قررت روسيا سحب تصديقها على “معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية”، وهي واحدة من الاتفاقيات الدولية الرئيسة في مجال الأمن العالمي. ويزعم فلاديمير بوتين، ومن بعده مسؤولون روس آخرون، أن الأمر يتعلق باستعادة التكافؤ مع الولايات المتحدة، التي لم تصدق بعد على تلك المعاهدة. وفي الوقت نفسه، فإن الفوائد التي ستعود على موسكو من هذه الخطوة ليست واضحة، ولكن يمكن أن يكون هناك كثير من العواقب السلبية.
لأكثر من عقدين من الزمن، ظلت روسيا تحاول جعل “معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية”، التي فُتح باب التوقيع عليها عام 1996، واحدًا من مكونات الحوار الإستراتيجي مع الولايات المتحدة. في الرابع من يونيو (حزيران) 2000، وقع فلاديمير بوتين وبيل كلينتون على “بيان مبادئ الاستقرار الإستراتيجي”، الذي ذكر- من بين أمور أخرى- مسألة التصديق على الوثيقة. واتخذت روسيا هذه الخطوة في الثلاثين من الشهر نفسه، لكن الولايات المتحدة ما زالت مترددة؛ مما جعل معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية أداة مناسبة للضغط على واشنطن.
وقال الخبراء الروس إنه سيكون من المستحسن استعادة التكافؤ. وقد صدرت هذه التصريحات على خلفية انسحاب الولايات المتحدة من “معاهدة الحد من أنظمة الدفاع الصاروخي” عام 1972، وفي إطار المفاوضات بشأن “الدفاع الصاروخي الأوروبي” في أوائل عام 2010، وبعد ذلك بكثير. إن الرغبة في الحفاظ على التكافؤ الإستراتيجي في العلاقات مع الولايات المتحدة، أصبحت- في نهاية المطاف- الأساس المنطقي لإلغاء تصديق روسيا الحالي على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
وقد أشار بوتين إلى هذا الاتفاق في شهر فبراير (شباط) الماضي، عندما كان يتحدث أمام الجمعية الفيدرالية، وقال إن “بعض الشخصيات في واشنطن” تفكر في إمكانية إجراء تجارب واسعة النطاق للأسلحة النووية”. واستنادًا إلى كلام الرئيس، فهو قلق بشأن تطوير الرأس الحربي النووي الأمريكي (W93)، الذي ظهرت معلومات عنه لأول مرة في طلب ميزانية وزارة الطاقة الأمريكية في فبراير (شباط) 2020. وفي الوقت نفسه، أعلنت الإدارة الأمريكية احتمال استئناف التجارب النووية، وأوضحت الولايات المتحدة أن التجارب يمكن أن تشجع الصين على الانضمام إلى اتفاقيات خفض الأسلحة الإستراتيجية.
ومع ذلك، كانت تلك إدارة الجمهوري دونالد ترمب. وعلى العكس من ذلك، يدعم شركاء الديمقراطي جو بايدن معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ويعدون بالضغط من أجل دخول المعاهدة حيز التنفيذ. في عام 2021، بعد تغيير القيادة في البيت الأبيض، أكد تشارلي كناكل، الموظف في مختبر لوس ألاموس، أنه يمكن وضع الرؤوس النووية الحربية (W93) في الخدمة دون إجراء تجارب نووية واسعة النطاق، وهو الأمر الذي كان بوتين يخشاه بشدة؛ لذا يبدو أن السلطات الروسية في خطابها تتجه نحو الحكومة الأمريكية السابقة، أو أنهم يستعدون لفوز جمهوري محتمل في انتخابات 2024.
وتتوافق كلمات بوتين مع الرأي الراسخ بين كثير من الخبراء الروس بأن إنشاء نوع جديد من الرؤوس الحربية يتطلب بالضرورة إجراء تجارب نووية واسعة النطاق. تحدث الأكاديميان ألكسندر ساخاروف وفيكتور ميخائيلوف عن هذا الأمر. ومع ذلك، فهذه أفكار تعود إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في أحسن الأحوال. يتيح العلم الحديث إمكانية تطوير رؤوس حربية جديدة دون إجراء اختبارات واسعة النطاق.
كما تشعر وزارة الخارجية الروسية بالقلق إزاء: “القرار المتخذ في الولايات المتحدة بشأن زيادة جاهزية موقع التجارب النووية في ولاية نيفادا”. ومع ذلك، في عام 2018، اشتكى الدبلوماسيون الروس بالفعل من أن الأمريكيين قد رفعوا مستوى استعداد موقع الاختبار لاستئناف التجارب النووية الواسعة النطاق إلى ستة أشهر. لقد مرت خمس سنوات، ولا توجد حتى الآن اختبارات واسعة النطاق، ولكن الشكاوى لا تزال هي نفسها.
ويرتبط النشاط الحالي في موقع التجارب بالتجارب النووية، والنووية دون الحرجة، التي لا تحظرها معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة مستعدة لإجراء تجارب نووية هناك في الغد القريب. بالإضافة إلى ذلك، لوحظ النشاط نفسه في مواقع التجارب النووية في الصين، وروسيا نفسها. اعترف المدير العلمي لمعهد البحث العلمي لعموم روسيا في الفيزياء التجريبية (VNIIEF) فياتشيسلاف سولوفيوف بأن: “موقع التجارب النووية المركزي الروسي في أرخبيل نوفايا زيمليا جاهز لاستئناف التجارب النووية، وأن الأمر يتوقف على قرار الإدارة السياسية”.
تلقي وزارة الخارجية الروسية باللوم على الولايات المتحدة وحدها في عدم دخول معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية حيز التنفيذ. والواقع أن السلطات الأمريكية وقعت على المعاهدة عام 1996، لكنها لم تصدق عليها بعد، ويرجع ذلك- في المقام الأول- إلى إحجامها عن تقييد أيديها في مسائل تتعلق بالأمن القومي. ومع ذلك، فإن هذا لا يتعلق بالموقف الأمريكي فقط. وبحسب شروط المعاهدة، فإن دخولها حيز التنفيذ يتطلب تصديق 44 دولة تمتلك أسلحة نووية، أو لديها القدرة على صنعها (تحدد الوكالة الدولية للطاقة الذرية هذه القائمة). وإلى جانب الولايات المتحدة، هناك سبع دول أخرى تعاني مشاكلات. وقعت مصر، وإسرائيل، وإيران، والصين، على المعاهدة، لكنها لم تصدق عليها، في حين لم تصل الهند، وكوريا الشمالية، وباكستان إلى نقطة التوقيع.
ومن غير المتوقع أن يؤدي تصديق الولايات المتحدة على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية إلى تحفيز مجموعة السبع. على سبيل المثال، الهند وباكستان، لا يمكن للولايات المتحدة إجبارهما على توقيع الاتفاقية في ظل العداء المستحكم بينهما، والتوازن النووي الذي يسعى كل طرف إلى الحفاظ عليه. ومثال روسيا يدل أيضًا على ذلك، حيث أصبح تصديقها على المعاهدة عام 2000 بمنزلة إشارة لبيلاروس فقط: “فقد اتخذت الخطوة نفسها بعد شهرين”. وعلى سبيل المثال، فإن القيادة السورية، الصديقة لروسيا، لم توقع حتى الآن على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
وفي الوقت نفسه، ليس لدى موسكو أي أسئلة بشأن تصريحات المسؤولين الصينيين بأن بكين ستتبع الولايات المتحدة في التصديق على المعاهدة، على الرغم من عدم وجود ضمانات. بل على العكس من ذلك، لن تكون الصين سعيدة إلا بانسحاب الأطراف الأخرى من معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. وقبل التوقيع على المعاهدة، تمكنت بكين من إجراء 45 تجربة نووية فقط، أي أقل بـ23 مرة من واشنطن. في ذلك الوقت، كانت الصين أقل شأنًا من حيث المعدات التقنية من القوتين النوويتين الرائدتين؛ لذلك لم تتمكن من إنشاء قاعدة اختبار جيدة لمحاكاة التجارب، ويعمل الصينيون الآن بنشاط على توسيع ترسانتهم النووية، وسوف يرحبون بأي فرصة لاختبار آخر التطورات عمليًّا.
ومن الغريب أن روسيا أعربت في السابق عن اهتمامها بتنسيق التدابير مع الصين لضمان الشفافية المتبادلة في مواقع التجارب. ومع ذلك، فإن الصينيين لم يكونوا مهتمين بهذا الاقتراح، وموسكو لا تنتقد بكين بشأن هذه القضية، ولا تشعر بالقلق إزاء احتمالات إجراء تجارب نووية على الأراضي الصينية.
أي إن من الواضح أن المسألة لا تتعلق بالتكافؤ مع الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، في سبتمبر (أيلول) 2023، وفقًا لتقارير وسائل الإعلام، دعت الولايات المتحدة ممثلي الاتحاد الروسي والصين إلى حضور التجارب دون الحرجة- تلك التي لا تتوافر فيها الظروف اللازمة لتفاعل متسلسل نووي مستدام ذاتيًّا. وهذه الأعمال لا تحظرها معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، والغرض من هذه المبادرة هو إثبات عدم انتهاك الوقف الاختياري للتجارب الواسعة النطاق (مع أن معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية لم تدخل حيز التنفيذ، فإن البلدان الحائزة للأسلحة النووية قدمت التزامات طوعية في هذا الصدد).
ومع ذلك، لم يكن هناك رد فعل إيجابي من الاتحاد الروسي. على سبيل المثال، قال نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف، إن موسكو لا تنوي الآن بشكل عام مناقشة الحد من الأسلحة مع الولايات المتحدة. وفي وقت سابق، طرحت السلطات الروسية تغييرًا في سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا كشرط للمفاوضات بشأن هذه القضايا. ومن هذا يمكننا أن نستنتج أن معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية أصبحت أيضًا ضحية للحرب؛ فقد وضعت روسيا مصير المعاهدة على سلم التصعيد؛ من أجل تحقيق تنازلات بشأن أوكرانيا.
إن قرار سحب التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية قد يرضي حلفاء روسيا، مثل كوريا الشمالية وإيران، المهتمتين بالتطوير الحر لبرامجهما النووية، لكن هذا مفيد أيضًا للولايات المتحدة، والصين، حيث تعد التجارب أكثر أهمية لهما. إن جوهر معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية هو أن الحظر على التجارب النووية يحد من القدرة على التحايل على القيود الكمية من خلال التحسينات النوعية في الأسلحة النووية. وفي الوقت نفسه، أكملت روسيا تقريبًا تحديث قواتها النووية: “فقد صنعت- وفقًا لبوتين- الصاروخ الباليستي العابر للقارات الثقيل للغاية سارمات، واختبرت صاروخ كروز الإستراتيجي بوريفيستنيك”. ويبدو أنه من أجل عدم تسهيل الحياة على الآخرين، ينبغي لموسكو أن تكون مهتمة بالحفاظ على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، لكن تبين أن الدوافع الأخرى أكثر أهمية هنا.
إن إلغاء التصديق على المعاهدة لن يجلب أي فوائد لروسيا. لن يتحسن أمن البلاد، ولن تقدم الولايات المتحدة أي تنازلات فيما يتعلق بهذه الخطوة. والشيء الوحيد الذي ستحققه روسيا هو تقديم نفسها في وضع غير مواتٍ لهؤلاء الشركاء الذين ما زالوا يحتفظون بها. وحتى الآن، كان يُنظر إليها باعتبارها لاعبًا مهمًّا في مجال منع الانتشار النووي. حتى وقت قريب، وصفت وزارة الخارجية معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية بأنها الصك القانوني الدولي الأكثر أهمية، المصمم لوضع حاجز موثوق به أمام التحسين النوعي للأسلحة النووية وانتشارها في جميع أنحاء العالم.
والآن تغيرت أولوية السياسة الروسية: “إذ تقول موسكو للعالم إن منع الانتشار النووي لا يشكل أهمية له”. الأمر الرئيس هو الصراع مع الولايات المتحدة. وربما تبدأ قريبًا المناقشات بشأن جدوى التوصل إلى اتفاق دولي رئيسٍ آخر، أو معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. ومن وجهة نظر بعض الصقور الروس، فإن العالم المستقر هو عالم تمتلك فيه القوى الرئيسة أسلحة نووية. ويقول هؤلاء الخبراء إنه لتحقيق السلام، وإزعاج الولايات المتحدة، يجب أن يمتلك الكثيرون أسلحة نووية.
وسيكون الأمر أسوأ من ذلك إذا أصبح سحب التصديق هو الخطوة الأولى نحو إجراء تجارب نووية على أراضي الاتحاد الروسي. وأشار بوتين إلى أنه: “في الوقت الحالي، سيكون كافيًا أن نتصرف بطريقة مرئية تجاه خصومنا، سواء الولايات المتحدة، أو غيرها”. رئيس معهد كورشاتوف للأبحاث النووية، ميخائيل كوفالتشوك، وهو شخص مقرب من الرئيس، يدعو بالفعل إلى إجراء تجارب نووية حتى يصبح كل شيء في مكانه الصحيح في العلاقات مع الغرب. ومع هذا الخيار، سيكون لجميع الدول الأخرى أيضًا الحق الأخلاقي في استئناف التجارب، وسيكون إيقاف التفاعل المتسلسل النووي أمرًا صعبًا جدًّا.
المصدر: مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.