منذ إسقاط نظام القذافي عام 2011، غرقت ليبيا في فوضى سياسية وعسكرية سمحت بتدخل قوى إقليمية ودولية كثيرة. في هذا الظرف المتردي، رأت موسكو فرصة سانحة لتعزيز حضورها دون مواجهات مفتوحة مع الغرب. فبينما كان الغرب منشغلًا بخوض معارك دبلوماسية ومحلية في طرابلس، عملت روسيا بهدوء على إقامة علاقات مع أطراف متنافرة، من دون إبداء نيّات توحيدية صريحة. الفوضى الليبية تحولت إلى مجال للتدخل الروسي الإستراتيجي، وانسجمت الخطط الروسية مع واقع لا دولة موحدة فيه، وسعت إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من خلال بناء أدوات نفوذ متعددة. بهذا الأسلوب، حفرت موسكو لنفسها موطئ قدم في ليبيا قبل أن يدرك العالم حجم اختراقها.
مع تفاقم الانقسام الليبي، وتشتت السلاح بين الشرق والغرب، وجدت موسكو نفسها تتسلل إلى المشهد دون عوائق حقيقية. كشفت تقارير غربية كيف استفادت روسيا من زعزعة الاستقرار الليبي دون تكاليف عالية، مستثمرة انجرار قوى إقليمية إلى القتال بشأن مصير ليبيا. بينما كانت مساعي الأمم المتحدة ومحاولات إحلال السلام تسير ببطء، عمل الروس خلف الكواليس على تقديم العون العسكري والمعلوماتي لفصيل حفتر المهيمن على الشرق، فالفوضى أوجدت لموسكو موطئ قدم؛ فعن طريق مقاتلين كفاغنر، وبخلاف الظهور الرسمي المعلن، تمكنت روسيا من التحالف مع حفتر تدريجيًّا، وتسهيل وصول معداتها إليه بحجة محاربة الإرهاب.
خلال السنوات الأخيرة، توسع الوجود الروسي بتسيير طائرات شحن، ومقاتلات تدريبية، ودوريات بحرية تحت غطاء دعم قوات حفتر، كما استُعِيِن بخبراء روسيين لتحديث الميليشيات التابعة له وتدريبها. ورغم نفي موسكو تورطها المباشر، فإن خطواتها العملية على الأرض كانت كافية لنشر خيوط نفوذها، فقد عملت القوات الروسية على تأمين مواقع احتياطية للجيش الليبي، وشيدت تحصينات حول قواعد أساسية، وحفرت آبار دعم إمداد معلنة أو ضبابية. بهذه الطريقة، سخرت روسيا فوضى الحالة الليبية لتنفيذ أهدافها الإستراتيجية بهدوء، وحصلت على نفوذ سياسي واقتصادي لم تكن تستطيع التمدد إليه في مرحلة الاستقرار.
لم يكن دور المشير حفتر مصادفة؛ فقد وجدته روسيا حليفًا قابلًا للاستخدام في مشهد شرق ليبيا المضطرب؛ فبعد أن أعاد تجميع نفسه بوصفه قائدًا عسكريًّا في طبرق، أصبح حفتر إحدى أهم نقاط الوصل بين موسكو والشرق الليبي. منذ عام 2017 تصاعد التعاون بين الجانبين؛ إذ قدمت روسيا أسلحة متطورة، ومستشارين عسكريين، لجيش حفتر، في مقابل وعود بفتح طرق نفوذ روسية إلى حقول النفط الشرقية، ومواني التصدير. تشير معلومات استخباراتية إلى أن موسكو ترى في حفتر “عميلًا مستقبليًّا” يساعدها على استعادة موطئ قدم في ليبيا، وقد تجلى ذلك جليًا في لجوء حفتر إلى قطع حقول النفط، مثل حقلي الشّعارة والمرارة سنوات عدة؛ ما ضرب مصادر دخل خصومه، وأثار سوق النفط الأوروبي.
أثبت حفتر ورجاله ولاءً مشروطًا لموسكو؛ فمن خلال دعمها المستمر له، زاد ثقل حفتر الإقليمي (لا سيما أمام دول مثل الإمارات ومصر الداعمة سابقًا له)، وبدوره فتح روسيًّا باب مشاركته في أي حكومة مشتركة مستقبلًا، فحاولت موسكو استغلال وضعه كورقة مفاوضات: إذ طالبت دائمًا بمقعد أساسي لحفتر في أي مفاوضات بشأن وحدة البلاد، متذرعة بأنه الضامن للاستقرار شرقًا. هذا التكتيك يعكس حقيقة أن موسكو لا تنظر إلى حفتر على أنه مجرّد عميل خارجي؛ بل شريك إستراتيجي في تأمين وجودها، وقد استثمرت فيه أوراقًا سياسية (كإدماج اسمه في الخرائط السياسية المتداولة للقيادة الوطنية)، واقتصاديًّا من خلال صفقات شركاتها النفطية معه.
واجهت روسيا في الآونة الأخيرة عراقيل كبيرة في جهودها خارج ليبيا؛ ففي سوريا، لم يعد الوضع مستقرًا تمامًا بعد سقوط إدارة الأسد، وتبدو قواعد طرطوس وحميميم أقل ضمانًا للاستمرار. وفي السودان، دخل النفوذ الروسي أزمة عندما تعمّق الصراع الداخلي هناك، خاصة بعد انشقاقه عن صفقة إقامة قاعدة بحرية دامجة. أمام هذه التحديات، قلبت موسكو أنظارها نحو ليبيا لتعويض هذا الفراغ.
لقد أدركت قيادة الكرملين أن خسارة قواعدها في البحر المتوسط بسبب التغيرات في دمشق يمكن تعويضها بإنشاء بدائل ليبية. وفق تقارير عدة، بدأت طائرات النقل الروسيّة منذ نهاية 2024 بإعادة مواقعها من سوريا إلى ليبيا، ودوّرت معدات نحو الشرق الليبي. في الوقت نفسه، واصلت روسيا المحادثات مع الخرطوم لإحياء فكرة قاعدة بحرية في بورتسودان على البحر الأحمر، وهو مسعى قد يؤمن لها منفذًا إستراتيجيًّا جديدًا. هذه التحركات المزدوجة (قاعدة بورتسودان وجنوب ليبيا) تظهر أن موسكو تراهن على ليبيا قاعدة خلفية: قاعدة جوية بحقولها، وقاعدة بحرية في السودان؛ وبذلك قد تشكل ليبيا محورًا بديلًا عن سوريا يمكن من خلاله نشر التأثير الروسي في المتوسط وإفريقيا، مع تحقيق جزء من أهدافها العسكرية والاقتصادية التي ضاعت بالسيناريو السوري والسوداني.
تحتضن ليبيا ثروات نفطية ضخمة، وغالبية إنتاجها كانت تستهدف أوروبا قبل الأزمة. تستفيد روسيا من هذا الواقع بوضع ليبيا ضمن لعبة الضغط على أوروبا. كان آخرها إغلاق حفتر حقل الشرارة النفطي (بقدرة 300 ألف برميل يوميًّا)؛ ما أسفر عن توقف نحو ثلث إمدادات ليبيا إلى السوق الأوروبية، فالحقل الذي تشغله شركات أوروبية كبرى (من النرويج وفرنسا وإسبانيا) حُجِب عن منتجيه، وأغلقته قوات حفتر، فرفعت موسكو بدورها الصوت من خلال مستشاريها أن ذلك يمثل فرصة لـ”إعادة رسم مستقبل الطاقة في شمال إفريقيا”. وفي موازاة ذلك، ظهر تلميح واضح أن الكرملين قد يستثمر هذه الفجوة النفطية من خلال شركاته (كغازبروم نفط، أو اندماج روسنفط ولوك أويل)؛ لسدّ النقص، أو حتى ابتزاز أوروبا بأمنها الطاقوي.
أما على صعيد الهجرة، فإن روسيا تراهن على دور ليبيا بوابتها الرئيسة لإفريقيا إلى أوروبا. بعد أزمات المهاجرين في 2015-2016، لا تزال أوروبا في حال يقظة تجاه موجة جديدة محتملة؛ وهنا يظهر بروز التحليل الروسي- الأمريكي القائل إن سيطرة روسيا على 75% من الأراضي الليبية مع قوات حفتر تمنحها القدرة على التحكم بمسالك الهجرة، فحتى التلويح بإطلاق موجات لاجئين جديدة قد يربك سياسة الاتحاد الأوروبي. وقد حذر نواب أوروبيون من هذا الخطر، معتبرين أن الكرملين يمتلك ورقة تهديد لأوروبا عبر ليبيا. باختصار، تعمل روسيا على ربط ملء الفراغ النفطي في ليبيا بتهديد مسارات الهجرة؛ فهي تعيد رواية “ابتزاز المهاجرين” بأسلوب حديث تحت راية الوجود العسكري.
في منتصف عام 2023، تحول دور قوات فاغنر في إفريقيا نحو الشكل التنظيمي الرسمي لما يُعرف اليوم بالفيلق الإفريقي. وفي ليبيا تحديدًا، دُمِجَت عناصر فاغنر تحت إشراف مباشر من الاستخبارات العسكرية الروسية. واليوم، يضم هذا التنظيم مئات الجنود الروس الذين خضعوا لتصفية داخلية، إضافة إلى آلاف المقاتلين السوريين الذين نُقلوا لتدعيم خط حفتر في الشرق، وتفيد التحليلات بأن نحو 800 إلى 3000 مقاتل روسي (أي ما يعادل لواءً ميكانيكيًّا) يعملون حاليًا في شرق ليبيا، متنقّلين بين قواعد مثل البريقة والخادم والجفرة وجبل سيدي، ويقدمون لخليفة حفتر الدعم على الأرض، ومن خلال التوجيه الاستخباراتي.
عسكريًّا، ينشط الفيلق الإفريقي في حماية الحقول النفطية، ومرافقة التحركات البرية، وهو مزود بعتاد ثقيل، ومسيرات ودروع روسية. ولوجستيًّا، غدت قواعده الجوية في الشرق (كالخادم والجفرة وبراك الشاطئ) محطات إمداد جديدة للسلاح، فقد ربطته تقارير بمجموعة قواعد جوية داخل ليبيا تشكل حلقة وصل بالإمدادات القادمة من سوريا إلى الساحل الإفريقي، وتشير معلومات مراقبة إلى إقامة جسور جوية روسية عبر ليبيا (إطلاق 10 طائرات من قاعدة حميميم إلى مطار بنغازي خلال ديسمبر/ كانون الأول 2024 مثلًا) وهكذا باتت ليبيا مسرحًا لوجستيًّا مركزيًّا يربط وجود روسيا بين البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء.
سياسيًّا، عزّز الفيلق الإفريقي قيمة حفتر بوصفه شريكًا روسيًّا على الأرض، فإلى جانب التدريب والتسليح الذي يقدمه، يُعد الفيلق “رديفًا روسيًّا” لقوات حفتر، يشرف على وجوده، ويسهّل تقديم المساعدات العسكرية إليه. أما شركات النفط الروسية، كـ”روس نفط”، فاقتحمت السوق النفطية الليبية بنقل تقنيات واستكشافات، عوضًا عن اتهامات شركات غربية بفقدان عقود. من هذا المنظور، صار الفيلق الإفريقي امتدادًا متماسكًا للسياسات الروسية في ليبيا: يضطلع بمهام حماية المصالح، وتنظيم الإمدادات، ويعمل في الوقت نفسه كبيدق للتأثير الغربي، من دون أن يلمس مؤسسات الدولة الموحدة.
حضور روسيا في ليبيا متعدد الأبعاد: عسكريًّا، وضعت موسكو بيدها وحدات قتالية مدربة حديثًا، فقد شاركت عناصر “الفيلق الإفريقي” -إلى جانب ميليشيات مرتبطة بحفتر- في معارك محلية، مستخدمة طائرات مسيرة وصواريخ مضادة للطائرات لتثبيت مواقعها. كما حُدِّثَت دفاعات معينة في الشرق بواسطة أنظمة روسية، ووصلت شحنات أسلحة خفيفة ومتوسطة عبر الجو والبحر. على هذا النحو، استطاعت روسيا أن تسيطر عمليًّا على مواقع مهمة دون نشر قواتها النظامية الواسعة، مع ضمان نفوذ عسكري دائم.
لوجستيًّا، أنشأت روسيا خطوط إمداد معقّدة، فتبيّن أن قواعدها الجوية في ليبيا (كالجفرة والخادم وبراك الشاطئ) أصبحت نقاط تموين رئيسة، تسمح بنقل الأسلحة والعتاد من سوريا، وإمداد ميليشياتها هناك، ووُظِّفَت بعض المطارات الليبية كوصلات جوية مع إفريقيا الوسطى وجنوب الصحراء، ودلّت الصور العالية الدقة على ترميم مدرجات مطاري الجفرة وماتن الرّأس الليبيين، وبناء مخازن جديدة لدعم العمليات في ليبيا وجوارها، وتكاملت هذه الشبكة اللوجستية مع مصايد بحرية يُشار إليها أحيانًا برغبة موسكو في استئجار قاعدة بحرية في طرابلس، لتكون نقطة انطلاق للسفن الحربية الروسية في المتوسط. بهيكل كامل من قواعد هوائية وبحرية وقواعد إمداد، تمتلك روسيا في ليبيا بنية تحتية تضمن استمرار انتشارها على المدى الطويل.
نفسيًّا ومعنويًّا، تستخدم موسكو وجودها لكي ترسل رسالة قوية؛ فهي تهدف إلى بثّ شعور بالقوة لدى حلفائها، وبالخوف لدى خصومها؛ فمن جهة، يبعث استمرار ارتكازها العسكري رسائل إلى المجتمع المحلي بكون “الدعم الروسي” شرطًا للاستقرار؛ مما يزيد ولاء حلفائها، ومن جهة أخرى، تُعدّ حالة موسكو في ليبيا ورقة ترهيب للغرب؛ فقد أكّد مختصون أن مجرد قدرة روسيا على تحريك الحشود المثقلة بالمهاجرين، وجعلها تتدفق نحو أوروبا، يمنح الكرملين قدرات نفسية كبيرة، دون خوض معركة مباشرة. بالإضافة إلى ذلك، تلجأ الأذرع الإعلامية الروسية إلى نشر دعاية تخدم روايتها: ظهرت شبكة مواقع وصفحات اجتماعية تروّج لمصالح حفتر، وتشيطن منافسيه، في حين يسعى الإعلام الروسي إلى بث فكرة التهديد بافتراس أوراق ليبيا في حالة تغير المعادلة، بل إن تجارب من نوع “عودة غواصات نووية روسية إلى المتوسط” أُعلنت لتخويف الغرب. كل ذلك يصب في تقوية الأثر النفسي لموسكو: هي لا تقاتل بالأسلحة فقط؛ بل برهاب الخصوم، وإيهامهم بأنها ليست غريبة، ولن تنسحب بسهولة.
تبيّن من التحليل أن الأزمة الليبية تشكل اليوم محورًا حيويًّا للمصالح الروسية في المتوسط، إذ حققت موسكو من خضم فوضى ليبيا أكثر مما ضمنت من مواجهة عسكرية مباشرة؛ فقد وسعت نفوذها الاقتصادي (عقود الطاقة) والسياسي (موقف على طاولة المفاوضات)، وأصبحت قاعدتها هناك جسرًا يصلها بإفريقيا الوسطى والشرقية. وفي الوقت الذي راهنت فيه الدول الغربية على استقرار ليبيا الموحدة، استطاعت روسيا تحويل الانقسام إلى ورقة رابحة: فامتلاك حليف قوي شرقًا، وكفة ضاغطة على الغرب من خلال الموارد والهجرة، جعلاها شريكًا إستراتيجيًّا لا يمكن تجاهله.
في النهاية، أثبتت ليبيا -بما تكتنز من فوضى وجغرافيا- أنها منصة مثالية لتحقيق الطموحات الروسية في هذه المرحلة. ولكي تخرج ليبيا من فخ النفوذ الخارجي القوي، يحتاج أمراؤها وشركاؤها الغربيون إلى خطوات نوعية تضع حدًّا لاستغلال الفوضى؛ ومن ثمّ استعادة البلاد نحو توافق ليبي بأقل دخائل أجنبية.
ما ورد في التقاير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.