منشأة صواريخ باليستية إيرانية تحت الأرض، حيث تُنقل مجموعات من الصواريخ الجاهزة للإطلاق عبر أنفاق ضخمة باستخدام نظام آلي يشبه السكك الحديدية، وبعد ثلاث سنوات، كشفت إيران عن منشأة ضخمة تُستخدم لحماية الطائرات المقاتلة، وأظهرت الصور المنشورة آنذاك طائرات “F-4D/E فانتوم II” التي لا تزال تُشكل جزءًا كبيرًا من قوة إيران الجوية.
خلال السنوات الخمس الماضية، أعلن الحرس الثوري الإيراني بناءه ثلاث مدن صاروخية تحت الأرض، تظهر أنفاقًا ملأى بالصواريخ التي تعمل بالوقود الصلب، فضلًا عن الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى، لكن الاستعراض للمدينة الجديدة يحمل رسائل دقيقة وراء التوقيت الحساس للإعلان الإيراني، إذ يكشف تفنيد السياق الإقليمي والدولي الراهن، ما يلي:
بعد أقل من يومين على إعلان الجمهورية الإسلامية قدرات مدينة الصواريخ الجديدة، جاء الرد الرسمي الإيراني- المكتوب للمرة الأولى- على رسالة الرئيس الأمريكي الأخيرة، الذي يشير إلى إصرار طهران على تبني موقف ثابت يرفض المفاوضات بشأن برنامجها الصاروخي الباليستي خارج إطار الاتفاق النووي لعام 2015، وتضمنت الرسالة، التي أُرسلت من خلال عمان، قضايا رئيسة؛ ففي الشؤون الدفاعية، رفض الرد أي نقاش بشأن ترسانة الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي تعدها الجمهورية الإسلامية غير قابلة للتفاوض، وأن قدراتها العسكرية أساسية للدفاع الوطني، وليست خاضعة للمساومة الخارجية.
وفي الجانب النووي، أكد المسؤولون الإيرانيون انفتاحهم على المحادثات، لكن ضمن شروط خطة العمل الشاملة المشتركة، وأن إيران غير راغبة في الدخول في محادثات مباشرة في ظل الضغط الأمريكي، مع رفض أي محاولة لتوسيع نطاق المفاوضات، أو فرض قيود جديدة على البرنامج، الذي تواصل إيران وصفه بالسلمي. كما تناولت الرسالة أيضًا المستجدات الإقليمية، إذ رفضت التحركات الأمريكية لكبح دعم إيران للجماعات المسلحة، معتبرة أن تلك الجماعات مستقلة، وليس لطهران تأثير في قرارها السياسي.
يكشف الحوار الدائر بين واشنطن وطهران بشأن البرنامج النووي الإيراني على مدى السنوات الست والأربعين الماضية، ميل إيران والولايات المتحدة إلى مخاطبة إحداهما الأخرى في الأوقات غير المناسبة، وبالطرق الخاطئة، إذ أدلى ترمب بتصريحات جريئة وقاسية على الهواء مباشرة، لكنه بعث -في المقابل- برسائل أكثر تصالحية في الرسالة المرسلة من خلال الإمارات، وبالمثل جاءت ردود فعل طهران خلال الأسبوع الماضي بدءًا من الرفض القاطع للمفاوضات، مرورًا بالانفتاح على المحادثات غير المباشرة، وصولًا إلى الرسالة التي تحمل معاني مبهمة بشأن إستراتيجية النظام الإيراني تجاه الإدارة الأمريكية في قضايا أبعد من البرنامج النووي.
ومما سبق يمكن القول إن ربط الرد الإيراني الأخير على الرسالة الأمريكية بإعلان تعزيز قدرات إيران العسكرية، وما يتعلق بقدرات المدينة الصاروخية الجديدة، يعكس ملامح حالة التخبط والانقسام في الداخل الإيراني بشأن طبيعة التعامل مع الولايات المتحدة، وتحديد مستقبل الجمهورية الإسلامية في ظل المستجدات الإقليمية والدولية، ففي حين يعترض فصيل متشدد محافظ بشدة على المحادثات مع الإدارة الأمريكية، ويرى أنه لا بد لإيران أن تتبني سياسة رادعة ضد أعدائها بالاستناد إلى قدراتها العسكرية الحالية والمستقبلية، يدفع الفصيل الإصلاحي المعتدل بأهمية المفاوضات لرفع العقوبات، ودعم الاقتصاد الإيراني بعد اعتبار بعض القيادات الإيرانية أن وكلاء طهران في لبنان واليمن وسوريا أصبحوا عبئًا ثقيلًا يجب التخفف منه.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.