أبحاث ودراسات

لماذا ينبغي فهم السياسة القطرية وأهميتها لروسيا على المستويين الجيوسياسي والجيواقتصادي؟


  • 7 مايو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: aawsat

نشر مجلس الشؤون الدولية الروسي (RIAC)، أكبر مؤسسة بحثية في روسيا، منشأة بمرسوم رئاسي بتاريخ 2 فبراير (شباط) 2010، مقالًا جديدًا لرئيس تحرير مركز الدراسات العربية الأوراسية، بعنوان: “لماذا ينبغي فهم السياسة القطرية وأهميتها لروسيا على المستويين الجيوسياسي والجيواقتصادي؟“، وتقدم “وحدة الرصد والترجمة” بالمركز ترجمة كاملة للمقال من الروسية إلى العربية.

وصل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، يوم 17 أبريل (نيسان) الماضي، إلى العاصمة موسكو، في إطار زيارة رسمية التقى خلالها بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وعلى الرغم من صغر مساحتها، التي لا تتجاوز (11,581) كم²، وإجمالي عدد سكانها البالغ (3,119,589) نسمة من المواطنين والمقيمين، فإن قطر تُعَد لاعبًا إقليميًّا مهمًّا، وتؤدي أدوارًا حيوية مؤثرة في قضايا الشرق الأوسط، ولا يعود ذلك إلى ثرائها المالي فحسب (إذ بلغ معدل الناتج القومي القطري بالدولار عام 2023: 213,002,809.33)؛ بل أيضًا إلى سياساتها التي يمكن وصفها بـ”الهجينة”، التي تمنحها هوامش واسعة من المناورة بفضل مع ما تتمتع به من “رشاقة” تمكنها من التعامل مع جميع المتناقضات.

فضلًا عن ذلك، تُعَد قطر من كبار منتجي الغاز في العالم (إذ بلغ إنتاجها من الغاز 206.02 مليار متر مكعب عام 2014)، وهو ما يجعلها من الدول ذات الأهمية للمصالح الروسية، على المستويين الجيوسياسي والجيواقتصادي. ونظرًا إلى قلة الدراسات التي تناولت قطر وشرحت سياساتها في المكتبة السياسية الروسية، رأيت أن استغل فرصة هذه الزيارة لتقديم لمحة عامة عنها.

سوريا.. بداية الأزمة

أقيمت العلاقات الدبلوماسية الأولى بين الدوحة وموسكو في 1 أغسطس (آب) 1988، وفي 6 ديسمبر (كانون الأول) 1991، اعترفت قطر رسميًّا بالاتحاد الروسي عقب تفكك الاتحاد السوفيتي. شهدت العلاقات بين البلدين تطورًا كبيرًا في عام 2007، حين زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قطر، أعقبتها زيارة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة لروسيا مرتين في زيارتين رسميتين (في ديسمبر/ كانون الأول 2001، ونوفمبر/ تشرين الثاني 2010)، تخللها زيارتان لرئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم في عامي 2007 و2010، عقد فيهما عدة اتفاقيات شملت جميع الجوانب الاقتصادية والتقنية والثقافية، ووعودًا قطرية بضخ استثمارات كبيرة في داخل روسيا.

تعطلت جميع أوجه التعاون تقريبًا بين قطر وروسيا، على إثر الخلاف الحاد بين الجانبين بشأن الموقف من الثورة السورية ضد بشار الأسد، وصولًا إلى حادثة تعرض السفير الروسي السابق فلاديمير تيتورينكو للضرب على يد موظفي الجمارك القطريين في ديسمبر (كانون الأول) 2011، وهو ما أدى إلى تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية، وفتور العلاقات بين البلدين.

مع تولي الشيخ تميم بن حمد مقاليد السلطة في يونيو (حزيران) 2013، بدأت العلاقات تعود إلى طبيعتها، وصولًا إلى صدور مرسوم في نوفمبر من العام نفسه بعودة العلاقات، وتعيين سفيرٍ فوق العادة ومفوضٍ للاتحاد الروسي لدى دولة قطر، وعُقد أول لقاء بين الرئيس بوتين والأمير تميم في سوتشي بتاريخ 5 فبراير (شباط) 2014، لتبدأ عملية إعادة التعاون من جديد بخطى ثابتة وصولًا إلى الزيارة الأخيرة.

تبلغ الاستثمارات القطرية في روسيا أكثر من 13 مليار دولار، وتتميز بتركيزها في مشروعات وقطاعات مهمة وحيوية، مثل النفط، والبنوك، والبنية التحتية، والتجزئة.

 وبحسب السفير القطري في موسكو الشيخ أحمد بن ناصر آل ثاني، فقد استثمر: “جهاز قطر للاستثمار فيما يلي:

  • 9% في شركة النفط الروسية روسنفت.
  • 99% في مشروع قطار سانت بطرسبورغ الغربي العالي السرعة.
  • 25% في مطار بولكوفو في سانت بطرسبورغ.
  • 25% أخرى في مطار فنوكوفو في موسكو.

إضافة إلى بنك في تي بي (VTB) الحكومي، وسلسلتي التجزئة ماغنت (Magnit)، ولنتا (Lenta).

وأخيرًا، يتعاون جهاز قطر للاستثمار مع صندوق الاستثمار المباشر الروسي في مشروعات تصل قيمتها إلى نحو مليار دولار، مع دراسة مشروعات أكبر نطاقًا في المستقبل القريب.

وهكذا، أعاد الأمير تميم بن حمد العلاقات مع روسيا إلى سابق عهدها، بل يعتزم التوسع فيها على نحو أكبر، بعدما انتهى السبب الرئيس للخلاف، وقد أسفرت الزيارة عن توقيع اتفاقيات تعاون في مجالات متعددة، منها:

كيف أصبحت قطر قوة مؤثرة في صناعة الرأي العام العربي؟

تولى أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، والد الأمير تميم (الذي يشار إليه الآن بـ”الأمير الوالد”) إمارة البلاد في 27 يونيو (حزيران) 1995، بعدما عزل والده عن الحكم عبر عملية سلمية، دفعه إليها شعوره بالاستياء من الأوضاع التي آلت إليها البلاد، وعدم حصولها على المكانة التي يراها مستحقة وفق تصوره، عاقدًا العزم على تطوير قطر تطويرًا شاملًا، وتحويلها من بلد هامشي لا يكاد يُعرف خارج العالم العربي إلى قوة مرموقة ذات حضور عالمي.

في فبراير (شباط) 1996، تحركت بعض القوى داخل الجيش والحرس الأميري، لتنفيذ محاولة انقلابية، مدَّعين أنهم من أنصار الأمير المعزول، وهدفهم عودته إلى السلطة من جديد.

غير أن الشيخ حمد بن خليفة نجح  في مواجهة هذا الانقلاب وإفشاله، وادَّعى المسؤولون القطريون فيما بعد أن هذه المحاولة كانت مدعومة من قوى خارجية، وقد استُخدمت هذه السردية فيما بعد لتبرير سياسة قطر الإعلامية التي وصفتها كثير من الأنظمة العربية بـ”العدوانية”، في حين اعتبرت قطر أنها دُفعت دفعًا إلى هذه السياسة، عملًا بالمقولة الشهيرة “خير وسيلة للدفاع الهجوم”، وأنها رد على تلك الأنظمة التي ناصبتها العداء وبادرت به.

أدركت قطر ما لم يُدركه ربما منافسوها؛ أن الأيديولوجيا لا يمكن أن تموت فقط لأن نظامًا سياسيًّا ما أو أكثر قرر ذلك، وأن الشعوب العربية لا يمكنها أن تحيا بلا عقيدة فكرية، فلم يكن من باب المصادفة أن تظهر اليهودية ثم المسيحية ومن بعدهما الإسلام، وكتبهم المقدسة: التناخ، والإنجيل، والقرآن في هذه البقعة من الأرض دون غيرها.

على هذا الأساس تعاملت قطر مع الواقع بطريقة براغماتية، مستعينة بأكبر تيارين سياسيين أيديولوجيين لهما شعبية طاغية في مختلف أنحاء العالم العربي:

الأول: الفكر القومي العربي بمختلف تياراته، حيث استعانت بشخصيات فكرية رفيعة المستوى من حزب البعث العربي الاشتراكي (السوري والعراقي)، ممن رفضوا سياسات عائلة الأسد وصدام حسين، إلى جانب بعض الناصريين والقوميين العرب المستقلين، وأعادت تشكيلهم جميعًا وفق تصورات مركزية جديدة مختلفة عن شعارات الماضي، دون الخروج عن السياق العام. على سبيل المثال، بدلًا من “الوحدة العربية” الاندماجية تبنَّى هذا التجمع الجديد شعار “التضامن العربي”، وبدلًا من “الحرية” ذات المعنى المطاط، التي كانت تشير في الأساس إلى التحرر من الاستعمار، حل محلها شعار “الديمقراطية”، وأصبحوا يُعرفون أنفسهم بـ”العروبيين الديمقراطيين”، وبدلًا من “الاشتراكية” استخدموا شعار “العدالة الاجتماعية” في ظل نظام السوق.

الثاني: جماعات الإسلام السياسي، تلك الجماعات التي ترى أن الإسلام “دين ودولة”، ولا ينبغي فصل الدين عن العمل السياسي العام.

وقد مثلت جماعة الإخوان المسلمين (الجماعة المحظورة في روسيا) الثقل الأكبر في هذا الاتجاه؛ إذ وفرت قطر لأعضائها الملاذ الآمن، وفرص العمل في مختلف المجالات، ومنابر إعلامية للترويج لأفكارهم، وسبلًا للتواصل مع الجهات الغربية.

ركزت الدعاية التي توافقت عليها السياسة القطرية مع الإخوان في ذلك الوقت على الترويج لمصطلح “الديمقراطية”، وقد ساعد صعود حزب العدالة والتنمية في تركيا عام 2002، على الادعاء بأن جماعات الإسلام السياسي عامة، والإخوان على وجه الخصوص، يسعون إلى تكرار التجربة نفسها في العالم العربي، وهدفهم إقامة أنظمة قائمة على التداول السلمي للسلطة عبر آليات ديمقراطية.

وسبق هذه العملية إطلاق قطر قناة الجزيرة الفضائية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1996، التي مثلت التجربة الأولى والرائدة في إدخال برامج “التوك شو” السياسي إلى الإعلام العربي، وتبني خطاب جريء غير مسبوق، وهو ما جعلها القناة الأولى المفضلة لغالبية الشعوب العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.

وقد كان  المفكر الفلسطيني الأصل البروفيسور عزمي بشارة الوجه الأبرز في عملية تجديد الأيديولوجيا القومية العربية، حيث تولى بشارة عملية اختيار القيادات الفكرية القومية وجمعها من مختلف البلدان العربية، ودعاهم إلى الإقامة والعمل في الدوحة، وأعاد معها عملية إعادة البناء الأيديولوجي، وتقديمها في إطار جديد حداثي قائم على التضامن العربي، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، مع إبقاء القضية الفلسطينية في قلب الموضوع. لم يكتفِ بشارة بعملية التجديد، وتبني أقطاب الفكر القومي العربي لها؛ بل سعى إلى استقطاب شباب جدد لخلق تيار شبابي قومي مؤمن بهذه الأفكار الجديدة، وقادر على مخاطبة بقية الشباب العربي باللغة التي يفهمونها، ومأسسة هذا كله من خلال مركز بحثي كبير شكّل ما يشبه “الجامعة” لتخريج باحثين جدد، ونشرهم في بقية المراكز البحثية الإقليمية والدولية، وإكسابهم الخبرة من خلال العمل مع خبراء دوليين من خلفيات مختلفة. كما أنه قاد عملية المصالحة الفكرية مع أيديولوجية الإسلام السياسي، واعتبار الصراع التاريخي بين القوميين العرب والإسلاميين صراعًا على السلطة لا صراعًا فكريًّا أو أيديولوجيًّا، واستعان في هذه العملية بتراث المفكرين القوميين الأوائل الذين في أغلبيتهم من خلفية مسيحية، ولديهم تقدير كبير للإسلام، وأهميته الحضارية في الفكر القومي العربي، وحاول جمع كلا التيارين على المشتركات فيما بينهما، وعلى رأسها قضيتا الديمقراطية وتحرير فلسطين.

يعود الفضل في تجديد فكر الإسلام السياسي، وإعادة تقديمه على نحو يبدو حداثيًّا مقبولًا، إلى العالم الديني المصري يوسف القرضاوي، المقيم في قطر، والحاصل على جنسيتها منذ عام 1960، والمتوفي عام 2022. قدم القرضاوي تصورات جديدة عن ضرورة قبول “الآخر”؛ لأن ذلك جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية، ويعبر عن ممارسات السلطة السياسية الإسلامية عبر التاريخ، وأن الديمقراطية لا تتعارض مع الإسلام؛ بل تُعد تجديدًا لمبدأ إسلامي أصيل، حيث أمر الله في القرآن بضرورة “الشورى”، أي أن يتشاور الحاكم وصاحب السلطة مع النخبة وأبناء الشعب قبل اتخاذ القرارات المهمة.

روّج كثير من المفكرين الإسلاميين “التجديديين” -على غرار القرضاوي- لعدم وجود أي خلاف بين القومية العربية والإسلام، وقد استُعين بمؤلفات كثير من المفكرين الإسلاميين، وعلى رأسهم د. محمد عمارة، من خلال كتابه “الإسلام والعروبة”. وهكذا، جمعت قطر أكبر قوتين فكريتين في العالم العربي تحت مظلتها.

كل عربي -ولو لم يكن قوميًّا عربيًّا بالمفهوم الأيديولوجي- لديه ميل فطري وطبيعي للتضامن العربي، واعتبار كل من ينطق بالعربية في محيطه أخًا له، ورغم كل الخلافات والصراعات، سواء بين النظم السياسية، أو حتى بين الشعوب، يظل هذا الشعور العاطفي هو الطاغي على الجميع، حيث تمثل اللغة الواحدة العقل الجمعي الواحد، تمامًا كما هي الحال لدى الروسي والأوكراني والبيلاروسي، حيث توجد العاطفة بينهم بسبب روابط اللغة، والدين، والثقافة، والعادات والتقاليد، والشعور المشترك بأنهم جميعًا سلاف شرقيون، وربما الحنين إلى العودة إلى زمن الوحدة حينما كانت الأخويات السلافيات الثلاث تحت مظلة دولة واحدة، سواء أكانت هذه الدولة سوفيتية أم إمبراطورية. كذلك الإسلام يمثل عاطفة قوية لا يمكن القضاء عليها تحت أي ظرف من الظروف إلا بالقضاء على الإسلام نفسه، وبهذه الطريقة تمكنت قطر من امتلاك أكبر قوى فكرية عربية، ومعها بعض أقطاب “اليسار الجديد” الذي تم تدجينه وفق منتقديه، وتحويله إلى محامٍ تحت شعار “حقوقي” عن التيار الإسلامي، وحقه في العمل السياسي، ومركزية قضيتي الديمقراطية وفلسطين، تساند كل هؤلاء إمبراطورية إعلامية ممتدة، ومراكز بحثية متعددة، وهامش حرية واسع تمنحه قطر لكل هذه التيارات ومفكريها من خلال تحديد الهدف، وترك الوسائل لهم دون التدخل فيها، وإستراتيجية ممتدة طويلة الأمد للاستثمار في هذه المشروعات، في حين تمتع منافسوها بسياسات “النفس القصير”. وبهذا الشكل كانت قادرة على التأثير في مجرى أحداث الشارع العربي، ووضع النظم السياسية العربية الأخرى تحت ضغط كبير، وقد ظهر ذلك بوضوح في أحداث ما يسمى “الربيع العربي”، وهو ما أدى إلى نشوء عدة خلافات بين قطر وأنظمة عربية، وصلت إلى ذروتها في أزمة مقاطعة قطر في الفترة من 2017 إلى 2021.

قطر والسياسات الهجينة

تتمتع قطر بعلاقات إستراتيجية مع الولايات المتحدة، وقد صنفها بايدن في مارس (آذار) 2022 “حليفًا رئيسًا للولايات المتحدة من خارج الناتو” في ظل وجود قاعدتين أمريكيتين كبيرتين على أراضيها (العديد والسيلية). مع ذلك، تسعى إلى عقد علاقات قوية في جميع المجالات مع روسيا والصين، ولديها تحالف مع تركيا وصل إلى ذروته بافتتاح قاعدة الريان، وهي قاعدة عسكرية تركية على الأراضي القطرية، لتعود تركيا -لأول مرة- إلى منطقة الخليج العربي من البوابة القطرية بعد خروجها عام 1918.

كانت قطر أول دولة في الخليج العربي تقيم علاقات علنية مع إسرائيل، والعاصمة الخليجية الأولى التي يُستقبَل فيها مسؤولون إسرائيليون علنًا، وكانت قناة الجزيرة -المملوكة لها- هي الفضائية العربية الأولى التي كسرت الحظر المفروض على ظهور شخصيات سياسية وعسكرية إسرائيلية لتخاطب الرأي العام العربي. في المقابل، تستضيف قيادات حركة حماس، والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين على أراضيها، وتقدم لهما دعمًا ماليًّا وإعلاميًّا واسعًا.

قطر عضو في مجلس التعاون الخليجي، الذي دخل مرحلة طويلة من التوترات مع إيران، لكنها حافظت في الوقت نفسه على علاقات قوية مع الجانب الإيراني، وتعاونت معه في عدة مجالات، منها حقل غاز الشمال، أو حقل فارس الجنوبي، الذي يتقاسمه كلا البلدين.

تدعم قطر جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك كانت المنبر الإعلامي الرئيس لتنظيم القاعدة الإرهابي، وعبر فضائية “الجزيرة” كان أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، وغيرهما من قادة التنظيم، ينقلون رسائلهم إلى العالم الخارجي. كما فتحت مكتب لحركة طالبان الأفغانية، وكانت توفر منبرًا لزعماء الحركات الإرهابية في شمال القوقاز، مثل خطاب، وأبي الوليد الغامدي، وشامل باساييف، واستضافت على أراضيها سليم خان يندرباييف.

يجتمع في الدوحة مفكرون من جميع التيارات الفكرية العربية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وما بينهما من ألوان مختلفة. ورغم ما يبدو تناقضًا في علاقات قطر الإقليمية والدولية، واحتضانها تيارات فكرية مختلفة، وإن كانت الأفضلية تمنح دائمًا للتيار الإسلامي، خاصةً المنتمين إلى الإخوان المسلمين، فإنها تمكنت من الحفاظ على صورتها الإعلامية عبر هذه الشبكة من التحالفات الهجينة، وربط مصالح أقطاب هذه التيارات الفكرية المختلفة معها، إلى جانب ما لديها من شبكة إعلامية واسعة تخاطب جميع الفئات، وعبر منصات متنوعة، ولا سيما الإعلام البديل في مواقع التواصل الاجتماعي، و”البودكاست” مع هامش من الحرية يُسمح به للاستفادة من قدرات كل هذه الأطراف، غير أن هذه الحرية في النهاية مقيدة، ومرتبطة -كما سلف- بالوسائل لا بالأهداف النهائية التي يلتزم الجميع فيها بسياسات الدوحة.

تقدم قطر نفسها من خلال هذه السياسة على أنها مفيدة لجميع الأطراف، وتستطيع أن تقدم ما لا يمكن لغيرها تقديمه؛ وذلك لعدم وجود رأي عام شعبي يمكن الخشية منه على استقرار النظام كما هي الحال في البلدان العربية الكبرى، إلى جانب ما توفره من مستوى معيشي مرتفع جدًّا لمواطنيها الذين يحتفظون بمشاعر ولاء وامتنان عميقين للقيادة القطرية، وعدم وجود عمق تاريخي قد يُشكل -في بعض الأحيان- عبئًا على صانع السياسة الخارجية؛ ولذلك لديها ما يميزها من الخفة والقدرة على الحركة السريعة عن غيرها.

على سبيل المثال، تسوق قطر علاقاتها مع إسرائيل لحلفائها الإسلاميين على أنها ضرورة تستخدم من خلالها هذه العلاقات لتخفيف آثار الحصار على قطاع غزة، وتقديم الدعم المالي لحكومة حماس التي كانت مسيطرة على القطاع قبل أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، كما أنها من خلال هذه العلاقات تحافظ على تمثيل صوت الإسلاميين في أي مفاوضات مع إسرائيل حتى لا ينفرد خصومهم فقط بالتفاوض مع إسرائيل، وهكذا تروج لهذه العلاقة وخلفها ماكينة إعلامية ضخمة، ونشطاء ومستفيدون، وبعضهم مؤمنون بهذه السردية فعلًا؛ لذا لا تتعرض للهجوم لعلاقاتها وتنسيقها مع إسرائيل كما تتعرض دول عربية أخرى لو فعلت مثلما تفعل. في المقابل، تقدم نفسها لإسرائيل على أنها قادرة على كبح روح التطرف داخل الحركات الإسلامية الفلسطينية، وضمان الهدوء معها، وأنها تشكل قناة خلفية لإسرائيل للتوصل إلى تفاهمات واتفاقيات، كما تبرر خطابها الإعلامي الذي يبدو معاديًا لإسرائيل بأنها تمتص من خلاله حالة الغضب العربي، وتفرّغه عبر تغطية إعلامية صاخبة، ونقاشات تسودها الحماسة وصولًا إلى حد الصراخ والتشابك بالأيدي، وأنها بهذه الطريقة تحتوي الغضب العربي؛ لأن الشعوب العربية عاطفية في غالبيتها، وبحاجة فقط إلى خطاب حماسي مرتفع يفرغ طاقة الغضب الكامنة في صدورها، التي لو لم تفرغ ستؤدي إلى أفعال عملية على الأرض تلحق الأذى بإسرائيل، وعلى هذا الأساس تغض الأخيرة الطرف عن سياسات قطر الإعلامية.

روجت قطر لعلاقاتها مع التيارات الجهادية بأنها مفيدة للولايات المتحدة؛ فمن جانب تؤدي قطر دور القناة الخلفية لنقل رسائل بين الجانبين حيث لا يمكن لواشنطن القيام بهذه المهمة، ومن ناحية أخرى توفر لهم نافذة إعلامية لمنع هذه التيارات من السعي إلى خلق منافذ إعلامية خاصة بها وغير متحكم فيها، وإذا أرادت واشنطن التفاوض مع هذه التيارات فيمكن لقطر أن توفر منصة للتفاوض، وهو ما حدث بالفعل مع حركة طالبان قبيل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.

تبرر قطر لقاعدتها من الجماعات الإسلامية وجمهورهم وجود قواعد عسكرية أمريكية بأنه لا يتعارض مع الإسلام، ولا يعد خيانة له كما تروج هذه الجماعات ضد بقية الدول العربية الأخرى التي تستضيف قواعد عسكرية أجنبية، وذلك من خلال الادعاء بأن قطر هي الدولة العربية “الوحيدة” التي تسخر إمكاناتها وقدراتها المالية في “خدمة” الإسلام وقضايا المسلمين، وهو ما يؤدي إلى استعداء جيرانها؛ ومن ثم فهي بحاجة إلى حماية أجنبية لتظل تمارس دورها في تقوية المسلمين؛ ومن ثم فإنه بعد امتلاك القوة الكافية يمكنها الاستغناء عن تلك القواعد الأمريكية، ولتأكيد هذه النظرية افتتحت قاعدة عسكرية تركية.

أخيرًا، فيما يخص علاقات قطر الخارجية، فإنها تسعى -أولًا وقبل كل شيءـ إلى حماية نفسها، وضمان بقائها مستقلة ذات سيادة كاملة على أرضها، وفي سياساتها. ومع الانهيار السريع الذي حدث للنظم العربية الجمهورية في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، ثم اشتعال الثورة السورية، رأت أن لديها فرصة تاريخية لتحقيق ما هو أكبر من الحماية من خلال خلق نفوذ لها بالمنطقة، وهو ما أدى إلى دخولها في حالة من الصراع شبيهة بحالة “الحرب العربية الباردة” في الفترة من عام 1956 إلى عام 1970، التي وصلت إلى ذروتها في عام 2017، حتى نهايتها من خلال وساطة كويتية، وصدور “بيان العلا” في  يناير (كانون الثاني) 2021. أدركت قطر من خلال هذه الأزمة أن الجغرافيا لا يمكن تحديها، ولو بدا ذلك الأمر ممكنًا بعض الوقت. في المقابل، أيقن معارضوها أن عودة قطر إلى ما كانت عليه عشية يوم 27 يونيو (حزيران) 1995، يبدو غير ممكن، إن لم يكن مستحيلًا، وعلى هذا الأساس حدثت التسوية التي نالت من خلالها قطر الاعتراف باستقلاليتها الكاملة، وحقها في ممارسة سياستها الخاصة، والإقرار بنفوذها في بعض البلدان بالمنطقة، دون أن تستحوذ تمامًا على هذا النفوذ، وأن تلتزم بخط سياسي وإعلامي غير استفزازي، أو قائم على التحريض، ومنذ تلك اللحظة حتى الآن، تخطو العلاقات القطرية مع السعودية، والإمارات، ومصر، والبحرين بخطى ثابتة نحو التعاون في مجالات عدة.

لا يوجد ضمانة لعدم عودة قطر إلى سياساتها السابقة إذا حدث ضعف، أو هزات، أو هبات شعبية في البلدان العربية؛ لأن طبيعة السياسة تكره الفراغ، وتعتمد على استغلال الفرص، وهو ما يعود إلى قوة الجبهة الداخلية في البلدان العربية أولًا، وقد بدا أن قطر استوعبت التجربة، وقد ظهر ذلك من خلال التعامل على نحو مختلف بعد سقوط النظام السوري.

لماذا قطر مهمة لروسيا؟

بناءً على ما سبق، تمتلك قطر ماكينة إعلامية قوية، وقادرة على التأثير في الرأي العام العربي، وقد أسهمت كثيرًا عبر حلفائها في تشويه صورة روسيا، والترويج لوجود “عداء” روسي للإسلام والمسلمين من خلال “قصف المدنيين” في سوريا وفق الزعم، وإعادة قراءة الحدث التاريخي بما يخدم هذه السردية. على سبيل المثال، الادعاء بأن ما تسمى “المجازر” التي ارتكبها الصرب ضد مسلمي البوسنة وكوسوفو، كانت مدعومة من موسكو، إلى جانب استدعاء أحداث تاريخية للصراعات الروسية العثمانية، والحروب الروسية في القوقاز. كما أن قناة الجزيرة القطرية كانت المنبر الدعائي الأول المروج لدعايات الانفصاليين الشيشان في الحربين الأولى والثانية، وشيطنة رمضان قديروف، واعتباره “خائنًا” للمسلمين.

منذ تولي الأمير تميم السلطة عام 2013، تراجعت هذه الدعاية وصولًا إلى عدم وجودها، ومع التطور الأخير في العلاقات بين البلدين يمكن للدعاية القطرية أن تعيد تقديم الصورة الحقيقية لروسيا، وما يتمتع به المسلمون من أجواء حرية لا مثيل لها، وفي تعزيز أجواء الوحدة الداخلية الروسية، وقد أكد الرئيس الشيشاني رمضان قديروف انعكاس هذه الزيارة إيجابًا على جمهورية الشيشان، كما أشاد بالسياسة القطرية، وقيادة الأمير تميم، ومكانة قطر في السياسة الروسية. كذلك يضطلع مدير مكتب قناة “العربي” القطرية في موسكو، سعد خلف، بدور مهم في نقل الصورة الصحيحة للأحداث في أوكرانيا، ونقل وجهات النظر الروسية.

قطر من كبار منتجي الغاز الطبيعي، ولديها تقنية هي الأحدث عالميًّا في إسالة الغاز، وأسطول نقل ضخم، وقد سبق أن تحدث السفير الروسي السابق فلاديمير تيتورينكو، في حوار له مع قناة (RT) العربية، أن موسكو والدوحة “اتفقتا منذ عام 2007 على عدم تعدي أي طرف على الآخر في أسواق صادرات الغاز التقليدية الخاصة به”، وقد التزمت الدوحة بهذا التفاهم غير المكتوب حتى في ظل الخلاف الحاد بين البلدين. وبعد العملية العسكرية الخاصة، سعت ألمانيا إلى الحصول على إمدادات سريعة من الغاز المسال من قطر، لكن الأخيرة تلكأت وفرضت شروطًا صعبة على الجانب الألماني في الكمية، ومدة العقد، حيث أصرت على ألا يقل عن 15 سنة، وأن يبدأ التوريد في عام 2026، وإجمالي الصفقة لا يشكل سوى أقل من 3% من احتياجات ألمانيا، وإذا تمت الصفقة فلن تؤثر على روسيا؛ بل على العكس من ذلك، فإنها ستعطل الأجندة الألمانية الخاصة بالتحول نحو الطاقة البديلة، كما أن قطر هددت الاتحاد الأوروبي بأنها ستوقف شحن الغاز إذا فرضت دولة الأعضاء قانونًا جديدًا يتعلق بالعمالة والضرر البيئي، وهو ما يتوافق مع السياسة الروسية في رفض وضع إملاءات على الدول المنتجة للطاقة. كذلك روسيا وقطر أعضاء مؤسسون لمنتدى الدول المصدرة للغاز (GECF)، الذي يمكن أن تُنسَّق من خلاله جهود منتجي الغاز بما يخدم المنتجين والمستهلكين، على غرار التفاهم السعودي الروسي عبر صيغة أوبك (بلس).

سوريا تمثل قيمة جيوسياسية مهمة لروسيا، حيث توجد فيها القاعدة البحرية الوحيدة لروسيا في البحر الأبيض المتوسط، التي تمكن أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول من الإبحار بحرية في المتوسط، وخلق توازن مع الأسطول الأمريكي السادس. كما أن روسيا لديها قاعدة حميميم الجوية، واستثمرت كثيرًا في هذا البلد دون أن تحصل على عائد. تملك قطر علاقات تحالف قوية مع السلطة الحالية في سوريا وحلفائها، وقد كانت محورًا مهمًّا في مفاوضات الرئيس بوتين مع الأمير تميم، ويمكن أن تسهم قطر في ظل عدم وجود أفق لرفع العقوبات الغربية عن سوريا، وما تتعرض له إدارة الرئيس أحمد الشرع من ضغوط، واحتلال إسرائيل أراضي إضافية داخل سوريا، بصنع تفاهم يؤدي إلى شكل جديد للعلاقات الروسية السورية يحافظ على مكتسبات روسيا الجيوسياسية، ويؤدي إلى فوائد اقتصادية.

العلاقات القطرية القوية مع التنظيمات الإسلامية، وقدرتها على التأثير أو فتح قنوات اتصال مع الحركات المسلحة المنتشرة في أفغانستان وآسيا الوسطى، مع إقامة كثير من قادة هذه الجماعات في الدوحة، يمكن أن تسهم من خلال التفاهم الروسي القطري في صنع الهدوء بالمنطقة، والتوصل إلى تسويات، لا سيما أن قطر شريك حوار منذ عام 2022 في منظمة شانغهاي للتعاون (SCO)، وقد يكون من المفيد دفع روسيا إلى انخراط قطر على نحو أكبر في جهود المنظمة لمكافحة الإرهاب والتطرف.

الخاتمة

تشكل قطر فرصة مميزة لروسيا في مجال الاستثمارات، لا سيما في قطاع الطاقة، وصنع قناة خلفية لبعض الشركات الغربية التي تحتاج روسيا إلى تقنياتها في هذا المجال، وخلق تكامل بين البلدين، وتشبيك للمصالح يشكل ربما ضمانة لعدم تدهور العلاقات تحت أي ظرف في المستقبل، حيث تمثل قطر أهمية خاصة لروسيا على المستويين الجيوسياسي والجيواقتصادي، كما أنه يمكنها أن تسهم في أمن دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، وانعكاسه على الأمن الداخلي لروسيا. العلاقات الروسية القوية مع قطر مهمة لروسيا، وتشكل كبحًا لأي محاولات غربية لاستغلال ما لدى قطر من قدرات تأثير لتوجيهه ضد روسيا، والسياسة القطرية الحالية ترى أن ما يجمعها مع روسيا أكثر مما يفرقها، لكن مجددًا، تدعيم هذا الوضع بعلاقات شراكة اقتصادية قوية قد يشكل ضمانة لاستمرار هذه العلاقات المهمة لكلا الجانبين وتطورها.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع