دخلت سوريا مرحلة مختلفة جذريا عمّا كان سائدًا في الأشهر الأولى التي أعقبت سقوط النظام نهاية عام 2024؛ فـ”شهر العسل” انتهى، وبدأت الواقعية الخشنة في الظهور على السطح بكل عناصرها: مؤتمر “وحدة المكونات” في الحسكة شرق الفرات بما حمله من دفعٍ لهياكل لا مركزية توسعية، احتكاك فرنسي تركي متزايد على إدارة “الملف الكردي”، ومسارات تمثيله الإقليمي، عودة قنوات عمّان لبحث الملف الدرزي ضمن مقاربة أمن حدودي جنوبية، والأهم عودة روسية حذرة لكنها ملموسة تُعيد توزيع الأدوار، وتختبر حدود الممكن. في قلب هذا المشهد، تتحرك دمشق على خريطة معقدة من التعهدات والضغوط؛ فهي مطالبة بحماية وحدة الجغرافيا والسيادة، وبالتوازي إدارة نقاش داخلي بشأن أشكال الإدارة المحلية وحدودها، وبناء قواعد اشتباك جديدة مع لاعبين منخرطين عسكريًّا وسياسيًّا على الأرض؛ الولايات المتحدة، وتركيا، وروسيا، وإسرائيل.
السؤال اليوم لم يعد إن كانت موسكو تعود إلى سوريا، بل بأي صيغة؟ وتحت أي سقف توازنات؟ وكيف سيتقاطع هذا المسار مع أجندات الحلفاء الذين تختلف أولوياتهم وأدواتهم عن أولويات دمشق؟ هنا تحديدًا يتقدّم دور ماكينة التنسيق السياسي والأمني في العاصمة، التي بلورتها شخصيات بارزة، وقدمت إطارًا يمنح التحركات الروسية وظيفة “الفرملة الذكية” جنوبًا، و”الموازنة الهادئة” شرقًا، فيما تحتفظ الخارجية والدفاع بقنوات مفتوحة مع جميع الوسطاء لإبقاء الصراع مضبوطًا وقابلًا للإدارة.
وبينما تتساءل العواصم الغربية إن كان انخراط موسكو في أوكرانيا يسمح لها بترفّعٍ إستراتيجي في المشرق، تتعامل دمشق مع معادلة أكثر قربًا إلى الواقع: لا مركزية إدارية موسعة من دون تفويض أمني، تنسيق بين المكونات قد يتدرج من السياسي إلى الأمني وفق ضوابط الدولة، ورد مدروس على تغيّر الخطابات والمطالب من دون الوقوع في فخ المواجهة الشاملة. إننا أمام لحظة إعادة تعريف للعلاقات داخل معسكر “الحلفاء” نفسه؛ لحظة تتقاطع فيها مصالح متباينة تحت سقف عنوان واحد هو “سوريا الجديدة”، حيث تُختبر القدرة على تحويل توازنات القوة إلى ترتيبات دائمة تمنع الفراغ، وتحدّ التدخلات، وتثبت مرجعية الدولة، فيما تحاول موسكو أن تعود بمقاربة أقل كلفة وأكثر تأثيرًا، وتراقب واشنطن وأنقرة وتل أبيب حدود اللعبة الجديدة استعدادًا لجولة تفاوض طويلة قادمة.
تعكس العودة الروسية الى الملف السوري مسارًا مركبًا يجمع بين تموضع عسكري حذر ووظيفة سياسية مدروسة. في الجنوب تتقدم صيغة الدوريات العسكرية كأداة ضبط منخفضة الكلفة تقلل الاحتكاك، وتمنع فراغ القوة على خطوط التماس، وتوفر لدمشق غطاء رادعًا من دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. هذا الترتيب هُندِسَ من خلال ماكينة تنسيق يقودها ماهر الشرع بما يضمن توافقًا بين الأجهزة الأمنية والذراعين الدبلوماسية والعسكرية، حيث تتولى الخارجية -بإمرة أسعد حسن الشيباني- ضبط الإشارات السياسية، وتتكفل الدفاع -بقيادة اللواء مرهف أبو قصرة- بتحويل الجدول التفاهمي إلى أطر انتشار وقواعد اشتباك واضحة.
زيارة يوليو (تموز) إلى موسكو ثبتت خطوطًا ناظمة لهذا المسار. الرسالة كانت مزدوجة: دمشق تؤكد مرجعية وحدة الأرض والمؤسسات، وترفض اللا مركزية الأمنية، وموسكو تعلن استعدادًا لعودة محسوبة تؤمن الفرملة جنوبًا والموازنة شرقًا. تحت هذا السقف فُتِحَت ملفات اقتصادية ولوجستية مرتبطة بالمرافئ وسلاسل التوريد والطاقة، على قاعدة ربط المالي بالخدماتي، وربط الخدماتي بالأمني، بحيث تتحول الحوافز الاقتصادية إلى رافعة لتثبيت الاستقرار الميداني، ومنع تكرار دورات الفراغ.
في الجنوب تحديدًا، تتبلور وظيفة روسية بصيغة ضابط إيقاع يحدّ توسع الهجمات العابرة، ويحول دون تدوير مجموعات محلية خارج المرجعية. وجود دوريات تحمل العلم الروسي إلى جانب القوى النظامية يبعث إشارة مزدوجة للداخل والخارج مفادها أن خطوط التماس مراقبة، وأن أي تصعيد غير محسوب سيواجه بجدار ردع منسق. ويبقى معيار التقييم لتل أبيب رهن قدرة هذه العودة على خفض إيقاع التمدد غير المرغوب فيه، من دون المساس بحرية عملها، أما عمّان فيتقدم هاجس أمن الحدود، ومنع الانزلاقات، على أي حساب آخر.
في الساحل وحول حميميم لا مؤشرات على تفريغ أو انكفاء؛ بل إعادة توزيع مدروسة للموارد. التحركات الميدانية التي رصدت في بانياس وريف طرطوس تندرج ضمن اختبار جاهزية لوجستية ومنظومات دفاع جوي مضادة للمسيرات، مع تنويع نقاط الإسناد بين القاعدة الجوية ومرافئ الدعم. هذه المقاربة تمنح موسكو قدرة مرنة على رفع وتيرة الحضور أو خفضها من دون كلفة سياسية عالية، وتمنح دمشق شبكة أمان تمنع خصومها من استثمار لحظات الفراغ.
في الشمال الشرقي تتحرك موسكو على مسطرة دقيقة بين توازنات الوجود الأمريكي وحسابات العشائر العربية ومواقف “قسد”. التعزيزات في محيط القامشلي، والحديث عن منشآت ثابتة تسند الانتشار الروسي، تشير إلى نية ترسيخ موطئ قدم طويل الأمد يتيح إدارة المسافات بين جميع اللاعبين. مع “قسد” تتبع موسكو براغماتية صارمة: فتح قنوات تنسيق ميداني، حيث يلزم لخفض التوتر، مع دفع متواصل نحو تفاهم سياسي مع دمشق يضمن دمج الهياكل الأمنية والإدارية تحت مظلة سيادية واحدة؛ وهنا يظهر دور ماهر الشرع مرة أخرى بوصفه مهندس مسارات الإدماج التدريجي، وتحديد الخطوط الحمراء في السلاح والحدود والموارد.
ملف اللا مركزية يعود إلى الطاولة، ولكن بصيغة جديدة. دمشق تميّز بين لا مركزية إدارية موسعة تعالج الخدمات والتنمية، وأي تفويض أمني وعسكري تراه خطًا أحمر. ما يطرح عمليًّا هو حزمة ترتيبات تشمل مجالس إدارة محلية بصلاحيات فعلية، إلى جانب مجلس أمن محلي مرجعيته الدولة، وبرامج إدماج للعناصر المحلية في المؤسسات، وعقود خدمة وموارد تربط الإنفاق بالمحاسبة. هذه الصيغة لا تقطع مع مطالب القوى المحلية؛ بل تمتصها داخل إطار سيادي، وتستفيد من القناة الروسية لتثبيت الضمانات وتوقيت الخطوات.
على خط باريس وأنقرة يتواصل التزاحم على تعريف الملف الكردي وتركيبته التمثيلية؛ فباريس تدفع نحو حماية سياسية وإدارية بمظلة أوروبية، وأنقرة تتعامل مع أي توسع مؤسسي لـ”قسد” بوصفه تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وتسعى إلى تفكيك مصادر الشرعية الموازية من خلال ضغط عسكري وسياسي. موسكو تستثمر هذا التناقض لطرح نفسها وسيطًا قادرًا على تقطير التنازلات، ودمشق تلتقط اللحظة لتجميع أوراقها: مكاسب أمن حدودي جنوبًا، وقنوات عشائرية شرقًا، وحضور دولي في الساحل، جميعها تتكامل ضمن معمار واحد يديره فريق مركزي يضع تسلسل أولويات واضحًا، ويستخدم حوافز الاقتصاد لإنتاج التزام سياسي.
الولايات المتحدة تتعامل مع العودة الروسية ببراغماتية حذرة. خطوطها الحمراء معروفة: أمن قواتها شرق الفرات، وعدم تمكين وكلاء طهران جنوبًا، واستمرار قنوات فك الاشتباك. ضمن هذه الحدود يمكن لواشنطن التعايش مع تموضع روسي يؤدي وظيفة تثبيت الاستقرار التكتيكي، ويغلق نوافذ الفوضى، ما دام لا يمس بحرية عمليات مكافحة داعش، ولا يضاعف كلفة وجودها. هذا التعايش المشروط يمنح دمشق فسحة حركة لتثبيت مرجعيتها، ويمنح موسكو هوامش تأثير من دون اختبار إرادة أمريكية أوسع.
بين المكونات داخل سوريا يتحول التنسيق من السياسي إلى الأمني على نحو متدرج ومدروس. لجان مشتركة للمعابر، ترتيبات أمنية محلية تحت إشراف الدولة، قنوات اتصال طارئة لفض النزاعات، وخطط انتشار تمنع التماس المباشر بين القوى المتجاورة. هذا كله يحتاج إلى ضامن قادر على التدخل السريع عند الحاجة، وهنا تتقدم موسكو بصفتها جهة تملك الأدوات والوجود، فيما توفر دمشق الإطار القانوني والسياسي. الأخطار قائمة، من انزلاقات موضعية أو سوء تقدير، لكن تصميم البنية الهرمية بقيادة مركزية في العاصمة يقلل احتمالات القفز إلى صراع مفتوح، ويحول الزخم المتنازع عليه إلى صيغ إدارة قابلة للحياة.
اقتصاديًّا تحاول دمشق تحويل السياسة إلى منافع ملموسة من خلال ربط ملفات الطاقة والقمح واللوجستيات بمنظومة الحوافز. الشراكات مع موسكو تركز على إصلاح سلاسل التوريد، وتثبيت خطوط بحرية وتجارية، وتحديث مرافق التخزين والتوزيع، مع بناء آليات دفع وتسويات تتجاوز عوائق العقوبات. داخليًّا يتطلب ذلك إعادة هيكلة شبكات النفوذ القديمة، وإدخال معايير شفافة لعقود الخدمة؛ ما يفتح المجال لتنافس مشروع بين اللاعبين المحليين ضمن إطار تنظيمي موحد. بهذه الطريقة يصبح الأمن مسنودًا بخدمات، وتصبح الخدمات مسنودة بموارد، والموارد محكومة بحوكمة تضبط التقلبات، وتمنع ارتداد الصراع إلى المربع الأول.
تظهر معالم مرحلة جديدة في سوريا عنوانها توازن قوى متحرك داخل معسكر الحلفاء نفسه، لا على خطوط المواجهة التقليدية. العودة الروسية محسوبة ووظيفية تؤدي إلى فرملة جنوبًا، وموازنة شرقًا، وتغلق نوافذ الفراغ من دون جر البلاد إلى تصعيد مفتوح. يمسك ماهر الشرع بخيوط الربط بين القرار السياسي والاحتياج الأمني، فيحوّل القناة الروسية من رمز حضور إلى أداة دولة منضبطة، فيما تترجم الخارجية بقيادة أسعد حسن الشيباني، والدفاع بقيادة مرهف أبو قصرة، التفاهمات إلى قواعد انتشار واشتباك واضحة. لا مؤشرات على تفريغ حميميم؛ بل إعادة توزيع ورفع جاهزية يمنحان موسكو مرونة، ودمشق شبكة أمان. في الجنوب، تعيد دوريات الشرطة العسكرية الروسية إنتاج الردع المنخفض الكلفة، وتقييد هامش الاختراق. في الشمال الشرقي، يتشكل موطئ قدم روسي طويل الأمد يوازن الوجود الأمريكي، ويدفع “قسد” نحو تسوية تحت المظلة السيادية، مع إبقاء قنوات التنسيق الميداني مفتوحة لخفض التوتر.
اللا مركزية الإدارية قابلة للتوسيع بوصفها حلًا خدميًّا وتنمويًّا. أما اللا مركزية الأمنية والعسكرية فخط أحمر تعالجه دمشق بمسارات إدماج تدريجي، وضمانات روسية. الموقف الأمريكي يضع خطوطًا حمراء معروفة: أمن القوات شرق الفرات، ومنع تمكين وكلاء طهران جنوبًا، واستمرار فك الاشتباك مع موسكو. التزاحم الفرنسي التركي على الملف الكردي يفتح لموسكو مساحة وساطة إضافية، ويمنح دمشق فرصة لتجميع أوراق قوة جنوبًا وشرقًا وساحلًا. الاقتصاد يتحول إلى رافعة أمن من خلال ربط المرافئ والطاقة واللوجستيات بمنظومة حوافز وتسويات تتجاوز عوائق العقوبات، فتترجم الاستقرار الميداني إلى استقرار معيشي. الأخطار قائمة من انزلاقات موضعية، أو تصعيد إسرائيلي، أو سوء تقدير، لكنها قابلة للتحييد بقواعد مكتوبة، وقنوات طوارئ، وضامن تدخل سريع، مع مرجعية قانونية مركزية. المؤشر الحاسم في الأشهر المقبلة هو نجاح إدماج القوى المحلية إداريًّا وأمنيًّا تحت مرجعية الدولة، وقياس انخفاض الاحتكاكات، وارتفاع القدرة على الإنفاذ؛ عندئذٍ فقط تتثبت معادلة استقرار هجين، تعيد تعريف نفوذ الحلفاء داخل سوريا الجديدة بدلًا من إعادة إنتاج صراعهم عليها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.