يقول المثل: “إذا وجد يهوديان، فهناك ثلاثة آراء”. لقد أدت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى توسيع الفجوة بين الصهاينة والمدافعين عقَدَيًّا عن إسرائيل من ناحية، واليهود المتدينين والعلمانيين الذين يرفضون الصهيونية وفكرة إقامة دولة منفصلة لليهود من ناحية أخرى، لكنَّ هناك كثيرًا من اليهود في المنتصف يراوحون مكانهم بين الطرفين. وعلى الرغم من انتقادهم سياسات إسرائيل، فإنهم- في الغالب- لم يشككوا في “حق إسرائيل في الوجود”.
إدراكًا منها لهذه الحقيقة، استخدمت الحكومة الإسرائيلية عبارة “الخطر الوجودي الذي يتهدد بقاء إسرائيل”؛ لحشد أكبر عدد من اليهود إلى جانبها، وهي صيغة غريبة ومخادعة، إذ لا توجد دولة واحدة تدعو إلى القضاء على إسرائيل. وحتى إيران، التي ربما تكون الخصم الأكثر شراسة لإسرائيل، لا تطالب إلا برفض أيديولوجيتها الصهيونية، التي ترتكز عليها في تمييزها القانوني ضد الفلسطينيين، حيث يعيش أكثر من 14 مليون شخص تحت السيطرة الإسرائيلية بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن: “7 ملايين مواطن يهودي مقابل مليونين من فلسطيني 48، ونحو 5 ملايين فلسطيني في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967”.
يعيش معظم يهود العالم في ديمقراطيات ليبرالية. ومع ذلك، يجد كثير منهم أيضًا صعوبة في تصور أن إسرائيل قادرة على تغيير بنيتها السياسية، على سبيل المثال، كما فعلت جنوب إفريقيا قبل عدة عقود، حيث توفر حقوقًا متساوية لجميع مواطنيها، ومنهم أولئك الذين وُضِعُوا ذات يوم في “البانتوستانات”، وهي نوع من الغيتو اختُرِعَ لإدامة الفصل العنصري.
لقد وصف كثير من المراقبين غزة منذ فترة طويلة بأنها أكبر سجن مفتوح في العالم. لقد أظهر الهجوم الوحشي الذي وقع في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، مدى الكراهية التي تم تغذيتها عبر عقود نتيجة الوضع اليائس للفلسطينيين في غزة، المحاصرين من جميع الجهات، في حين أدت الأعمال الإسرائيلية التي أثارها هذا الهجوم إلى مقتل آلاف الأشخاص، معظمهم من النساء والأطفال. في شهر ونصف، أُسقِطَ أكثر من 25 ألف طن من المتفجرات على واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان في العالم (أي ما يعادل القنبلتين الذريتين اللتين دمرتا هيروشيما وناجازاكي عام 1945). وقد تسببت الحرب الإسرائيلية في خروج آلاف الاحتجاجات حول العالم، يقوم اليهود والمنظمات العامة اليهودية في كثير منها بدور نشط غير مسبوق. على سبيل المثال، بعد وقت قصير من بدء الهجوم الإسرائيلي على غزة، أغلق مئات المتظاهرين اليهود من منظمة “ليس باسمنا” محطة غراند سنترال في نيويورك، مطالبين بوقف فوري لإطلاق النار. وقبل ذلك بأسبوع، اعتصم يهود ملتحفون بالطَلِيْس (ثوب الصلاة اليهودي) أمام مبنى الكونغرس الأمريكي في واشنطن؛ للدعوة إلى وضع حد للعنف، حيث فتحوا كتب الصلاة، وبدؤوا بقراءة نصوص من التناخ (الكتاب المقدس اليهودي) لتذكير ساسة إسرائيل بالأوقات الصعبة التي عاشها اليهود. وعند سفح تمثال الحرية في نيويورك، رفع اليهود لافتات كتب عليها: “يجب أن يكون الفلسطينيون أحرارًا”.
كما يشارك الحريديم، وهم من اليهود الأرثوذكس (اليهود الملتزمون بالشريعة اليهودية التقليدية)، الذين رفضوا الصهيونية منذ فترة طويلة، في مظاهرات لدعم الفلسطينيين. هؤلاء الأشخاص المتدينون بشدة، المؤمنون بأن مصطلح “أرض الميعاد” الوارد في التناخ اليهودي مجرد كلام مجازي، يعتبرون أنه من التجديف (مصطلح يعني الخروج من اليهودية) أن تستخدم إسرائيل الدين والتناخ أداةً سياسية لإضفاء الشرعية على الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين. بالإضافة إلى ذلك، فإنهم يرون في الصهيونية السبب الجذري للصراع الدموي الذي يعانيه اليهود والفلسطينيون الأبرياء.
إن إسرائيل مبنية على الأيديولوجيا الصهيونية، وهي نوع من القومية العرقية الأوروبية. منذ البداية، احتقر الصهاينة اليهود التقليديين واليهودية، وسعوا إلى خلق مجتمع وشخصية يهودية جديدة، ومنها ذلك المحارب اليهودي الذي لا يعرف الخوف. يمكن ملاحظة ذلك بوضوح في شكل إسرائيل الحالي (مجتمع معبأ عسكريًّا، وجيش ضخم ذو تكنولوجيا عالية).
في عصر ولادة الصهيونية، في مطلع القرنين التاسع عشر والعشرين، لم يكن الاستعمار شيئًا بغيضًا، بل كان هو القاعدة في العالم الغربي. أحد أكبر البنوك في إسرائيل (لئومي)، كان يسمى ذات يوم الصندوق الاستعماري اليهودي، لكن هذه الظاهرة التي تجلت في روديسيا والجزائر، أصبحت اليوم شيئًا من الماضي. حُرِّرَت جنوب إفريقيا من الفصل العنصري الرسمي، في حين ضمن المستوطنون الأوروبيون في أمريكا وأوقيانوسيا نجاح خططهم الاستعمارية من خلال إبادة السكان المحليين فعليًّا في القرن التاسع عشر.
لم تبدأ إسرائيل التطهير العرقي الشامل إلا عام 1947، عندما استشعرت أن الحركة المناهضة للاستعمار تكتسب زخمًا بالفعل. كان المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، من أوائل الذين وثقوا التطهير العرقي الصهيوني، وأعرب فيما بعد عن “أسفه” لأن الصهاينة “لم يكملوا المهمة مثل الأمريكيين البيض، أو الأرجنتينيين، أو الأستراليين الذين تخلصوا من معظم السكان المحليين”. والنتيجة- كما قلنا سابقًا- هي أن هناك اليوم أعدادًا متساوية تقريبًا من الفلسطينيين واليهود الذين يعيشون في الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، لكن غالبية الفلسطينيين محرومون من الحقوق السياسية.
فيما يتعلق بكثير من اليهود، كانت التناقضات واضحة منذ فترة طويلة بين يهوديتهم، مع تركيزها على التواضع والرحمة والإحسان، والأيديولوجيا الصهيونية. في هذه الأثناء، كانت هناك حركة يهودية جديدة نسبيًّا، وهي اليهودية القومية، أو “داتي لئومي” بالعبرية، التي نشأت في البداية بوصفها منظمة محبة للسلام في فيلنيوس (عاصمة ليتوانيا) عام 1902، تقدم الرعاية الاجتماعية والاحتياجات الدينية لليهود في فلسطين. عندما نشأت دولة إسرائيل، ونتيجة لما بدا أنه نصر للمشروع الصهيوني العلماني بعد حرب الخامس من يونيو (حزيران) 1967، تبدلت أفكارها وأهدافها. ومن خلال إعطاء الصهيونية معنى دينيًّا، عملت على تربية الشباب للاستيطان بشكل نشط في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967. ويمكن القول إن أتباع اليهودية القومية اليوم- مع أنهم لا يشكلون سوى نحو 10% من الأغلبية اليهودية في إسرائيل- هم طليعة المجتمع الإسرائيلي.
من أعماق اليهودية القومية، جاء كثير من الشخصيات الإرهابية ذات الأفكار الفاشية، ومنهم أعضاء بارزون في الحكومة الإسرائيلية الحالية، حتى إن بعضهم أدانته المحاكم الإسرائيلية بالإرهاب، كما ينتمي إليهم إيجال عامير، قاتل رئيس الوزراء إسحاق رابين، الذي قرر التسوية مع الفلسطينيين، والإرهابي باروخ غولدشتاين، الذي قاد مذبحة المسجد الإبراهيمي عام 1994.
اليهودية القومية هي أيديولوجية المستوطنين الأكثر تطرفًا في الضفة الغربية، الذين كثفوا عمليات تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، وحتى قتلهم منذ اندلاع الحرب على غزة. ويكمل هؤلاء المسلحون الذين يحملون بنادق آلية بكل فخر ما يفعله الجيش الإسرائيلي في غزة بالدبابات، والقنابل، والصواريخ.
ولذلك، يتساءل كثير من اليهود حول العالم اليوم: هل هذه الدائرة المزمنة من العنف مفيدة لليهود؟
لقد كان القصف الضخم على غزة مفاجأة لليهود الذين اختاروا- عقودًا من الزمن- تجاهل ما يحدث للفلسطينيين من طرد واضطهاد. لدى كثير من اليهود خارج إسرائيل مشاعر متضاربة، وبسبب الرعب الذي أصابهم من هجوم حماس على إسرائيل، ورد فعل إسرائيل القاسي، شهدوا زيادة حادة في المشاعر المعادية لليهود والعنف المعادي للسامية. وتشكل الهجمات الأخيرة على اليهود والمؤسسات اليهودية من محج قلعة إلى لندن ومونتريال مثالًا مزعجًا لذلك.
في المقابل، يُستهدَف المسلمون أيضًا، كما يتضح من جريمة القتل المأساوية التي وقعت مؤخرًا في الولايات المتحدة لصبي فلسطيني يبلغ من العمر ستة أعوام.
عندما تدعي إسرائيل أنها دولة كل يهود العالم، فإنها تجعلهم رهائن لسياساتها وأفعالها. ومن بين اليهود هناك من يؤيد إسرائيل دون قيد أو شرط، وهناك من يدينها، لكن لا هذا ولا ذاك يؤثر- بأي شكل من الأشكال- في تصرفات إسرائيل. إنهم مثل المشجعين الذين يتابعون التطورات من على المدرجات. إن مهاجمة اليهود بسبب تصرفات الجيش الإسرائيلي لا تشكل تعبيرًا عن معاداة السامية فحسب؛ بل إنها تشكل أيضًا دعمًا قويًّا للمبدأ الأساسي للصهيونية، وهو “أن اليهود لا يستطيعون أن يعيشوا بأمان إلا في إسرائيل”.
إن الاحتجاجات الحاشدة حول العالم دعمًا للفلسطينيين لا تقلل من شدة الانتقام الإسرائيلي في غزة، أو توقف توريد الأسلحة الأمريكية لمواصلة ذلك، وهي أوضاع تدعو إلى اليأس، لكن التقليد اليهودي يدعو إلى المثابرة حتى في الظروف التي تبدو ميئوسًا منها، وفق المبدأ القائل: “لا يعني عدم ضمان النجاح في مهمةٍ ما التخلي عن القيام بها”.
ولهذا السبب يواصل اليهود الاحتجاج ضد الإجراءات الإسرائيلية في غزة. وتحررهم هذه الاحتجاجات من قبضة إسرائيل العاطفية، وينطبق هذا على جميع الطوائف اليهودية من الأشكناز، والسفارديم، ومن المتدينين بشدة إلى الأكثر ليبرالية. وهكذا، اتفق مؤخرًا أحد منتقدي إسرائيل المتشددين، الذي عادة ما يكون معاديًا لليهودية الإصلاحية، مع حاخام إصلاحي قائلًا: “عندما لا يتحدث اليهود المؤيدون لإسرائيل في الخارج علنًا ضد السياسات الكارثية الإسرائيلية، ولا يسعون إلى خلق مناخ ملائم للبحث عن العدالة والسلام مع الفلسطينيين، فإنهم بتصرفهم هذا يخونون المبادئ القديمة لليهودية”.
هناك عقيدة عسكرية إسرائيلية تحمل اسم شمشون التوراتي، الذي دفع أعمدة المعبد جانبًا، وهدم السقف، وقتل نفسه وآلاف الفلسطينيين الذين أسروه، وهم يصرخون: “لِتَمُتْ نَفْسِي مَعَ الفِلِسْطِينِيِّينَ!” (سفر القضاة 16: 30). ووفقًا لهذه الإستراتيجية، فمن الممكن استخدام الترسانة النووية الإسرائيلية إذا كانت البلاد تواجه تهديدًا وجوديًّا لا يمكن التغلب عليه. لا أحد يعرف- على وجه اليقين- أيًّا من التهديدات يمكن اعتباره تهديدًا وجوديًّا: “هل هو فقط القضاء على اليهود، أم- على سبيل المثال- الضغط الدولي غير المسبوق لوضع حد للعدوانية الصهيونية تجاه الفلسطينيين؟”. في اعتقاد كثير من الإسرائيليين، حتى المساواة بين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل تشكل بالفعل تهديدًا. ماذا سيحدث لو أصبح جميع الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي مواطنين؟
على الرغم من كل ما سبق، هناك أمل. لقد اضطهدت إنجلترا أيرلندا عدة قرون. كانت هناك حرب بين فرنسا وألمانيا استمرت عدة قرون. ما الذي يجب فعله لكي يعيش الإسرائيليون والفلسطينيون بسلام؟ إن كثيرًا من اليهود، بل إن مزيدًا من الفلسطينيين، مقتنعون بضرورة التخلص من النظام الصهيوني الشبيه بالفصل العنصري، الذي اعتمد على القوة منذ نشأته. وهم يعتقدون أن حلقة العنف المفرغة لن تنتهي إلا عندما يحصل جميع سكان الأراضي المقدسة على حقوق متساوية، ويصبحون جزءًا من تسوية سياسية مستقبلية (دولة واحدة، أو دولتان، أو أي شيء آخر). وهذا الأمل هو الذي يلهم اليهود الذين يحتجون على الحرب التي تُشن باسمهم ظاهريًّا في غزة.
المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.
