تاريخ

قراءة في البعد الجيو- ديني للمسألة المسيحية المشرقية

ما لم تفعله روسيا لمسيحيي سوريا


  • 16 أكتوبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: orthodoxtimes

يشكّل الوجود المسيحي في سوريا أحد أقدم المكوّنات في ذاكرة المشرق، لا كأقلية دينية، بل كأصلٍ من أصول هذه الأرض. فمنذ بدايات القرن العشرين، أسهم المسيحيون في بناء الدولة الوطنية، وفي صياغة الحياة الثقافية والمدنية، وكانوا جزءًا من الحلم السوري الذي جمع الشرق بتعدديته. غير أنّ الحرب التي اندلعت بعد أحداث الثورة عام 2011 لم تدمّر الحجر وحده، بل أصابت النسيج الذي ظلّ قرونًا يوحّد المختلفين.

بحسب تقارير صادرة عن مؤسسة الإغاثة المسيحية العالمية (Global Christian Relief) لعام 2024، تراجع عدد المسيحيين السوريين من نحو مليوني نسمة قبل الحرب إلى أقل من ثلاثمئة ألف اليوم، معظمهم في دمشق، وحمص، ووادي النصارى. إنّها ليست أرقامًا فحسب، وإنما مؤشّر على انكماش حضورٍ كان في يومٍ من الأيام جزءًا من روح سوريا الحديثة.

حين تدخل روسيا في الحديث عن هذا الملف، لا يمكن تجاهل رمزية التاريخ؛ فموسكو قدّمت نفسها، منذ تدخّلها العسكري في سوريا عام 2015، على أنها حامية تاريخية لمسيحيي المشرق، مستندةً إلى إرث القياصرة الأرثوذكس، وذاكرة العلاقة القديمة مع الكنيسة الأنطاكية.

لكنّ المأساة لا تكمن في غياب النية، بل في غياب الفعل؛ فروسيا التي تمتلك النفوذ والقدرة اكتفت في أغلب الأحيان بالخطاب دون الممارسة، وبالرمز دون الحماية. لم تُنشئ مناطق آمنة في القرى ذات الغالبية المسيحية، ولم تمارس ضغطًا واضحًا لتأمين ترتيباتٍ محليةٍ مستقرة في وادي النصارى أو معلولا. جلّ ما أنجزته كان مشروعات ترميم رمزية لبعض الكنائس التاريخية لأغراضٍ إعلامية، كما أشار تقرير صدر عام 2025 لوكالة “تاس” (TASS).

الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية، التي تُعدّ الأقدم في المشرق والأوسع نفوذًا في سوريا ولبنان، كانت دائمًا في صلب العلاقة الروسية-السورية. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، حين دعم القيصر انتخاب البطريرك ملاتيوس الدوماني عام 1899 لإنهاء النفوذ اليوناني في أنطاكية، تشكّل رابط تاريخي بين الطرفين لم ينقطع، لكنّ هذا الرابط لم يكن دومًا متكافئًا؛ إذ غالبًا ما كانت الكنيسة الأنطاكية تُستدعى لتجميل صورة التحالف، لا لتحديد مضمونه.

تقرير مؤسسة الإغاثة المسيحية العالمية يشير إلى أن موسكو تعامل البطريركية الأنطاكية بوصفها الناطقة باسم المسيحية المشرقية، فيما بقيت الكنائس الأخرى — السريانية، والملكية، والموارنة — خارج دائرة القرار، وهو ما خلق شعورًا متزايدًا بالجمود داخل البنية الكنسية المشرقية، بدلًا من الحيوية التي كانت تُميزها تاريخيًا.

ربما كان الرهان الروسي يقوم على فكرة أن النفوذ الديني يمكن أن يُعيد إلى روسيا حضورها الأخلاقي في المنطقة، غير أنّ ذلك لم يتحقق. فبحسب تقرير المركز الدولي للدفاع والأمن (ICDS) عن الدبلوماسية الأرثوذكسية لعام 2023، بقي البعد الديني في السياسة الروسية “أداةً رمزية أكثر منه مشروعًا إنسانيًّا متكاملًا، وقد تجلّى هذا في سوريا بوضوح، حيث تحوّلت الحماية إلى بيان، والدين إلى أداة تواصل سياسي أكثر منه التزامًا واقعيًّا”.

بعد عام 2024، ومع انهيار النظام القديم وصعود سلطة انتقالية جديدة خاضعة لـ”هيئة تحرير الشام”، وجد المسيحيون السوريون أنفسهم في فراغٍ مزدوج: فراغ الأمن، وغياب الصوت.

تقارير صحفية مثل تلك الصادرة عن صحيفة كاليفورنيا كورير (The California Courier) تحدّثت عن “تزايد القيود على التجمعات الكنسية، ومنع المدنيين من امتلاك السلاح، ما جعل القرى المسيحية في الساحل وحمص مكشوفة تمامًا”.

ورغم كل ذلك، اكتفت موسكو بدعوات عامة إلى التعايش، دون أي ضغطٍ سياسي فعلي على السلطة الجديدة. كان الصمت، في لحظة الخوف، أقسى من الخذلان.

وبحسب تقرير وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث والتنمية في المملكة المتحدة (UK FCDO) لعام 2024، “توقفت أكثر من 80% من المدارس المسيحية في سوريا عن العمل منذ عام 2018، في حين تجاوزت معدلات البطالة بين الشباب المسيحي 60% في بعض المناطق”. وتشير بيانات منصة تبادل البيانات الإنسانية (Humanitarian Data Exchange) التابعة للأمم المتحدة لعام 2025 إلى أنّ “70% من المسيحيين السوريين يفكرون في الهجرة إذا أُتيحت لهم الفرصة”. الهجرة هنا ليست خيارًا دينيًّا أو اقتصاديًّا فحسب، وإنما تعبير عن شعورٍ بالانقطاع عن المستقبل.

لروسيا تاريخٌ حافل في الدفاع عن الأرثوذكسية ورعاية كنائسها الشرقية، وهي التي لطالما قدّمت نفسها بوصفها جسرًا روحيًّا بين المشرق والغرب، لكنّ المفارقة في المشهد السوري أنّ هذا الدور العريق بدا باهتًا أمام حجم التحديات. فالثقة التي تُبنى مع المجتمعات لا تقوم على التحالفات السياسية وحدها، بل على الإحساس بالمشاركة في المصير، والقوة — مهما بلغت — لا تُقاس بما تملكه من جيوش، بل بقدرتها على أن تمنح الناس شعورًا بالأمان في بيوتهم، وأن تحفظ فيهم معنى الانتماء. ربما لم يغب هذا البعد عن الخطاب الروسي، لكنّ الخطاب لم يتحوّل بعد إلى حضورٍ حيٍّ يُطمئن الناس، ويمنحهم الإحساس بأنهم جزء من علاقةٍ إنسانيةٍ أعمق من السياسة.

ومع ذلك، لا يزال الباب مفتوحًا أمام مراجعة هادئة، لا تقوم على التبرير بل على الفهم. فروسيا اليوم تملك فرصة لتصحيح المسار، إن هي أرادت أن تتحول من راعٍ رمزي إلى شريكٍ حقيقي في إعادة بناء التعددية السورية.

قد تبدأ هذه المراجعة من خطواتٍ بسيطة، مثل دعم إدراج مبدأ المواطنة المتساوية في الدستور الانتقالي، والمشاركة في تأسيس شرطةٍ محلية في المناطق المسيحية، وتمويل مشروعات إعادة إعمار وتنمية اجتماعية بالتعاون مع منظماتٍ أرثوذكسيةٍ دولية، ودعم استقلالية الكنيسة الأنطاكية بعيدًا عن الاستقطاب بين موسكو والقسطنطينية.

ليس المطلوب من روسيا أن تحمي المسيحيين كما كانت الإمبراطوريات تفعل، بل أن تعيد إليهم الشعور بأنهم جزء من وطنٍ لا يحتاج إلى وصايةٍ من أحد. فالمسيحيون السوريون لم يبحثوا يومًا عن حمايةٍ من الخارج، بل عن شريكٍ في الداخل.

وحين تتذكر موسكو أن الحماية الحقيقية لا تُمنح من فوق، بل تُبنى من ثقة الناس في من يشاركهم الأرض والمصير، ربما تبدأ آنذاك في فعل ما لم تفعله حتى الآن.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع