في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 2024، شهدت سوريا منعطفًا تاريخيًّا تمثّل في سقوط نظام بشار الأسد، بعد سنوات طويلة من النزاعات الداخلية، والتدخلات الإقليمية والدولية. وبينما تكافح السلطة الجديدة بقيادة أحمد الشرع لإرساء الاستقرار السياسي والاقتصادي، وإصلاح مؤسسات الدولة، تتطلّع موسكو إلى تعزيز وجودها العسكري في البلاد، والحفاظ على القاعدتين البحريّة والجويّة في طرطوس وحميميم. تزامن ذلك مع تطوّرات إقليمية لافتة، أبرزها انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من بعض المناطق في القنيطرة، في خطوةٍ بدت مرتبطةً بالتحولات الجارية في المشهد السوري.
التحولات الداخلية في سوريا ومسؤوليات السلطة الجديدة
شكّل سقوط نظام الأسد نتيجةً حاسمةً لتراكم أزماتٍ سياسية وأمنية واقتصادية كانت تعصف بالبلاد منذ أكثر من عقد، فقد تفشّى الفساد في مؤسسات الدولة، واندلعت موجات عنف متفرقة بالرغم من القبضة الأمنية السابقة، فيما أرهقت العقوبات الدولية واستنزاف الموارد الاقتصاد المحلي. وفي هذا السياق، تسلّم أحمد الشرع رئاسة انتقالية وسط وعود بإعادة الهيكلة السياسية، وتأمين الاستقرار الأمني، وإجراء انتخابات جديدة تضمن مشاركة السوريين في الداخل والخارج. وعلى الرغم من التفاؤل النسبي في الشارع السوري المرهق بالحرب، فإنّ حكومة الشرع تواجه تحديات جمّة تتعلق باستعادة ثقة المواطنين، وتوحيد القوى السياسية والعسكرية في الداخل، إضافةً إلى توفير الدعم المالي الدولي لمشروعات إعادة الإعمار وإصلاح القطاعات الخدمية. وما بين مساعي الإصلاح الداخلي وتداعيات الاتفاقيات التي وقّعها النظام القديم، تجد السلطة الجديدة نفسها أمام واقعٍ معقدٍ يفرض عليها إحداث توازن دقيق بين مطالب الداخل والتزامات الخارج.
مفاوضات موسكو وملف القواعد العسكرية الروسية
لطالما اعتُبرت روسيا الشريك العسكري الأبرز لنظام الأسد السابق؛ إذ وطّدت وجودها في قاعدة طرطوس البحرية، التي تعود جذورها إلى الحقبة السوفيتية، وأنشأت قاعدة حميميم الجوية عام 2015. وفي عام 2017، وُقِّعَت اتفاقية تمنح القوات الروسية حق استخدام هاتين القاعدتين مجانًا لمدة 49 عامًا، غير أنّ سقوط النظام دفع موسكو إلى المسارعة بالتواصل مع حكومة الشرع الجديدة لبحث مصير وجودها العسكري على الأراضي السورية، إذ أرسل الكرملين وفدًا رفيع المستوى إلى دمشق برئاسة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، مبعوث الرئيس فلاديمير بوتين الخاص. وقد أفضت اللقاءات الأولى إلى تأكيد الطرفين أهمية الاستمرار في التعاون العسكري والأمني، لكن ضمن شروط جديدة قد تراعي حساسيات المرحلة الانتقالية. والواقع أنّ روسيا حريصة على التمسك بقواعدها في الساحل السوري، ليس فقط لدورها الحاسم في موازين القوى الإقليمية؛ بل أيضًا كجزء من إستراتيجيتها الكبرى للحفاظ على موطئ قدم في مياه البحر الأبيض المتوسط، وتعزيز أوراقها التفاوضية مع القوى الغربية، خاصةً على خلفية النزاع المتصاعد مع أوكرانيا.
بين توطيد النفوذ والتسويات الجديدة.. الدور الروسي في سوريا ما بعد سقوط النظام
يمثل الوجود الروسي في سوريا عنصرًا حيويًّا في موازين القوى الإقليمية، فبعد سقوط نظام الأسد وجدت موسكو نفسها أمام واقع جديد يفرض إعادة تعريف حدود دورها، ليس فقط في دعم حكومة أحمد الشرع عسكريًّا وأمنيًّا، بل أيضًا في إعادة الإعمار، وتطبيع الأوضاع الداخلية. ومع أنّ اتفاقيات سابقة منحت روسيا امتيازات بعيدة المدى في طرطوس وحميميم، فإنّ موسكو باتت مضطرة إلى التفاوض مع السلطة الجديدة على شروطٍ تحظى بقبولٍ أوسع لدى السوريين، وإلا فإنّ أي وجودٍ عسكريٍّ طويل الأمد سيُقابَل بانتقاداتٍ محلية قد تؤثر في شرعية حكومة الشرع نفسها. ومن ناحية أخرى، يمكن لروسيا أن تحافظ على دورها الحيوي من خلال الاستثمار في إعادة إعمار البنية التحتية، وقطاع الطاقة؛ مما يعزز نفوذها، ويؤمّن لها مصالح اقتصادية تعوّض عن الضغوط التي تتعرّض لها دوليًّا من جراء الأزمة الأوكرانية. وهكذا، يظل استمرار الوجود الروسي في سوريا مشروطًا بتوافقٍ سياسيٍّ يحفظ مصالح موسكو من جهة، ويراعي مطالب الداخل السوري والمجتمع الدولي من جهةٍ أخرى.
تدرك موسكو أنّ التحدي الأكبر لا يقتصر على حفظ قواعدها العسكرية فقط؛ بل يمتد إلى ضمان دور مؤثر في رسم شكل النظام السياسي الجديد، وإعادة توزيع مراكز القوى داخل البلاد، إذ باتت القيادات الروسية تدرك أنّ سوريا بعد سقوط الأسد لن تكون كسوريا قبله، فالتوازنات الداخلية تغيرت بفعل صعود قوى سياسية ومدنية جديدة ترى أنّ التدخل الروسي، وإن أسهم في حسم المعارك إلى حدٍّ كبير في السابق، قد خلّف إرثًا ثقيلًا من حيث اعتماد المؤسسات الأمنية والعسكرية على الخبرة الروسية، فضلًا عن هيمنة الشركات الروسية على بعض مفاصل الاقتصاد التي وُضِعت تحت تصرّف موسكو بموجب عقود واتفاقيات مع النظام القديم؛ ومن هنا، تسعى القيادة الجديدة في دمشق إلى صياغة علاقةٍ أكثر براغماتية مع روسيا، بحيث تستفيد من مظلة الحماية الدبلوماسية في مجلس الأمن، وتضمن استمرار المساعدات التقنية، ولكن من دون إعطاء موسكو ورقةً بيضاء في الملفات الداخلية كافة.
من جهة أخرى، ينظر كثير من السوريين بعين القلق إلى احتمال تحوّل الوجود الروسي إلى أشبه بوضعٍ دائم على غرار نماذج تاريخية سابقة شهدتها المنطقة، وهو ما يدفع شريحةً عريضةً من النخب السياسية والمجتمعية إلى المطالبة بضرورة وضع إطارٍ قانوني واضح لتنظيم هذا الوجود؛ إطار يحدّد عدد القوات، ونوعية الأسلحة المسموح بتخزينها في القواعد الروسية، ويُلزم موسكو بالمساهمة الفعلية في خطط إعادة الإعمار وتشغيل الأيدي العاملة السورية. وفي الوقت نفسه، لا تنكر الأطراف الداخلية أهمية الدور الروسي في مواجهة ما تبقى من بؤرٍ مسلحةٍ خارجةٍ عن سيطرة الدولة، فضلًا عن دوره في تأمين الضمانات اللازمة لمنع أي تصعيدٍ عسكري داخلي قد يُفشل جهود المرحلة الانتقالية.
وعلى المستوى الإقليمي، ما زالت روسيا تحتاج إلى التوافق مع دولٍ لطالما كانت منافسةً لها في الملف السوري، وعلى رأسها تركيا، التي تربطها بموسكو تفاهمات معقدة تتراوح بين التنسيق والتوتر، خاصةً فيما يتعلق بالمناطق الشمالية لسوريا، التي كانت ساحةً لصراع نفوذ طويل. وقد يدفع التغيير الجذري في دمشق موسكو إلى إعادة ضبط بوصلتها حيال أنقرة، وغيرها من العواصم المؤثرة، مثل طهران، والرياض؛ فإيران التي كانت حليفًا وثيقًا للنظام السابق، تعيد النظر كذلك في آفاق حضورها العسكري والسياسي بعد سقوط الأسد، في حين قد تكون الدول الخليجية منفتحة على تقديم دعم مالي سخي لإعادة الإعمار إن رأت في ذلك فرصةً لتحجيم النفوذ الإيراني، وضمان استقرار طويل الأمد في الساحة السورية.
أما على المستوى الدولي، فإنّ التحركات الروسية في سوريا لا يمكن عزلها عن تداعيات الأزمة الأوكرانية، حيث تحاول موسكو استخدام نفوذها في الشرق الأوسط كورقة إضافية على طاولة المفاوضات مع الغرب؛ ففي ضوء العقوبات الاقتصادية المتصاعدة، وتوتر العلاقة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تجد موسكو في الوجود السوري مرونةً دبلوماسية تتيح لها عرض بعض التنازلات، أو الإبقاء على مواقعها مقابل مكاسب في الملف الأوكراني، سواء فيما يتعلق بتخفيف العقوبات، أو الاعتراف بمناطق تسيطر عليها في الشرق الأوكراني.
مع ذلك، يبقى عامل الوقت حاسمًا في تحديد شكل الدور الروسي المستقبلي؛ فإذا تمكّنت حكومة الشرع من إجراء مصالحة وطنية حقيقية، وبناء مؤسساتٍ كُفء تُعيد الثقة إلى المجتمع، وتحقق قدرًا من الاستقرار، فقد تتقلص مبررات حضورٍ عسكريٍّ خارجي واسع النطاق. وإن فشلت هذه الحكومة في رأب الصدوع الداخلية، قد تتعاظم حاجة دمشق إلى المساندة الروسية، بما يطيل أمد الوجود العسكري، ويجعل أيّ محاولة لتحجيمه أمرًا معقدًا سياسيًّا وشعبيًّا. وفي جميع الأحوال، تُدرك موسكو أنّ الحفاظ على نفوذها يتطلّب مواكبة التحولات الداخلية عبر قنوات جديدة أكثر انفتاحًا على السلطات المحلية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني، خشية أن تخسر مكانتها تدريجيًّا لصالح دولٍ أخرى قد ترى في مرحلة ما بعد الأسد فرصةً استثمارية وسياسية لا تعوّض.
الانسحاب الإسرائيلي من القنيطرة وأبعاد التوتر الروسي- الأوكراني
على صعيدٍ آخر، أثار انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من عدة مواقع في القنيطرة السورية في ديسمبر (كانون الأول) 2024 تساؤلات كثيرة عن دوافع هذه الخطوة وتوقيتها. ويرى مراقبون أنّ تل أبيب سعت إلى تجنّب التصعيد العسكري في خضم مرحلة انتقاليّة ضبابيّة في دمشق، وذلك بعدما كثّفت غاراتها في السنوات السابقة على ما تصفه بمواقع تابعة لإيران، أو “حزب الله”. كما قد يهدف هذا الانسحاب الجزئي إلى إعادة تقييم الإستراتيجية الإسرائيلية في ظل السلطات السورية الجديدة، واحتمال تبدّل التحالفات الإقليمية.
تؤكّد التطوّرات الأخيرة أنّ مستقبل سوريا مرهون بتحقيق توازنٍ دقيقٍ بين متطلّبات الاستقرار الداخلي ومصالح القوى الإقليمية والدولية؛ إذ باتت السلطة الجديدة بقيادة أحمد الشرع أمام اختبارٍ بالغ الحساسية: فإمّا أن تنجح في إعادة هيكلة الحياة السياسية والأمنية من خلال إصلاحات شاملة تضمن انخراط مختلف الأطراف والفصائل في العملية الانتقالية، وإمّا أن تجد نفسها عالقة في دوّامة جديدة من الصراع. في المقابل، لم يعد بإمكان موسكو التصرف بحرية مطلقة كما كانت في ظل النظام السابق؛ ما قد يفرض عليها إعادة صياغة اتفاقياتها العسكرية واللوجستية كي تحافظ على نفوذها الإستراتيجي من دون الاصطدام بالديناميات المحلية الناشئة. ويترافق ذلك مع انسحاب إسرائيلي من القنيطرة يعبّر عن حرص تل أبيب على تفادي تصعيد غير محسوب في مرحلة انتقالية ضبابية، في حين تستمر الأزمة الروسية الأوكرانية في التأثير في مجمل المشهد الدولي، وهو ما قد يجعل سوريا ورقة ضغط إضافية تلوّح بها موسكو إذا احتدم التوتر مع الغرب. وضمن هذه المعادلة المعقدة، فإنّ قدرة حكومة الشرع على حشد اعترافٍ عالميٍّ وتأييدٍ شعبيٍّ حقيقيٍّ ستكون العامل الحاسم في تحديد مصير البلاد؛ ما يستلزم تحقيق تسوياتٍ سياسية عادلة، وتقاسمٍ رشيدٍ للسلطة والموارد، بحيث تُفتح آفاقٌ واقعيةٌ للانتعاش الاقتصادي، وبناء دولةٍ مؤسسيةٍ تُطوى بها صفحة سنواتٍ طويلةٍ من الاضطراب والحرب.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.