نشر المجلس الروسي للشؤون الدولية (RIAC) المؤسسة البحثية الأكبر في روسيا، مقالًا لرئيس تحرير مركز الدراسات العربية الأوراسية، عن الأوضاع في روسيا، وتعيد وحدة الرصد والترجمة في المركز نشره باللغة العربية بعد ترجمته.
انطلقت يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، عملية عسكرية أطلقتها فصائل المعارضة السورية المسلحة في شمال غربي البلاد، تحت اسم “ردع العدوان”، وقالت إنها تهدف إلى توجيه “ضربة استباقية لقوات النظام السوري”. عدّت هذه العملية أول اختراق للهدنة بين الطرفين في محافظة إدلب منذ الاتفاق “التركي- الروسي” لوقف إطلاق النار الذي أُقر في مارس (آذار) 2020، لكن العملية العسكرية تمددت بعد سيطرة المعارضة على محافظة حلب بكاملها، ثم حماة، وتهاوي قوات النظام السوري سريعًا، وصولًا إلى السيطرة على العاصمة دمشق، وفرار الرئيس السوري السابق بشار الأسد.
العملية العسكرية الحالية انطلقت من محافظة إدلب من خلال مجموعة من فصائل وأحزاب المعارضة المسلحة الإسلامية التي أنشأت “إدارة العمليات العسكرية”، لتوحيد الجهد العسكري، والقيام بعملية عسكرية مشتركة، وهي:
في الأدب العربي، هناك عبارة شهيرة تقول “الابن سرّ أبيه”، وتعني أن الابن لا بدّ أن يحمل كثيرًا من صفات والده وسلوكياته. لكن هذه المقولة لا تنطبق -بأي حال من الأحوال- على الرئيس السوري بشار الأسد؛ طبيب العيون الذي تلقى تعليمه في بريطانيا، وكان شخصية باهتة وهامشية داخل عائلة الأسد الأب، ولولا المصادفة التي أدت إلى وفاة مفاجئة لأخيه الأكبر قائد الحرس الجمهوري باسل الأسد، في حادث سيارة عام 1994، لما عرفه أحد، ولربما أكمل حياته في لندن طبيبًا.
بشار الأسد، الذي أُعِدَّ على عجل لتوريث السلطة له في ظل نظام جمهوري، وفي شكل من أشكال الكوميديا السوداء، حيث اجتمع مجلس الشعب السوري عقب وفاة حافظ الأسد في 10 يونيو (حزيران) 2000، لتعديل المادة رقم (83) من الدستور التي تنص على أن “سنّ الرئيس يجب أن تكون 40 سنة”. وفي تصويت استغرق مدة قصيرة جدًّا، أصبحت المادة (83) تنص على أن “سن الرئيس يمكن أن تكون 34 سنة”، وهي سن بشار في ذلك الوقت. وبهذا التعديل الدستوري، الذي يعد الأسرع من نوعه في العالم، تمكن بشار الأسد من تولي رئاسة البلاد.
ظهر ضعف شخصية بشار وتردده منذ الشهور الأولى لتوليه السلطة، حيث ادعى في خطابه الأول يوم 17 يوليو (تموز) 2000، أن سوريا مقبلة على عملية إصلاحية جديدة، وهو ما شجع المثقفين والسياسيين والشباب في البلاد على التفاعل الإيجابي مع هذه الدعوة، ونشأ نقاش سلمي هادئ ومتحضر داخل الأروقة الثقافية السورية، وتزعمته النخبة المثقفة من العلمانيين ذوي التوجهات اليسارية في أغلبهم، وسميت هذه الفترة “ربيع دمشق”، لكن بشار استجاب لضغوط الطغمة الحاكمة التي أحاطت بوالده من الفاسدين الذين أغراهم ضعفه، وشعورهم بالاستحقاق لأنه بفضلهم تولى السلطة في ظل نظام جمهوري تم تحويله عمليًّا إلى نظام ملكي، وهكذا انتهى هذا النقاش السلمي في 17 فبراير (شباط) 2001، وأُضعفت كل الأصوات العلمانية المستنيرة من أجل إغراق البلاد في الفساد، وفتح المجال للدعوات الدينية السلفية المتشددة، التي هاجمت المثقفين والعلمانيين ووصفتهم بالخارجين عن الدين والملة، وهكذا مهد بشار، ومعه أجهزته الأمنية والفاسدين من حوله الذين رأوه مجرد واجهة للنظام، البلاد لقبول الفكر المتطرف.
عكس حافظ الأسد، الذي كان يملك من الذكاء والحكمة والخبرة ما مكن سوريا من أداء عدة أدوار أكبر من حجمها، مع تجنيب البلاد الدخول في صراعات المحاور الإقليمية أو الدولية، ورّط بشار الأسد البلاد في هذه الصراعات؛ حيث تحالف مع إيران بعد خروج مصر من المعادلة الحربية للصراع العربي الإسرائيلي، ليسد بخروجها هذا الفراغ، ولا يبدو وحيدًا ضعيفًا أمام إسرائيل، لكنه حافظ في الوقت نفسه على علاقات قوية مع بلدان الخليج العربية، وأكد في جميع المناسبات على أنه ليس طرفًا في صراعات إيران الإقليمية، ولتأكيد ذلك بادر بتشكيل ما سُمي “محور القاهرة- الرياض- دمشق”، الذي أسهم في حل كثير من القضايا الإقليمية. ثم أوقف بشار هذه الآلية، ووصف زعماء مصر والسعودية عام 2006 بأنهم “أشباه رجال”، في خطاب جماهيري له؛ لوصفهم بدء حزب الله اللبناني حربًا مع إسرائيل بـ”المغامرة غير المحسوبة”. كما تبنى سياسات إيران ومحورها، وانحاز إليها تمامًا في صراعاتها مع العرب، وأخل بالتوازن الذي بناه والده في لبنان.
باختصار، كل التوازنات والسياسات التي أفنى حافظ الأسد عمره في بنائها، وخلقت مكانة لسوريا أكبر بكثير من حجمها، وجعلت لها دورًا فاعلًا على الساحتين الإقليمية والدولية، وتوازنًا في العلاقات بين الشرق والغرب، والعرب وتركيا وإيران، وسيطرة على لبنان برضا وقبول من قطاع عريض من اللبنانيين وقوى إقليمية ودولية، وتنشيط عملية السلام مع إسرائيل؛ دمرها بشار الأسد الضعيف، عديم الخبرة، الذي حول بلاده إلى ملعب لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وهو ما أدى إلى حدوث انشقاقات خطيرة داخل نظامه حتى قبل أحداث ثورة 2011.
حققت روسيا أهدافها الجيوسياسية كاملة في سوريا:
أولًا– حافظت على كيان الدولة السورية.
ثانيًاـ قضت على الجماعات الإرهابية الأشد تطرفًا.
ثالثًاـ قطعت الطريق على المتطرفين القادمين من شمال القوقاز وبلدان (الجوار القريب) للاستحواذ على سوريا واتخاذها منطلقًا للهجوم على روسيا وحلفائها في أوراسيا.
رابعًاـ حافظت على وجودها العسكري في قاعدة طرطوس البحرية، ووصلها مع قاعدة سيفاستوبول، ليكون للبحرية الروسية وجود قوي ومؤثر في المياه الدافئة، قادر على خلق توازن مع الأسطول الأمريكي السادس في البحر الأبيض المتوسط.
خامسًا– دعمت وجودها العسكري في سوريا بعدد من القواعد الجوية، وبطاريات الدفاع الجوي، وغيرها من أنظمة الحماية العسكرية، وطوقت حلف الناتو من الجنوب.
أخيرًا– نجاح روسيا عسكريًّا في سوريا زاد ثقة دول المنطقة وشعوبها بإقامة علاقات جادة معها، واستعادت مساحات واسعة من نفوذها المفقود منذ تفكك الاتحاد السوفيتي في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والقرن الإفريقي، وفتح آفاقًا لعلاقات جديدة لم يكن لها وجود من قبل مع بلدان الخليج العربية.
الآن، لم يعد الوجود الروسي في سوريا محل جدل أو نقاش، سواء داخل أوساط المعارضة السورية، أو الدول الإقليمية، أو حتى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. حتى إسرائيل تدرك جيدًا أن الضمانة لعدم تحول سوريا إلى قاعدة أمامية للهجوم عليها من قوى غير منضبطة هو الوجود الروسي. كذلك دول المنطقة، حتى الحليفة منها للولايات المتحدة، تثق بالوجود الروسي وما يشكله من ضمانة لاستقرار سوريا أكثر من أي طرف دولي آخر.
الهوى الشعبي السوري، وكذلك المؤسسة العسكرية والأمنية، والثقافة العامة، تميل ناحية الشرق أكثر من الغرب، ويصعب جدًّا أن تصبح سوريا دولة تابعة للغرب كما يروج البعض.
لقد حان الأوان لتتحول سوريا إلى قصة نجاح روسية، واستغلال علاقات روسيا المميزة مع مصر والسعودية والإمارات وقطر والأردن، ومصلحة هذه الدول العربية أن تستقر سوريا ولا تسقط بيد الجماعات المتطرفة، أو تهيمن عليها الجماعات التابعة لطهران أو أنقرة. كما أنه ليس من مصلحة الأخيرة أن ينشأ كيان كردي انفصالي في شمال سوريا.
يمكن أن يشكل التغيير في سوريا بداية لعودة تدريجية للثقة بين موسكو وواشنطن في ظل إدارة ترمب.
أعتقد أن على موسكو المبادرة الآن وسريعًا للتواصل مع جميع فصائل المعارضة السورية، والتركيز على المعارضة المسيطرة على الأرض، ولا سيما الإسلاميون منهم، الذين يدعون أنهم قد غيروا أفكارهم وانتماءاتهم، وأن أهدافهم الآن باتت قومية سورية، لا أممية عابرة للحدود الوطنية.
من المفيد أن تختبر موسكو نيّات حركات الإسلام السياسي السورية، وإذا توصلت معها إلى تفاهمات بشأن وجودها العسكري، ودورها في سوريا المستقبل، وموقفها من باقي المكونات السورية القومية والدينية، يمكن أن تدعو قادتها لزيارة موسكو كما بادرت بالانفتاح على حماس بعد انتخابات 2006، وحركة طالبان بعد سيطرتها على أفغانستان 2021، شريطة أن يوقعوا من موسكو وثيقة تؤكد على احترام كل ما سبق من مبادئ، وهو ما سيعد نجاحًا كبيرًا لموسكو في حفظ مصالحها، وكذلك احتواء هذه الحركات، وحماية المكونات السورية المختلفة.
إن ترك حركات الإسلام السياسي للولايات المتحدة، وابتزاز إسرائيل أو تجاهل التواصل معها، قد يكون كارثيًّا لمصالح روسيا. هذه الحركات ظهرت للوجود بعد دخول القوات السوفيتية أفغانستان عام 1979، بدعم أمريكي، ومنذ ذلك الحين تُستخدم لضرب المصالح الروسية في العالم، وفي دول (المجال ما بعد السوفيتي)، ويمكن لروسيا الآن أن تعيد ضبط كثير من هذه الحركات من خلال التواصل الفعال معها، وتقديم مكاسب لها مقابل ضبط سياساتها وتحركاتها، وتحولها مع الوقت إلى تيارات سياسية محلية محافظة.
أعتقد أن على موسكو المبادرة الآن وليس غدًا في قيادة التغيير السياسي، وأن تدعو قريبًا إلى عقد أول مؤتمر لجميع فصائل المعارضة السورية بكل مكوناتها العسكرية والسياسية والإسلامية والمدنية، والتعامل مع واقع سوريا الحقيقي، لا سوريا المُتخيلة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.