نستكمل في هذا المقال عرض الكتاب المهم للدكتورة مكارم الغمري عن المؤثرات العربية والإسلامية في الأدب الروسي. ونخصص هذا المقال لما جاء في الكتاب عن شاعر روسيا الأشهر ألكسندر بوشكين، من خلال قراءة وتحليل الفصل الرابع من الكتاب، الذي يحمل عنوان “الموضوع العربي والإسلامي في إنتاج بوشكين”.
يعد شاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين أكثر أدباء روسيا حبًا للشرق، وتأثرًا به حضاريًّا وتراثيًّا وروحيًّا. ويقدم هذا الفصل محاولة لدراسة مكانة “الموضوع العربي والإسلامي” في إنتاج بوشكين، من خلال تحليل مؤلفات الشاعر المتأثرة بالشرق العربي خلال مراحل إنتاجه المختلفة.
يوصف بوشكين بأنه “شمس” الشعر الروسي، ولا ينبع هذا الوصف من فراغ؛ إذ إنه يعد ظاهرة فنية حوت بداخلها أهم تيارات الأدب الروسي الكلاسيكي. وجدت أشعار بوشكين المحبة للحرية مناخًا طيبًا في الـبـيـئـة المحـيـطـة بها، فانتشرت انتشارًا عريضًا بين فئات الشعب المختلفة، واكتسبت شعبية متزايدة أثارت ضيق القيصر الذي قرر التخلص مـن بـوشـكين بـنـفـيـه إلـى الجنوب (منطقة القوقاز).
ثم أدّت طبيعة الجنوب الخلابة دورًا إيجابيًّا فـي تـوجـيـه اهـتـمـامـات بوشكين نحو الشرق، فانعكس هذا الاهتمام بوضوح في قصصه الشعريـة الرومانتيكية التي كتبها خلال فترة الإقامة في الجنوب، والـتـي مـن أهـمـهـا “أسير القوقاز”، و”نافورة باختشى سراي”، فضلًا عن أشعاره الحرة الـتـي جابت روسيا، وجلبت له شهرة لا مثيل لها، فكان جزاؤه النفي مرة ثانية، ولكن هذه المرة في ضيعة ميخائيلوڨسكي النائية، حيـث حـددت إقـامـتـه، ووضـع تحت الرقابة المشددة.
وكانت فترة الإقامة في ميخائيلوڨسكي فرصة أمام شاعرنا لمعرفة حياة الفلاحين التي صورها- في شمول- في الرواية الشعريـة “يڨجيني أونيجين”. كذلك أتاح له جو العزلة الريفية فرصة القراءة المتعمقة في التراث الأدبي العالمي للشرق والغرب. وكان من أهم إنجازات بوشكـين في فترة الإقامة في ميخائيلوڨسكي القـصـة الـشـعـريـة “الـغـجـر”، والـروايـة الشعرية “يڨجيني أونيجن” التـي بـدأ بكـتـابـتـهـا فـي الجـنـوب، والـتـراجـيـديـا التاريخية “بوريس جودنوف”.
وتكتسب الرواية الشعرية “يڨجيني أونيجن” مكانة مرموقة بين مؤلفات بوشكين الواقعية، فهي تعكس- في وضوح- تحول بوشكين من الرومانتـيـكـيـة إلى الواقعية. ويلتقي “التاريخي” بـ “الواقعي” عند بوشـكـين فـي تـراجـيـديـة “بـوريـس جودنوف”، وفي القصة التاريخية الطويلة “ابنة الآمر”. وقد قدم بوشكين مؤلفات نثرية أخرى مهمة، تتسم بالمضمون الفكري العميق، وتتسم بالإيجاز في الشكل، وبساطة التعبير ودقته. ولم يكن بوشكين يكتب في الموضوعات التاريخية فقط؛ بل كان يعالج التاريخ مثلما يعالج موضوعًا تصويريًّا للفن، له حق الاهتمام من جانب الفن، مثل الإنسان نفسه.
كان العمر الأدبي ليوشكين في حدود العشرين عامًا. ولم يكن يعيش على هامش الأحداث، ولم يكن ضمن أعضاء “حركة الديسمبريين” الذين انتفضوا ثائرين في مطلع القرن الماضي، رافعين شعارات العدل الاجتماعي والحرية، لكن بوشكين عبّر في إنتاجه عن أفكارهم الحرة، وجسّد مثلهم في التغيير. تنوع إنتاجه الفني، فكتب القصيدة العاطفية، والحماسية، والقصة الشعرية الرومانتيكية، والمسرحية القصيرة، والقصة، والرواية الشعرية. كما جسّد إنتاجه تطور التيار الأدبي في روسيا حين تحول من الرومانتيكية إلى “شعر الواقع”. اختلف طابع أشعاره؛ فأحيانًا يغلب عليه التفاؤل والتعبير عن مباهج الحياة، وأحيانًا تتسم العاطفية عنده بمسحة الحزن، ويشوبها شعور برفض الواقع. ولم تكن أشعاره أحادية الجانب؛ بل كانت تتلون بصنوف شتى من المشاعر المتباينة: كالأمل واليأس، والبهجة والقنوط، والسعادة والحزن، وغيرها من المشاعر.
لم يتوج بوشكين شاعرًا قوميًّا فحسـب؛ بـل مـؤسـسـًا لـلأدب الـروسـي الحديث، فقد تمكن في إنتاجه من عبور معضلتين لم يتمكن غيره من عبورهما من قبل، فقد جعل من الأدب مرآة للواقع، وإحدى القوى الروحية الرائدة فـي حياة الشعب، كما أشبعه بالمضمون الاجتماعي التقدمي للفكر، وفي الوقت نفـسه، وبالتوازي، أكد خصوصية الأدب بأن نهض بالأدب الروسي إلى قمة الأدب الفني الحق، والكلمة الفنية القومية، وهي الكلمة التي تمكن منها بوشكين بفضل إرساء أسس اللغة الأدبية الروسية الحديثة، واجتيازه الفجوة التي تفصل بين اللغة الأدبية المكتوبـة ولـغـة الـشـعـب الـدارجـة، فـقـد كـانـت المؤلفات الأدبية تكتب باللغة السلافية الكنائسية المنفصلة عن اللغة الروسية الشعبية الحية، ثم بدأ بتقريب لغة الكتب من لغة الحياة منذ عهد لومونوسوف. ويعد بوشكين أحد رواد تحديث اللغة الأدبيـة الـروسـيـة، ففي أول قصة شعرية رومانتيكية له “روسلان ولودميلا” فتح الباب أمام عفوية اللغة الشعبية، وتمكن من تشييد أكمل الأشكال الفنية في إطار من البساطة، والدقة، والوضوح، والإيجاز المبدع.
رحل بوشكين عن الحياة وهو في قمة نضجه وقدرته على العطاء الأدبي، رحل وهو ما زال يمتلك الآمال والأفكار، بعد أن خر صريعًا في مبارزة زج إليها بتدبير من القيصر والصفوة، وذهـب الـشـاعـر، لـكـن “بـعـد يـومـين مـن رحيله، صارت داره مكانًا مقدسًا لكل الوطن، ولم تشاهد الصفوة انتصـارًا أكثر كمالًا، ولا أكثر تألقًا.. وشيئًا فشيئـًا بـات الـعـصـر كـلـه يـسـمـي بـعـصـر بوشكين”.
يعد بوشكين شخصية مركزية في الحركة الرومانتيكية الروسية، حتى إنها سمحت لنفسها أن تظهر داخل مؤلفات بوشكين الواقعية نفسها. ولم يتمكن في مؤلفاته الواقعية من أن يتخلص تمامًا من أسر الرومانتيكية، ومن خلالها يمكن فهم أسباب اهتمامه بالشرق.
وتخترق فكرة الحرية رومانتيكية بوشكين، فهذه الفكرة يبحـث عـنـهـا أسـيـر القوقاز، والإخوة قطاع الطريق، وماريا واليكو في “الغجر”، والسجين في قصيدة “السجين”. يمثل عالم الشرق أمام بطل بوشكين الرومانتيكي موطنًا خصبًا لتحقيق الذات الرومانتيكية، فحين يجد البطل الرومانتيكي نفسه في تناقض بين المثال والواقـع يـعـلـن “تمرده” عـلـى الـواقـع بـالـهـروب الرومانتيكي إلى عالم آخر بحثًا عن ملاذ للنفس المتـعـطـشـة لـلـتـنـاغـم مـع الحياة، وهنا يكون الشرق هو ذلك العالم الذي يجد فيه البطل الرومانتيكي ملجأ للسكينة الضائعة، فطبيعة الشرق الخلابة وحياته المحتـفـظـة بـشـيء من الفطرة، وتقاليده التي تعبق “بالقديم”، تساعد البطل الرومانتيكي على اجتياز أزمة النفس، ويتجسد الهروب الرومانتيكي بجلاء في القصـة الشعرية “أسير القوقاز”.
ينتقل الفصل إلى عنوان جانبي آخر، هو “روافد إنتاجه”، حيث تمكن بوشكين في إنتاجه من النفاذ إلى عمق الحياة الشعبية بما تحويه من أنماط إنسانية، وطابع مميز. ولم يستند بوشكين إلى الموهبة الفطرية فحسب؛ بل كان فنانًا مجدًا، يكدح في صقل الموهبة الأدبية، فالعبقرية وحدها لا تكفي؛ بل يجب أن تتوجها الثقافة، والجهد المتفاني. وقرأ بوشكين مؤلفات ڨولتير الدرامية المتأثرة بالشرق، ومؤلفات كل من شاتوبريان وجوته الشرقية، وقرأ كذلك القرآن والإنجيل، وعرف رائعة الأدب العربي “ألف ليلة وليلة”، واهتم اهتمامًا بالغًا بمعرفة تاريخ مصر القديمة. كما استمع إلى محاضرة في سانت بطرسبورغ ألقاها الأديب الروسي الكبير جوجول عن الخليفة المأمون وعصره. كما عثر في أوراق بوشكين التي تنتمي إلى سنوات متفرقة من عمره على محاولات لتعلم الحروف العربية، مرفق بها شروح لها. كذلك عُثر على ملحوظات عن شكل الأرقام العربية.
أدّت جذور بوشكين الشرقية دورًا في توجيه اهتمام الشاعر نحو الشرق، حيث تمكن عالم الأنثروبولوجي أنوشتين- في تسعينيات القرن الماضي- من إثبات الانتماء العرقي والقومي لإبراهيم هانيبال جد بوشكين لأمه. تزوج إبراهيم مرتين، فشل الزواج الأول، وأثمر الثاني سبعة أبناء، منهم الابن يوسف الذي أنجب أم بوشكين. وكان الشاعر الروسي شديد الاعتزاز بنسب أجداده، وخلّد ذكرى الجد إبراهيم في أكثر من مؤلف، يأتي على رأسها القصة التاريخية الطويلة “عبد بطرس العظيم”.
تبدو “الموتيڨات” العربية في إنتاج بوشكين قريبة الصلة “بالحضارة العربية والإسلامية”؛ فقد اجتذب الشرق العربي اهتمامه إبان مرحلة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وأخذ يجول بعقله بين أرجاء هذه الحضارة يفتش بين رموزها، يقرأ ويستوعب، ثم تأثر بالحضارة العربية.
ولحكايات “ألف ليلة وليلة” مكانة واضحة في إنتاج بوشكين، وهي واحدة من الثمار اليانعة للحضارة العربية الإسلامية. وظهر تأثير الكتاب في أكثر من مؤلف، مثل “روسلان ولودميلا”، و”ليالٍ مصرية”، و”أندجيلو”، وقصيدتَيْ “القمر يتألق”، و”التعويذة”.
اتجه بوشكين إلى الاستلهام من “ألف ليلة وليلة”؛ لأن هذه الحكايات التي تمزج بين الواقع والخيال الثري، تطرح- عادة- حوارًا خصبًا مضمونه الإنسان في علاقته بالواقع. وفي هذه الحكايات يكلل سعي الإنسان نحو الخير بالنجاح، وتنتصر قوى الخير على الشر، ويحل التوازن محل عدم التوزان. ونرى في “روسلان ولودميلا” انعكاسًا لقصص “المارد والصبية” المتفرعة عن حكاية الملك شهريار وأخيه شاه زمان، وقصة “أبو محمد الكسلان”، وقصة “حسن البصري”، وقصة “عيسى بن الرشيد والجارية قرة العين”، وقصة “الصعلوك الثاني”، وقصة “حكاية القماقم السليمانية”.
اهتم بوشكين بتاريخ هارون الرشيد، بصفته رمزًا إنسانيًّا، كانت له بصمته المميزة في مسيرة الحضارة العربية؛ ومن ثم كتب قصة “أندجيلو”، التي تصور علاقة السلطة بالشعب، مستلهمًا حكاية هارون الرشيد مع محمد بن علي الجوهري.
ومع أن استلهام بوشكين الشرق العربي في مؤلفاته كان يقوم على عنصري التاريخية والموضوعية، فإن ذلك لم يحل دون نفاذ موتيڨات “ذلك الشرق” الأسطوري، وهي: شرق السحر والطلاسم والشعوذة، وبذخ المتع والملذات، وهو التصور الذي انعكس في المسرح الفرنسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وامتد تأثيره إلى أدباء الحركة الرومانتيكية الروسية، وينعكس ذلك في قصيدة “التعويذة”.
كتب بوشكين قصيدتين عكستا تصور بوشكين للشخصية العربية؛ القصيدة الأولى تحمل عنوان “من وحي العرب”، أو “محاكاة العربي”، وتمثلت هذه السمات في الشخصية الجاذبية، ودماثة الخلق، والتوقد. ومن المرجح أن الصورة الشعرية تستقي ملامحها من شخصية حقيقية عرفها الشاعر بوشكين في الواقع، وهنا يتبادر إلى الذهن شخصية البحار المصري “علي”، الذي تعرف إليه بوشكين في أوديسا. والقصيدة الثانية كانت “بدون عنوان” .
واحتل تاريخ مصر القديمة حيزًا في دائرة اهتمام بوشكين بالشرق. وقد صور بوشكين مصر في عهد البطالمة، وإبان حكم كليوباترا، وقد جسّد “مضمون كليوباترا” أكثر من مرة في ثلاثة أشكال شعرية: نص شعري مستقل بعنوان “كليوباترا”، ثم في نصين شعريين في سياق قصتين هما قصتا “قضينا الأمسية في الداتشا”، و”ليالٍ مصرية”.
تختتم د. مكارم الغمري هذا الفصل من كتابها المهم عن المؤثرات العربية والإسلامية في أدب بوشكين بدراسة تسع قصائد من تأليف بوشكين، يجمعها عنوان واحد، هو “قبسات من القرآن”، وتعد من أهم أعمال بوشكين من وجهة النظر الفكرية والجمالية، وتعكس المكانة المهمة التي أحدثها القرآن في التطور الروحي لبوشكين.
تتألف “قبسات من القرآن” من تسع قصائد لا تحمل عناوين، ومدرجة بتسلسل الأرقام، وهي:
1- القصيدة الأولى: تعكس اهتمام بوشكين باستلهام الصور القرآنية التي تتناول جوانب من سيرة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، منها الآيات: “والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى”، “وأما اليتيم فلا تقهر”.
2- القصيدة الثانية: تعكس تأثر بوشكين بالآيات القرآنية التي تدعو إلى الحياء، ونبذ التبرج، والتي تعلي من عفة زوجات الرسول، ونزولهن عن الرغبة في التزين والحياة الدنيا، وبخاصة الآيات الكريمة “يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى”، وكذلك الآية: “يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإن طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق”.
3- القصيدة الثالثة: تعكس تأثر بوشكين بمعاني الآيات القرآنية التي تدعو إلى التواضع، واحترام كرامة الإنسان، بصرف النظر عن مكانته الاجتماعية، وكذلك الآيات التي تحض على الدعوة بالموعظة الحسنة، وأيضًا الآيات التي تحض على التفكير في دلائل القدرة الإلهية، وزوال متع الحياة الدنيا، والتذكرة بأهوال يوم القيامة. كما تستوقفه قيمة التواضع، واحترام الإنسان الصغير، والآيات التي تدعو إلى التأمل في نظام سير الكون كبرهان على وجود الله.
4- القصيدة الرابعة: فيها يستلهم بوشكين آيات سورة البقرة التي تحكي قصة النمرود الذي جادل نبي الله إبراهيم.
5- القصيدة الخامسة: يستلهم فيها بوشكين فكرة التأمل المادي في الكون للتدليل بها على موضوع الألوهية.
6- القصيدة السادسة: وتعد من أهم قصائد “قبسات من القرآن”، حيث تعكس جانبًا من مكنون بوشكين في الفترة التي سبقت الانتفاضة الديسمبرية.
8- القصيدة الثامنة: تعكس إعجاب بوشكين بسمة الكرم التي اقترنت بالعربي أكثر من غيره من شعوب العالم.
9- القصيدة التاسعة: يستمر فيها حديث الإيمان من خلال البعث، ويستلهم من القرآن قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.